وزير التعليم يشارك في مناقشة رسالة دكتوراه بجامعة طنطا    الدكتور خالد عامر نقيباً لأطباء أسنان الشرقية    محافظ كفرالشيخ يوجه بالتصدي لجميع المخالفات والتعديات على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة    صندوق النقد الدولي: تدفقات نقدية بنحو 600 مليون دولار لمصر من الطروحات الحكومية في الربع الأخير من 2023-2024    توريد 14 ألف طن قمح لشون وصوامع بني سويف حتى الآن    هيئة البث الإسرائيلية: أغلبية وزراء حكومة نتنياهو تؤيد بنود صفقة جديدة اقترحتها مصر    مصر تواصل أعمال الجسر الجوي لإسقاط المساعدات بشمال غزة    هاري كين يقود هجوم بايرن ميونخ أمام آينتراخت فرانكفورت    نجما جنوب أفريقيا على أعتاب نادي الزمالك خلال الانتقالات الصيفية    بالصور| "خليه يعفن".. غلق سوق أسماك بورفؤاد ببورسعيد بنسبة 100%    وزير التعليم ومحافظ الغربية يفتتحان معرض مخرجات ونواتج التعلم    ال دارك ويب أداة قتل طفل شبرا الخيمة.. أكبر سوق إجرامي يستهدف المراهقين    النقض: إعدام شخصين والمؤبد ل4 آخرين بقضية «اللجان النوعية في المنوفية»    بعد 24 عاما على إصدارها.. مجلة rollingstone الأمريكية: "تملي معاك" ل عمرو دياب أفضل أغنية بالقرن ال21    ما حكم الحج عن الغير تبرعًا؟ .. الإفتاء تجيب    قافلة طبية مجانية لمدة يومين في مركز يوسف الصديق بالفيوم    بيريرا يكشف حقيقة رفع قضية ضد حكم دولي في المحكمة الرياضية    مكتبة مصر العامة بالأقصر تحتفل بالذكرى ال42 لتحرير سيناء.. صور    الإمارات تستقبل دفعة جديدة من الأطفال الفلسطينيين الجرحى ومرضى السرطان    جامعة القاهرة تناقش دور الملكية الفكرية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة    وزير التعليم ومحافظ الغربية يفتتحان معرضًا لمنتجات طلاب المدارس الفنية    غدًا.. قطع المياه عن قريتين ببني سويف لاستكمال مشروعات حياة كريمة    وزيرة التضامن: فخورة بتقديم برنامج سينما المكفوفين بمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    علي الطيب يكشف تفاصيل دوره في مسلسل «مليحة»| فيديو    رئيس جامعة جنوب الوادي: لا خسائر بالجامعة بسبب سوء الأحوال الجوية وتعطيل العمل غدًا    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    قائمة باريس سان جيرمان لمباراة لوهافر بالدوري الفرنسي    الصحة: فرق الحوكمة نفذت 346 مرور على مراكز الرعاية الأولية لمتابعة صرف الألبان وتفعيل الملف العائلي    كرة اليد، موعد مباراة الزمالك والترجي في نهائي بطولة أفريقيا    «شريف ضد رونالدو».. موعد مباراة الخليج والنصر في الدوري السعودي والقنوات الناقلة    السيسي يتفقد الأكاديمية العسكرية بالعاصمة الإدارية ويجري حوارًا مع الطلبة (صور)    وزير الري يشارك فى فعاليات "مؤتمر بغداد الدولى الرابع للمياه"    هيئة شئون الأسرى الفلسطينيين: الوضع في سجون الاحتلال كارثي ومأساوي    وسط اعتقال أكثر من 550.. الاحتجاجات الطلابية المناهضة لإسرائيل بالجامعات الأمريكية ترفض التراجع    سياحة أسوان: استقرار الملاحة النيلية وبرامج الزيارات بعد العاصفة الحمراء | خاص    تحرير 134 محضرا وضبط دقيق بلدي قبل بيعه بالسوق السوداء في المنوفية    قوافل بالمحافظات.. استخراج 6964 بطاقة رقم قومي و17 ألف "مصدر مميكن"    استمرار حبس عاطلين وسيدة لحيازتهم 6 كيلو من مخدر البودر في بولاق الدكرور    مستشار الرئيس الفلسطيني: عواقب اجتياح رفح الفلسطينية ستكون كارثية    بدء أعمال المؤتمر السادس لرؤساء البرلمانات والمجالس النيابية العربية    أبو الغيط: الإبادة في غزة ألقت عبئًا ثقيلًا على أوضاع العمال هناك    بسبب البث المباشر.. ميار الببلاوي تتصدر التريند    وزيرة التضامن توجه تحية لمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير بسبب برنامج المكفوفين    خبيرة: يوم رائع لمواليد الأبراج النارية    الليلة.. أحمد سعد يحيي حفلا غنائيا في كندا    الدلتا للسكر تناشد المزارعين بعدم حصاد البنجر دون إخطارها    «السياحة»: زيادة رحلات الطيران الوافدة ومد برنامج التحفيز حتى 29 أكتوبر    «بيت الزكاة» يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة ضمن حملة إغاثة غزة    متصلة تشكو من زوجها بسبب الكتب الخارجية.. وداعية يرد    رئيس جهاز العاصمة الإدارية يجتمع بممثلي الشركات المنفذة لحي جاردن سيتي الجديدة    محافظة القاهرة تكثف حملات إزالة الإشغالات والتعديات على حرم الطريق    طلب إحاطة يحذر من تزايد معدلات الولادة القيصرية    أفضل دعاء تبدأ وتختم به يومك.. واظب عليه    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي    خبير أوبئة: مصر خالية من «شلل الأطفال» ببرامج تطعيمات مستمرة    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    "كنت ببعتله تحياتي".. كولر يكشف سر الورقة التي أعطاها ل رامي ربيعة أثناء مباراة مازيمبي    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كفاح المقريزى.. الصراع على المناصب
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 16 - 03 - 2024

أسَّس العلماء والمتعلمون القادمون من كل حدب وصوب مع أولئك الذين وُلِدُوا وتعلَّموا فى القاهرة مناخًا فكريًّا وثقافيًّا قل نظيرُهُ فى العالم القروسطى المتأخر، وأنتجوا مئاتٍ بل آلافًا من الكتب والرسائل فى شتى العلوم والمباحث والآداب، مؤسِّسين بذلك للقاهرة رصيدًا معرفيًّا تفوقت به على الحواضر العلمية الإسلامية الأخرى.
شهدت القاهرة ازدهارًا منقطع النظير بعد سلسلة الانتصارات الخارجية التى حققها المماليك، ونجاحهم فى توطيد سُلطتهم وتقوية بنية دولتهم فى بداية القرن السابع الهجري/الرابع عشر الميلادي؛ إذ أصبحت المدينة بعمرانها ومؤسساتها العلمية والدينية والخيرية وتجارتها وصنائعها هدفَ التجار والعلماء والأدباء والمغامرين الذين جاءوها من كل فج يلتمسون دعم الحُكَّام الجدد الأقوياء والأثرياء، وينشدون رعايتهم. وقد أسَّس العلماء والمتعلمون القادمون من كل حدب وصوب مع أولئك الذين وُلِدُوا وتعلَّموا فى القاهرة مناخًا فكريًّا وثقافيًّا قل نظيرُهُ فى العالم القروسطى المتأخر، وأنتجوا مئاتٍ بل آلافًا من الكتب والرسائل فى شتى العلوم والمباحث والآداب، مؤسِّسين بذلك للقاهرة رصيدًا معرفيًّا تفوقت به على الحواضر العلمية الإسلامية الأخرى؛ كدمشق وتبريز ودلهى وسمرقند، أو أى من مراكز العلم فى شمال إفريقيا، كفاس وتونس وبجاية وسوسة ومراكش وغيرها، بل فى معظم جامعات أوروبا المعاصرة.
اقرأ أيضاً | كفاح المقريزى.. الصراع على المناصب
ولكن هؤلاء العلماء، على الرغم من أنهم لم يشكِّلوا طبقة اجتماعية بالمعنى الماركسى للكلمة، فقد وضعوا إطارًا لمهنتهم وأرسوا أسسًا للانتماء إليها من درس وتحصيل إجازات تثبت تمكنهم من فرع علمهم أو من فقه مذهبهم أو من أى علم آخر، وشكَّلوا مجموعات مصالح اجتمع أفرادها على تحصيل ما ينفعهم، واتبعوا نوعًا من التراتبية العلمية التى احترمها صغيرهم وكبيرهم فى غالب الأحوال، ولو أنهم انقسموا أيضًا أفرادًا وفرقًا متنافسة على الرعاية الأميرية أو السلطانية، وعلى المناصب المتوافرة لأمثالهم فى الدواوين والقضاء والمدارس والخانقاوات.
وقد أدى التنافس على المناصب إلى خلق جوٍّ من البغضاء والتحاسد ظهرت آثارُهُ أحيانًا فى خلافاتهم الفقهية والمذهبية والعلمية التى كثيرًا ما حفلت بها مجالسُ مناظراتهم التى تطورت أحيانًا إلى مشاحنات أمام أصحاب الأمر والنهي، خلَّفت فى النفوس أثرًا سيئًا انعكس فى كتاباتهم عن بعضهم البعض فى التراجم والتواريخ والكتب الفقهية الجدلية، وأحيانًا أخرى فى سعايتهم للإيقاع ببعضهم البعض عن طريق الدس والتآمر والوشاية لدى السُّلطة، حتى ولو أدى الأمر إلى فتك السُّلطة بالمهزوم منهم.
المقريزى يبلغ أشده
نشأ المقريزيُّ وكبر واكتسب العلم والمعرفة فى قلب هذا الجو الثقافى الثري، وفى ظل هذا التنافس المحموم على المناصب، وهو التنافس الذى كان منزل جده على الأغلب واحدًا من مسارحه الجانبية، ولكن المقريزى على ما يبدو لم يعتمد فقط على صلات أبيه وجده فى سعيه الدؤوب إلى العمل فى دواوين الدولة وفى الوظائف العلمية، بل إنه اتخذ من القرارات ما يدل على أنه كان يبنى لنفسه شخصية مستقلة ومختلفة عن شخصيتَى والده وجده كليهما؛ فقد قرَّر التحول إلى المذهب الشافعى وترك مذهب أبيه الحنبلى ومذهب جده لأمه الحنفى الذى كان قد تفقه به، وشرع فى ملازمة كبار الفقهاء الشافعية والدراسة على أيديهم، وذلك فى عام 786ه/1384م، عندما كان فى العشرين من عمره وبعد مضى عدة سنوات على وفاة جده لأمه ثم أبيه، وكان التحول من مذهب إلى آخر فى المحيط العلمى المملوكى فى ذاته أمرًا ممكنًا وغير مستهجن البتة، ولكن القرار الذى اتخذه المقريزى بالتخلى عن مذهبَى أسرته والانتقال إلى المذهب الشافعى لم يكن اعتباطيًّا أيضًا، بل كان قرارًا واعيًا؛ لسبب واضح، وربما لأسباب أخرى يمكننا استقراؤها من خلال النظر فى نوعية التحول المذهبى وتوقيته. ومع أن ابن تغرى بردى يورد فى ترجمته لأستاذه فى كتاب «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافي» أن المقريزى أخبره بسبب تحوله المذهبي، فهو لا يطلعنا عليه، بل يكتفى بادعاء معرفته. ولكن حتى مع جهلنا بالسبب الحقيقي، إن وُجِدَ، ففى مستطاعنا أن نقدِّم تأويلين ممكنين لقرار المقريزي، ويمكن أن يكون السببُ الحقيقيُّ أحد هذين التأويلين أو مزيجًا منهما، فهما غير متعارضين تحليليًّا البتة؛ التأويل الأول: هو أن المقريزي، كما ألمحنا، كان يعبِّر فى قراره هذا عن استقلاله ونضوج شخصيته وأهليته لاتخاذ القرارات وتحمل عواقبها، وخاصة فيما يتعلَّق بالمذهب الذى سيمضى بقية عمره فى دراسته وتدريسه، فهو بعد أن فقد الرجلين الأهم فى يَفَاعته، جدَّه وأباه، أخذ بعض الوقت ليخرج من تحت عباءتيهما المذهبيتين، وربما من تحت سطوتهما الأدبية والأبوية، التى يظهر أنها كانت قوية ولا تخلو من أثر سلبي، إذا قرأنا ما بين سطور ترجمتَى المقريزى للرجلين فى «الدرر»، ولكنه انتهى أخيرًا إلى ترك مذهبيهما معًا، والانتساب إلى مذهب ثالث يُرْضِيه ويعكس ميولَهُ، ويُرْضِى توجهاته، وربما يخدم طموحاته أيضًا، ولكنه قطعًا يخالف ميولَهما معًا، ولعل هذا هو ما قصده ابن حجر حين ذكر فى سياق حديثه عن هذا القرار أن «المقريزى عندما تيقظ وتنبَّه تحول إلى المذهب الشافعي»، وهذا تأويل نفسى وأُودِيبى نوعًا ما، ولعل فيه شيئًا من الإسقاط التاريخى الرجعي، ولكنه مهمٌّ فى تحرى مختلف جوانب شخصية المقريزي، الذى كان كما قدمنا صاحبَ رأي، ولكنه يتردد فى اتخاذ القرار النابع من هذا الرأي، حتى إذا اتخذه تشبث به ودافع عنه بغض النظر عن العواقب.
وأما التأويل الثاني: فهو أن ما قصده ابنُ حجر من استخدام كلمتَى «تيقظ وتنبَّه» أن المقريزى بتغييره مذهبَهُ كان يبنى قراره على حسابات مهنية صائبة؛ فالمذهب الشافعى ظل هو المذهب السائد فى مصر المملوكية، فلا عجب كانت المناصب الدينية المهمة فى البلاد تُسند فى غالب الأحيان إلى الشوافع، بغض النظر عن سعى بعض الأمراء المماليك إلى تغيير هذه المعادلة.
يمكن القول إذن: إن اتخاذ المذهب الشافعى ربما كان مقدمة للتدرج فى المناصب والوصول إلى أعلاها، كمنصب المحتسب أو قاضى القضاة، أو على أقل تقدير منصب الشهادة أو نيابة الحكم عند قاضى القضاة الشافعي، الذى كانت له دومًا من السُّلطة التشريعية والأدبية ومن النواب والشهود أكثر مما كان لغيره من قضاة قضاة المذاهب الثلاثة الأخرى. ومن معرفتنا بانخراط المقريزى فى الصراع على المناصب خلال بداية حياته المهنية، يسعنا أن نقبل هذا التفسير الموضوعي، ولو أننا نرجِّح أنه حتى لو كان المقريزى قد بنى قراره فى روية وتأنٍّ وبعد نظر، فإن فى هذا القرار كان أثرًا من آثار ثورة الشاب على أبيه، أو على جده فى الغالب.
فكلُّ المؤرخين الذين ترجموا للمقريزى يذكرون تحامله على السادة الحنفية خلال حياته كلها، وربما كان هذا التحامل يعكس شيئًا من آثار ثورته على جدِّه ابن الصائغ الحنفى القُحّ، الذى تفقه حفيده أصلًا على مذهبه، مع أن أيًّا من مترجميه لا يربط قرار تحوله إلى المذهب الشافعى بثورته على مذهب جده، بل إن أغلبهم يُورد تفصيلة أخرى تزيد قصة مذهب المقريزى تعقيدًا؛ بوصفها سببًا يفسِّر تحامله على الأحناف، ولكنها فى الوقت نفسه تُلقى مزيدًا من الضوء على شخصية المقريزي، وعلى ميله منذ بداية حياته إلى التمسُّك بمبدأ أخلاقى مطلق لا مكان فيه لتراخ أو تساهل أو تسامح مع ضعيفى الذمة، ولو أنه فى حقيقة الأمر قد تأخر فى الالتزام بهذا المبدأ فى حياته العملية إلى أن قرر الاعتزال والانسحاب، فابن حجر والسخاوى وابن تغرى بردى وعمر بن فهد كلهم يتهمون المقريزى بالميل إلى المذهب الظاهري، أو مذهب ابن حزم الأندلسى (384-456ه/994-1064م) على رأيهم، وهو المذهب الذى عُرِفَ بعدائه لكل المذاهب الأخرى، ولا سيما مذهب الحنفية والمالكية، ولو أن ابن حجر، ويتابعه فى ذلك السخاوى وابن تغرى بردى وحتى ابن فهد، يقرِّر أن المقريزى كان «لا يُعرف به»، أى بالمذهب الظاهري، ولكن ابن تغرى بردى فى كتابه «حوادث الدهور فى مدى الأيام والشهور» يضيف ملاحظة أخرى، وربما قصد بها الدفاع عن أستاذه أو تقرير حقيقة ميله إلى ابن حزم، فهو يقول: «وكان ينسبه بعض الناس إلى الميل لمذهب الظاهر، والله أعلم بالباطن؛ لأنه كان يعظِّم ابن حزم المغربى إلى الغاية، وليس فى ذلك ما يُعاب؛ لأن ابن حزم كان رجلًا حافظًا عالمًا، ولو كان ظاهريًّا لم ينكر فضله».
هل كان المقريزى ظاهريًّا حقًّا؟
من هم الظاهرية، وهل كان المقريزى فعلًا ظاهريًّا؟، هذا ما لا نجد له إجابة مباشرة فى كتابات المقريزي، وليس ذلك بمستغرب من إنسان كان يلزم الحذر دائمًا فى إعلان نسبته وانتسابه والتصريح بمذهبه واعتقاده، كما فعل فى موضوع نَسَبه الفاطمي، ولكننا، وكما وجدنا إشارات واضحة على لسان غيره إلى انتمائه الفاطمى فى كتاباته هو نفسه أو فى تراجمه لمعاصريه، سنقف على النوعية نفسها من الإيماءات والإشارات الدالة على إعجابه بالظاهرية ودفاعه عنهم فى التراجم التى يوردها لبعض أقطابهم فى «الدرر» وفى «المقفى الكبير»؛ هذا كله يؤيد مقولة أن المقريزى كان ميالًا إلى المذهب الظاهري، على الأغلب بسبب إعجابه بصلابة اعتقاد الظاهرية المؤسسين، أى أبى سليمان داود بن على بن خلف الأصفهانى (ت. 270ه/ 883م) المؤسِّس الأول، وابن حزم مجدِّد المذهب فى الأندلس فى القرن الخامس الهجري/الحادى عشر الميلادي، الذين عرفهم من الكتب، والظاهرية المعاصرين الذين قابلهم فى حياته وتأثر بهم أيَّما تأثر، أكثر من تبحره وتعمقه فى دراسة المذهب نفسه.
وهذا التأويل يبرر أيضًا ما ذكره مترجمو المقريزى عن عدم معرفته بالمذهب وجهله بتعقيداته الفقهية، وهو الذى كان منكبًّا على دراسة الفقه الشافعى والحديث وأصول الفقه طيلة حياته، وهو ما يمكننا استنتاجه من تراجم شيوخ المقريزي، وأكثرهم شافعية معروفون، ومن أسماء الكتب التى قرأها عليهم ثم درسها بنفسه، وهى كلها من أمهات كتب الحديث والفقه الشافعى واللغة، ولو أن ذلك لا يعنى على الإطلاق أن المقريزى لم يقرأ كتب علماء الظاهرية كابن حزم، أو لم يعِ أسس المذهب الظاهري، الذى ركز على مبادئ شرعية وأخلاقية وفقهية لاقت فى نفس المقريزى استحسانًا وتأييدًا، ولم تتعارض البتة مع مجمل توجهه الديني، كاعتقاده الراسخ فى الحديث النبوى وتعمقه فى دراسته، بالإضافة إلى تشدده الفقهي، الذى يمكن نعته اليوم بالسلفي، وكرهه الشديد للفساد والعسف والظلم الذى ميَّز السُّلطة المملوكية فى عصره.
فالمذهب الظاهري، الذى سُمِّى كذلك بأثر من إصرار أتباعه على أن الأحكام الشرعية لا تؤخذ إلا من ظواهر النص القرآنى والحديث النبوي، ورفضه الرأى بكل أنواعه من قياس واستحسان وسد للذرائع وما إلى ذلك، كان واحدًا من أكثر المذاهب السُّنية تشددًا وانغلاقًا على مصادر التشريع الأولية المحددة، وقد جُوبه من أجل ذلك برفض عنيف من أتباع المذاهب السُّنية الأخرى التى رخَّصت بطريقة أو بأخرى لأنواع من الاجتهاد سمحت لها ببعض المرونة، وبالتطور مع متغيرات العصر، وعلى رأسها المالكية والحنفية، وربما كان ذلك أيضًا هو السبب فى عدم انتشاره انتشارًا واسعًا بعد إعلانه على يد داود بن على فى القرن الثالت الهجري/التاسع الميلادي، على الرغم من أن الرجل وتلاميذه حاولوا جاهدين الدعوة إليه، ومن أن داود بن على ألَّف العديد من الرسائل والكتب التى تشرح رأى الظاهرية فى أحكام التشريع على اختلافها (لم يبق منها شيء يُذكر)، وعلى الرغم أيضًا من أن داود بن على كان مثالًا يُحتذى فى الخُلق والاستقامة والزهد والعبادة، وأنه كان جريئًا فى آرائه لا تأخذه فى الحق لومةُ لائم، بل ربما كانت جرأته فى الحق وإصراره على رأيه من أهم أسباب قلة المنتسبين إلى المذهب، وإعراض سلاطين المسلمين عنه، ولو قد تبناه أحدهم لزاد انتشاره بلا شك.
والواقع أنه لولا ابن حزم، أحد أهم مفكرى الرأى الحر فى التاريخ الإسلامى وأحد أهم علماء الأندلس، الذى جدَّد المذهب فى القرن الخامس الهجري/الحادى عشر الميلادي، لما بقى من ذكرى هذا المذهب شيءٌ ذو بال؛ فهو الذى أحيا سُنَنَه، ووضع أصوله ودوَّنها فى رسائل عديدة، ودافع عنه فى كتاباته وفى مناظراته، وإليه يرجع الفضل فى استمرار المذهب الذى -وإن كان مجهولًا عند عامة المسلمين الذين لا يعرفون إلا أربعة مذاهب سنية لا خامس لها- ما زال حيًّا حتى اليوم تتمسك به القلة القليلة من الفقهاء، خاصة فى جزيرة العرب، وينال استحسانًا عند بعض مدارس السلفيين المعاصرين الذين يرون فى وضوح مبادئه والتصاقها بأصول التشريع وبُعْدِها عن الرأى الذى يحتمل التأويل والاختلاف علاماتٍ إيجابيةً تشبه بعض آرائهم وتوجهاتهم.
وعلى الرغم من أن المقريزى لا يُظهر شيئًا من هذا عن نفسه، أى أنه لا يتكلم عن رأى المذهب الظاهرى فى أية مسألة فقهية مثلًا أو يناقش آراء الأئمة الظاهريين عمومًا، فهو يصرح أحيانًا بما يُحْتَمل تأويلُهُ على أنه اتباع منه للمذهب الظاهري؛ إذ يذكر مثلًا عن شهاب الدين أحمد بن محمد الأشمونى النحوى أنه «مال إلى مذهب أهل الظاهر، ثم انحرف عنهم، وأكثر من الوقيعة فيهم»، ثم يضيف: «صحبته سنين»؛ مما يوحى بأنه صحبه حال ميله إلى أهل الظاهر، ويذكر أيضًا عن أبى بكر بن على الهاشمى الحسينى أنه «مال إلى مطالعة كتب الحديث والعمل بالظاهر، طريقة أبى محمد بن حزم»، ويخبرنا كيف أنه مع فقره وإملاقه داوم على طاعة ربه إلى أن قيَّض الله له فتح الدين فتح الله كاتب السر (وهو أحد أهم مَن رعى المقريزى فى حياته العملية، وسوف نعرِّف به تعريفًا وافيًا)، «فأنعشه باليسير من ماله، وقرر له وظيفة يجد منها ما يسد به بعض الرمق»، ومع أن المقريزى لا يخبرنا عن صلته بأبى بكر الهاشمي، فإنه ينقل عنه بعض الأحاديث الدالة على ما بينهما من صلة، بالإضافة إلى أنهما هما الاثنان كانا من أصحاب فتح الله كاتب السر، ومن جلسائه بالتبعية.
ويقول المقريزى أيضًا عن بدر الدين محمد البشتكى الشاعر الأديب (ت. 830ه/ 1427م): إنه «مال إلى طريقة أبى محمد بن حزم وأتباع مذهب الظاهر بعدما كان حنفيًّا تحول شافعيًّا وتزيا بكل زي، وسلك كل طريقة، وكان يؤثر الانفراد، ويلازم التوحد، ولا يُقدر على معاشرته لحِدَّة خلقه وسرعة استحالته»، ثم يضيف: «وقد صحبنى وصحبته زمانًا»، ويروى عنه كثيرًا من الشعر الذى أنشده إياه على البديهة، ولئن كان المقريزى قد توقف فى «الدرر» عند هذا الحد، فقد أضاف فى كتاب «السلوك» عند ذكر وفاة بدر الدين البشتكى فى وفيات 830ه: «فالله يرحمه، ولقد أوحشنا فقدُه، ولم يخلف مثله بعده أبدًا».
وأما فيما يخص أستاذه عماد الدين أبا بكر المقدسى الحنبلى (ت. 804ه/1401م)، الذى درس على يديه كتابه «الأوامر والنواهي» وكتبه بخطه على ما يقول سنة 793ه/1391م، والعماد يقابل النص مباشرة على نسخته الأصلية، فيذكر عنه أنه «كان يبالغ فى تعظيم أبى محمد بن حزم ويعتنى بكلامه»، ثم يشرح ذلك قائلًا: «وكان يحمل نفسه من العبادة على ما لا يثبت له غيرُهُ؛ وذلك أنه أخذ نفسه بالعمل بما أمر الله تعالى به فى كتابه أو على لسان نبيه، ومما قد صح عنه، سواء كان ذلك مما قال الفقهاء فيه: إنه يقتضى الوجوب أو الندب أم لا»، أى أن المقريزى هنا يقدم لنا فعلًا الصورة النموذجية للظاهرى الملتزم بمبادئ مذهبه فى حياته، على الرغم من أنه لا يسمِّى العماد الحنبلى ظاهريًّا إطلاقًا، ولو أنه ينسب إلى أحمد بن البرهان، أنشط الدعاة الظاهريين فى عهده، قولَهُ عن العماد الحنبلي: «صاحبنا الشيخ العماد ليس بفقيه النفس، إلا أنه رحمه الله كان مجتهدًا لنفسه، غير متعرض لأحد، فلعمرى ما وقعت عينى على أتبع لسُنَّة رسول الله منه فى قوله وعمله وعقده»، ولا أظن أنه يمكن الحصول على شهادة أوضح من هذه الشهادة، وممن هو أقرب من ابن البرهان إلى تمثيل المذهب الظاهري، ولا يكتفى المقريزى بهذا، ولكنه يسبغ على أستاذه من صفات العلم والورع والتقوى والاجتهاد بالنفس ما لم يصف به إلا قلة قليلة غيره، وهى الأوصاف التى يسعنا أيضًا أن ننسبها إلى المقريزى فى فترة متأخرة من حياته.
ويُورد المقريزيُّ كلامًا مشابهًا عن العلامة أبى حيان الغرناطى الأندلسي، صاحب كتاب «البحر المحيط»، والظاهرى المشهور فى الأندلس ومصر حيث قضى فترة من حياته ومات ودفن فى القاهرة، ففى الترجمة الوافية التى كتبها له فى «المقفى الكبير»، يقول المقريزي: «وكان ظاهريَّ المذهب، متعصِّبًا لأبى محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم، مائلًا إلى مذهب الإمام الشافعي، معظِّمًا لتقى الدين أحمد بن تيمية، مصوِّبًا لرأيه»، وهذه الصفات العلمية الثلاث مما شارك فيه المقريزى نفسه باختياره وبعد أن «تيقظ وتنبَّه»، على حد قول ابن حجر.
وأما الشخص الأهم فى محاولتنا استقراء علاقة المقريزى بالمذهب الظاهرى فهو الشيخ أبو هاشم أحمد بن محمد بن البرهان (754-808ه/1353-1405م) الذى يصفه المقريزى بأنه «العبد الصالح الداعى إلى الله»، ويقول عنه فى «السلوك»: إنه كان «أحد نوادر الدنيا»، وهو يخبرنا فى الترجمة الطويلة والمسهبة والمغرقة فى مديحها التى كتبها عنه فى «الدرر» أنه «صحب أحمد سعيد السحولي، فأماله إلى العمل بالحديث على طريقة الفقيه أبى محمد على بن حزم فى فروع الشريعة، وإلى أصول شيخ الإسلام تقى الدين أبى العباس أحمد بن تيمية، فمال إلى ذلك وبرع فيه وناظر مَنْ جادله على ما يعتقده، فنُبز بمذهب الظاهر، وصار يُعرف بالظاهري»، ويضيف المقريزى -بعد أن يفصِّل القول فى جهاد ابن البرهان فى سبيل مذهبه- أنه «كان عالمًا بأكثر مسائل الشريعة وأدلتها من الكتاب والسُّنة، فروعها وأصولها، ذاكرًا لمعظم أخبار الخليقة، عربها وعجمها، مُشْرِفًا على عامة مقالات فرق الإسلام، مذاكرًا بمذاهبها، مستحضرًا لما عليه الكافة من مخالفة السُّنَن، يسرد ما هم بسبيله من التلبس بالمنكرات، كثير التألُّه والعبادة، محبًّا لله ورسوله، معظِّمًا لهما، متبعًا للسُّنة، متحريًا جهده»، ويروى لنا المقريزى كيف كان ابن البرهان يزوره ويتطارح الحديث معه، ويخبره عن آرائه الفقهية والتزامه السُّنة فى العبادات، ثم يخبرنا عن شدة تقشف ابن البرهان على نحو أشرف به على الموت جوعًا، حتى إن حريم ابن البرهان كنَّ يأتين المقريزى نفسه (وهذا دليل قوى على قوة العلاقة بين الرجلين) يشتكين له تصدق الرجل بما معه من القليل، وتركه لعائلته من غير طعام، وكيف حاول المقريزى مرارًا تصحيح الوضع والنصيحة لصديقه، ويخبرنا المقريزى أيضًا عن بعض كرامات الرجل فى حياته، مما حكاه له بنفسه أو رآه المقريزى رأى العين، ثم ينهى الترجمة بعبارة ملغزة ولكنها معبِّرة؛ إذ يقول: «وهو أحد الثلاثة الذين نفعنى اللهُ بهم نفعًا أرجو بركته».
فما الذى قصده المقريزيُّ من هذه العبارة التى ذيَّل بها تعليقه على ما قرأه من مصنفات ابن البرهان التى أملاها الرجلُ عليه من غير مسودة ولا كراسة، وكتبها المقريزى وعرضها عليه؟، هل هى دليل على أن محل المقريزى من ابن البرهان كان محل المريد من الشيخ كما توحى تركيبةُ العبارة؟!، علمًا بأن ابن البرهان لم يكُ يومًا شيخًا صوفيًّا؟، ولو لم يكن الأمر كذلك، فكيف نفهم انتفاع المقريزى برجل قضى جُلَّ عمره فى المنافحة عن المذهب الظاهرى والدعوة إليه، حتى إنه فى عام 785ه/1386م قاد ثورة غير مسبوقة على النظام المملوكى فى عهد السلطان الجركسى الأول الظاهر برقوق؟
فابن البرهان الظاهري، الذى لا يعرفه كثير من مؤرخى اليوم، لعب فى التاريخ المملوكى دورًا صغيرًا، ولكنه دورٌ تراجيدى بامتياز؛ ذلك أنه دعا إلى الثورة على السُّلطة المملوكية، هذه السُّلطة التى كان يؤمن، وغيره من الظاهرية المعاصرين له، بأنها غاصبةٌ بحكم الحديث النبوى الذى ينص على أن السلطان يجب أن يكون قرشيًّا عربيًّا بدلًا من السلطان التركى (أو الجركسي) المملوكي، وبحكم فرضها لمكوس لم ينص عليها الشرعُ. والواقع أن ثورة ابن البرهان الدينية-السياسية هذه، ولكن العاطفية والساذجة والمحكومة بالفشل مسبقًا بسبب قوة السُّلطة وشدة بطشها، لم يتح لها أن تبدأ بسبب وشاية، وانتهت به وبصحبه إلى الحبس الطويل والتعذيب والتشتيت وضياع ما تبقى من العمر، وقد تجاهلها أغلب مؤرخى العصر المملوكى أو مروا عليها مرورًا عابرًا، أو سمَّوها «فتنة» مع ما تنطوى عليه هذه التسمية من إدانة للحركة (والحق أن المقريزى لا يستخدم هذا المصطلح البتة)، أو حوروا بعض تفاصيلها، إما جهلًا بحوادثها وبمبادئها وأسسها، وإما استصغارًا لشأن القائمين عليها، ما عدا المقريزى الذى يتحدث عنها فى إسهاب وحمية واندفاع يوشك أن يكون تأييدًا، والذى يقدم عنها تفاصيل فى ترجمة ابن البرهان لا نجدها فى أيٍّ من المصادر الأخرى التى بين أيدينا؛ إذ يخبرنا مثلًا أن ابن البرهان طاف فى البلاد قبل الثورة بسنتين داعيًا الناس إلى «العمل بكتاب الله وسُنَّة نبيه، وطاعة قريش، ومحاربة ملوك العصر»، أى أن ابن البرهان كان يدعو إلى الثورة المسلحة، واستطاع -على رأى المقريزي- أن يجمع حوله كثيرًا من الناس من عرب وتركمان وعلماء، وإن كان لا يذكر أن من بين أتباعه أمراء مماليك.
ولكن واحدًا من أصحابه السذج -وإن لم يُسمِّه المقريزي، فى حين يسميه ابن قاضى شهبة فى روايته عن الواقعة خالدًا الحمصي- حاول استمالة واحد من الأمراء المسجونين فى قلعة دمشق للثورة، فوشى به لنائب القلعة الذى قبض على كل مَن طالته يده من الضالعين فى المخطط، وأوصل الخبر إلى السلطان برقوق، وبعد شيء من التخبط فى التعامل مع هؤلاء الثائرين استدعاهم السلطان برقوق إلى القاهرة، وعقد لهم مجلسًا مغلقًا فى شهر ذى الحجة سنة 788ه/ يناير 1387م، وواجه ابن البرهان، الذى يبدو من رواية المقريزى أنه كان رابط الجأش لم يتخل عن موقفه وهو فى حضرة السلطان الذى قام عليه، وكان بيده أمر عقابه، بل إن المقريزى يرسم فى روايته تلك صورة ممسرحة نوعًا ما للجدل بين الرجلين، لا نجدها فى المصادر المعاصرة الأخرى، وهى الصورة التى اقتبسها ابن قاضى شهبة على ما يبدو، ولو أن الأخير خفَّف من لهجة الإعجاب فى كلام المقريزي؛ فابن البرهان، وفق المقريزى، أجاب على أسئلة السلطان بمقتضى اعتقاده، ولم يتزحزح عن موقفه المذهبى من عدم صلاحية الدولة لحكم المسلمين، وجعل يُعَدِّد مساوئ الدولة ومخالفتها لأسس الشريعة فى بنيتها وفى أحكامها، ولكنه رفض توريط أحد من أركانها فى مؤامرته (على الرغم من أن الشبهات كانت تحوم حول الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمى نائب دمشق؛ حيث اتُّهم بأنه متعاطف مع الظاهريين؛ لمخالفته أوامر السلطان بتسميرهم، ثم سُجن وأعوانه فى الوقت ذاته بسعى نائب قلعة دمشق شهاب الدين بن الحمصي، ولم تقم له قائمة بعدها).
وقد أجاب ابن البرهان على سؤال السلطان مباشرة عمن معه من الأمراء فى هذا الأمر بقوله: «أنا لا أستنصر بأحد من أمرائك، بل أريد محاربتهم»، وقد انتهت المقابلة بأن المساجين الأربعة ضُربوا ضربًا شديدًا بالمقارع لكى يُقِرُّوا على مَن يساندهم، وعوقبوا بالعمل الإلزامى والسجن بخزانة شمايل، وهو واحد من السجون المخيفة فى القاهرة المملوكية، نحو أربعة أعوام، ثم أُفرج عنهم بشفاعة بعض الأمراء لما تضعضع حال السلطنة فى عصيان الأمير يلبغا الناصرى الذى شكَّل تهديدًا فعليًّا لبرقوق، ولما أُفرج عن ابن البرهان «أقام فى مضض من الحياة وضيق من العيش وثقل الجناح بالعيال حتى مات صابرًا محتسبًا» بعد ذلك بأربعة عشر عامًا، بعبارة المقريزي، ولم يحضر جنازته والصلاة عليه - كما يذكر ابن حجر العسقلاني- إلا نحو سبعة رجال.
والحق أن ترجمة ابن البرهان هذه تضفى على ميول المقريزى الظاهرية تجاه السُّلطة المملوكية صبغة نقدية، يقدمها المقريزى كعادته من خلال كلام ينسبه لغيره، ومن خلال إيمانه العميق بالأساس الشرعى للسُّلطة فى الإسلام، ولو أنه هو نفسه لا يؤيدها صراحة هنا (وهو ما سيغيره فى السنين التالية)، فهو المؤرخ الوحيد من مؤرخى العصر الذين كتبوا عن «الثورة» الظاهرية، كابن حجر وابن قاضى شهبة، وكلاهما من أصحابه، الذى لا ينسب لابن البرهان أى اهتمام بالسُّلطة فى ذاتها، كما ادعى عليه ابن حجر أنه: «كانت نفسُهُ تطمح إلى المشاركة فى المُلك، وليس له قدم فيه لا من عشيرة ولا من وظيفة ولا من مال»، أو كما ادعى عليه ابنُ قاضى شهبة بأنه صرَّح عندما استجوب من قِبل نائب قلعة دمشق أنه هو المرشح للخلافة، بل إن المقريزى يصر على أن مطلب ابن البرهان الوحيد كان تطبيق المبدأ الشرعى الذى يطالب بقرشى كخليفة للمسلمين (ربما لأنه كان مقربًا من ابن البرهان ولم يشأ انتقاده، ولو أن ذلك ليس من عاداته)، وهو أيضًا الوحيد الذى يضفى على قصة الثورة الظاهرية تكاملًا ما بين مبرراتها الظاهرية وحوادثها وثبات القائمين عليها على آرائهم، خلافًا لابن قاضى شهبة، ولابن حجر بدرجة أقل؛ ذلك أنهما اهتما بإبراز تفاصيل تعامل السُّلطة مع الفتنة، والصراعات المملوكية حولها، وأهملا الخلفية الظاهرية للثورة.
ومع أن السلطنة المملوكية قد حافظت منذ عهد السلطان الظاهر بيبرس على وجود خليفة عباسى لا حول له ولا طول يقيم فى حاضرتها ليسبغ على سلاطينها شرعية إسلامية، ومع أن ابن البرهان كان فيما يبدو متورطًا مع غيره من الظاهرية فى حركة الخليفة المتوكل على الله علاء الدين محمد عام 782ه/ 1383م لعزل برقوق سنة واحدة بعد تسلمه السلطنة وإحلال المتوكل مكانه، فإن الثورة التى اعتزم وصحبُهُ القيام بها عام 785ه/ 1386م كانت تروم إعادة الحكم لقريش بمقتضى الشرع كما فهمه المذهب الظاهري، لا دعم الخليفة المغلوب على أمره فى قلعة القاهرة للعودة إلى الحكم وفق النظام المملوكي.
ويستند هذا التأييد الضمنى الذى أبداه المقريزى تُجاه مبادئ الثورة الظاهرية إلى جملة الآراء والمعتقدات الدينية والشرعية التى آمن بها ودافع عنها فى كتاباته، وإن لم يشارك فى محاولة وضعها موضع التنفيذ فى حياته قط، وفى هذه الآراء، وإن لم تكن غريبة تمامًا بالنسبة لعصره، من التفرد والثبات فى العرض والتأويل ما يميِّزها عن مواقف معاصريه من جهة، وما يجعلها تبدو على جانب من التضاد مع شخصية المقريزي، المسالمة واللينة والمتواضعة على حد قول مترجميه، من جهة أخرى، والأهم من ذلك بالنسبة لنا أن فيها من شبهة التناقض الشيء الكثير إذا ما حكمنا عليها من وجهة نظر عصرنا؛ حيث تباينت المواقف المذهبية والفقهية تباينًا لم يكن له وجود بهذه الحدة والتحيز فى العصر المملوكى على علاته، ورغم التنافس الشديد الذى طبع علاقات المذاهب السُّنية خلاله، فالمقريزى كان فى مذهبه ومعتقده توفيقيًّا ومتعدد الآراء إلى حدٍّ كبير على نحو لا ينطبق على أى من تقسيماتنا الحديثة والجامدة، تمامًا كما يصف أستاذه العماد الحنبلى والعلامة الأندلسى أبا حيان الغرناطى فى ترجمته لهما.
لقد كان المقريزى فى الآن نفسه شافعيًّا، ومحبًّا للرسول وآله، ودارسًا مجتهدًا ومطبقًا لحديثه، وعاملًا بسُننه فى عباداته ونظرته للحياة ومعجبًا بكتابات ابن حزم الظاهرية وشيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي، ومما يميِّزه عن هذه الطبقة من علماء عصره، الذين شاركوه معتقداته ومواقفه، شدة تعلقه بآل البيت، وهو التعلُّق الذى ربما يلوح لنا فى عصرنا المُثْقَل بالصراعات المذهبية على أنه نوع من التشيع، ودفاعه عنهم وعن حقهم الذى بيَّنه الرسول فى أحاديثه بحكم الأمة الإسلامية، ولهجه بهذا الرأى فى كتاباته المختلفة.
وسيتبدى هذا الرأى بوجه خاص فى كتابه الصغير «النزاع والتخاصم فيما بين بنى أمية وبنى هاشم» الذى كان على الغالب واحدًا من أوائل مؤلفاته، والذى اتخذ فيه موقفًا واضحًا من أحقية بنى هاشم بالحُكْم، على الرغم من أنه حاول من خلال تحليل فوق -تاريخى متوازن أن يفهم كيف عجز العلويون عن الاحتفاظ بالحُكْم الذى كان من وجهة نظره حقًّا إلهيًّا لهم (والذى سنناقشه لاحقًا)، وهو تمامًا ما أراد الثوار الظاهرية أن يفرضوه بقوة السلاح ضد سُلطة مملوكية امتلكت من أسباب القوة ما جعل التهديد الظاهرى فى نهاية الأمر كمًّا مهملًّا وحادثة لا تستحق التوقف عندها.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا التعلُّق بآل البيت والاعتقاد بأولويتهم فى الحُكْم، وهو ما كان يُبديه كثيرٌ من علماء السُّنة خلال العصر المملوكي، ولا سيما الظاهرية والحنابلة من أصحاب النزعة السلفية، ربما كان أيضًا هو العامل الأساسى الذى سمح للمقريزى بقبول أحقية الفاطميين فى الخلافة بعد أن أثبت من وجهة نظره صحة نسبهم للرسول، أى أن المقريزي، الذى كان فعلًا مقتنعًا بنسبه إلى الفاطميين، لم يكن يؤيد خلافتهم من منطلق انتمائه الشخصى وافتخاره بهذا الانتماء فحسب، بل إنه اعتمد فى ذلك على اعتقاد دينى راسخ بأن آل البيت، والفاطميون منهم، هم وحدهم حُكَّامُ المسلمين الشرعيون.
هذه الآراء القوية بل الحدية لم تمنع المقريزيَّ قطُّ من السعى إلى تقلُّد المناصب فى الدولة المملوكية، على الرغم من أنه لم يكن مطمئنًا إلى شرعية هذه الدولة من وجهة نظر إسلامية محضة، وخاصة فى عهدها الجركسى الذى عاصره، وهو فى ذلك لم يخالف عادات عصره ومقتضيات طبقته من العلماء والفقهاء، الذين لم يجدوا فى موقفه ما يُستَغرَب، على الرغم من أن بعض مترجميه الذين كانوا يتعقبون زلاته تعقبًا، كان يمكنهم أن يتخذوا من التعارض بين موقفه النظرى وتطبيقه العملى مدخلًا للحط من صدقه وإخلاصه لمبادئه، فهو فى بداية حياته المهنية، عندما كان فقيهًا شافعيًّا معممًا وصاعدًا على خطى أبيه وجده لأمه، ومستفيدًا من علاقاتهما فى الدولة، كان فيما يبدو يفصل بين نزعته الفقهية التشددية وضرورات العيش، ويتخذ من ذلك الفصل مستندًا لاستمراره فى السعى إلى المناصب. والحق أن هذا الفصل المجهد فكريًّا ومعنويًّا، وما رافقه من تذبذب فى المواقف ومن قلق نفسى لا بُدَّ أنه أربك حياة صاحبه، هو ما يميِّز شخصية المقريزى المترددة والهيابة والانتهازية أحيانًا، والمغرقة فى أخلاقيتها وتشددها الشرعى وتمسكها بمبادئ العدل والحق والشرعية الإسلامية، ولعل هذا الفصل أيضًا هو الذى يبرِّر توقف المقريزى فى نقده لفساد السُّلطة فى بداية حياته عند التعبير عن مواقفه المؤيِّدة للحركات المقاومة فى الحاضر المملوكى وفى التاريخ الإسلامي، ككل من ثورات العلويين، إلى الدولة الفاطمية، فالمذهب الظاهري، دون أن يتجاوز هذا التأييد القول إلى العمل.
وهذا الفصل أيضًا هو الذى يساعدنا على فهم، دون تبرير، كيف كان يمكن للمقريزى أن يؤيد ابن البرهان فى ثورته التى أُجهضت، كما أشار إلى ذلك لاحقًا فى «الدرر»، فى الوقت نفسه الذى كان يشغل فيه أعلى المناصب التى سيصلها فى الدولة خلال عمله المهنى الذى دام أكثر قليلًا من ثلاثين سنة، وفى الوقت ذاته الذى كان ينادم فيه السلطان برقوق الذى سينكِّل بالظاهرية، كما يخبرنا غيرُ مصدر.
ولعل هذا التناقض الذى أرهقه، وعجزه فى الآن نفسه عن تولى المناصب العليا التى رأى فى نفسه الأهلية للحصول عليها، هو ما دفعه فى نهاية الأمر إلى اتخاذ قرار الاعتزال فى قمة إنتاجه المهني، والاعتكاف فى منزله للثلاثين سنة القادمة منقطعًا عن الدنيا وملاهيها، منصرفًا إلى العبادة والتأليف، وربما الاستغفار عن ذنوب سابقة كما سنرى. على أن هذا القرار جاء متأخرًا قليلًا بالنسبة لتلميذه الناقد ابن تغرى بردى الذى أخذ على أستاذه أنه يهاجم السلاطين المماليك، وخاصة مخدومه الظاهر برقوق، فى كتاباته، على الرغم من أنه كان ممن عمل فى دواوينه وترقى فى المناصب على عهده واستفاد منه، بيد أن هذا النقد الذى وجهه ابن تغرى بردى إلى المقريزي، والذى سنفصِّل القول فيه لاحقًا، لم يمنعه هو من نقد السلاطين أنفسهم فى كتابه «النجوم الزاهرة»، وإن بدا نقده أقلَّ حدة وأكثر تفهمًا من نقد أستاذه؛ ربما لأنه كان ينتسب إلى أصول مملوكية جركسية، وربما لأنه لم يشأ أن يقطع شعرة معاوية مع النظام، مؤمِّلًا من وراء ذلك أن يظفر بمنصب مهم فى صفوفه.
المقريزى وخوض معترك الحياة
بهذه النفسية المتسائلة القلقة، وهذه الآراء الحادة والمتناقضة فى آنٍ معًا، بدأ المقريزى يخوض معترك الحياة العملية متسلحًا بعلمه وصِلاته العائلية، خاصة صلات أبيه وجده لأمه، وكان أول عمل يتقلَّده بالفعل هو عمله فى الدواوين المملوكية التى عمل فيها والدُهُ من قبل، بل إن المقريزى نفسه يخبرنا بأنه باشر التوقيع، وهو أقلُّ المناصب الكتابية منزلةً، فى أيام كاتب السر بدر الدين محمد بن على بن يحيى بن فضل الله العمري، وأن أبا بدر الدين، كاتب السر علاء الدين، هو الذى تعاهد أبا المقريزى على بن عبد القادر وجده لأمه ابن الصائغ الحنفى بالرعاية ورقَّاهما، أى أن عائلة المقريزى القاهرية تدين لعائلة العمرى بمناصبها، بل إن المقريزى نفسَهُ يدين لهذه العائلة بدخوله عالم المناصب ابتداءً، على الرغم من أنه سرعان ما سيتصل بذوى نفوذ آخرين فى السُّلطة المملوكية، وسيعتمد عليهم فى الترقى فى المناصب.
ويبدو أنه لم يكن ينسى صنيع أحد معه؛ فهو على أقل تقدير يثبت فى «درر العقود» كل اتصالاته بالأمراء والوزراء وذوى النفوذ الذين ساعدوه، ويعترف بذلك، حتى حين يكون رأيه الشخصى فى سِيَر بعضهم سلبيًّا، وحتى حين يوجِّه إليهم سهام النقد، ولكن المقريزى -والحق يقال- يتجنب القدح فى الشخص نفسه، ويحاول ما استطاع حصر نقده فى تصرفات المترجَم له المهنية وسيرته فى مناصبه وتعامله مع الناس، ولا يتناول الشؤون الشخصية إلا عندما تكون مخالفةً للشرع، وهو فى هذه الحال، وبعد أن يعرض ما يُؤْخَذ على المترجَم من وجهة نظر الشرع يختتم روايته فى الغالب بعبارات من نوع: غفر الله له، أو خفَّف عنه، أو ما شابه ذلك، مما يعنى أنه لا يبالغ فى إدانته للشخص المترجَم بما أن أبواب المغفرة واسعة، وهذا دليلٌ آخر ينبئ عن خلق محافظ متدين، وبخاصة عندما نقارن عباراته بعبارات غيره من كُتَّاب التراجم المعاصرين سليطى اللسان؛ كالسخاوى والعيني.
ولا يحدِّد المقريزى تاريخ بدء اشتغاله بالتوقيع بين يدى بدر الدين بن فضل الله، ولكنه يخبرنا فى الترجمة المطولة التى يثبتها لبدر الدين فى «الدرر» أن الأخير قد وَلِيَ كتابة السر مرتين؛ الأولى: بعد وفاة أبيه على سنة 769ه/1367م، حيث استمر فى منصبه حتى سنة 784ه/1382م، ثم عاد إلى المنصب نفسه فى بداية عهد السلطان برقوق سنة 786ه/1384م، واستمر فيه حتى وفاته سنة 796ه/1394م مع انقطاع سنة واحدة عندما تولى المنصب علاء الدين على المقيرى الكركى بين سنتى 792، 793ه، إثر عودة السلطان برقوق من منفاه فى الكرك بعد ثورة منطاش. ويستمر المقريزيُّ فى ترجمته لبدر الدين بن فضل الله؛ حيث يذكر أن بدر الدين لزم داره بعد أن عزله برقوق سنة 784ه، إلى أن جاءه الأمير يونس الدوادار مبعوثًا من برقوق، وأخذه من داره وبغير لباس لائق لمقابلة السلطان الذى عيَّنه كاتب السر فى رابع ذى الحجة سنة 786ه (يناير 1385م)، ويضيف المقريزي: «وأنا يومئذٍ فى داره عند أخيه عز الدين حمزة، فأخذه يونس الدوادار وسار به بثياب جلوسه من غير شاش ولا فرجية ولا خف، وأنا معه إلى قلعة الجبل»، فهل هذا هو تاريخ ابتداء المقريزى بالعمل موقعًا فى ديوان الإنشاء، أى عندما كان فى التاسعة عشرة من عمره، أم أنه بدأ قبل ذلك التاريخ؟، لا يمكن أن يكون تاريخ شروعه فى العمل سابقًا على ذلك التاريخ بمدة طويلة، حسبما أفاد بعضُ دارسى المقريزى كمصطفى زيادة وغيره، ممن أرجعوا بداية عمله إلى عام 778ه/ 1377م، حين كان المقريزى فى الثالثة عشرة من عمره، أو حتى قبلها حين كان طفلًا؛ نظرًا لأنه ولد عام 766ه/1364م، ولم يكن من الممكن أن يمتلك ناصية الكتابة فى هذه السن الصغيرة على نحو يؤهِّله بالقدر الكافى للعمل فى ديوان الإنشاء.
ولم يكن بدر الدين بن فضل الله هو الراعى الوحيد الذى دعم المقريزى فى بداية حياته المهنية، بل يبدو أن كثيرًا من أصدقاء أبيه وجده قد ساعدوه أيضًا، ومن هؤلاء الأصدقاء الوزير شمس الدين إبراهيم بن عبد الله كاتب أرلان الذى تولى الوزارة فى عهد السلطان برقوق من سنة 785ه/ 1383م إلى وفاته سنة 789ه/ 1387م، وكان كاتب أرلان هذا صديقًا لوالد المقريزى فى ديوان الأمير آقتمر الحنبلى نائب السلطنة فى مصر والشام، ثم جعل يترقى فى المناصب إلى أن صار وزيرًا فى عهد السلطان برقوق ومات على وزارته مهابًا سنة 789ه/1389م، ويقول المقريزى عن علاقته به: «وكان لى إليه تردد، وله بى عناية»، ولكنه لا يخبرنا بمدى عناية كاتب أرلان تلك، أو عمق صلته به، وبخاصة أن المقريزي، بعد أن يطيل الثناء على كاتب أرلان إطراءً لتواضعه وحسن إدارته لشؤون الدولة، يقول: «ومع ذلك أخبرنى مَن كان له اطلاع على أموره بأنه كان فى باطن أمره نصرانيًّا يدين بدين النصرانية»، فهل كان جهل المقريزى بعقيدة راعيه نابعًا من بُعد صلته به، أم أنه ينسب الحديث إلى شخص آخر؛ تعففًا عن الخوض فى مثالب صديق لوالده وراع له، أو لكى لا يُتَّهم هو فى علاقته بكاتب أرلان؟، لا يمكننا الجزم بأيٍّ من هذه الاحتمالات، ولو أن العبارة التى يثبتها المقريزيُّ فى نهاية الترجمة دالة على اعتقاده المبطن؛ إذ إنه يبدأ بالقول: «ولم نر بعده وزيرًا مثله»، ثم يكمل: «خفف الله عنه»، وهى عبارة لا يمكن فهمها فى هذا السياق إلا إذا كانت روايةُ أن كاتب أرلان كان فى باطن أمره مسيحيًّا -وهو بالتالى لن يدخل الجنة بسبب من عدم إسلامه- صحيحة، وهو على ما يبدو ما اعتقده المقريزي، ولو أنه لم يصرِّح به علانية؛ ربما بسبب اعتقاده الدينى بأنه لا يملك معرفة بواطن الناس.
لا نعلم متى ترك المقريزيُّ ديوان الإنشاء، بل إن محمود الجليلى فى هوامشه على كتاب «الدرر» يجزم بأن المقريزى استمر فى عمله فى ديوان الإنشاء طَوال حياته المهنية، متنقلًا فى الخدمة من كاتب سر إلى كاتب آخر على مدار خمسين سنة تقريبًا، ويستدل على ذلك بصحبة المقريزى لجُلِّ كُتَّاب السر فى وقته من بنى فضل الله، إلى فتح الله بن معتصم التبريزي، إلى بدر الدين بن مزهر، إلى ابنَى البارزى الأب والابن، الذين خدموا لفترات مختلفة فى منصب كاتب السر، ويستدل الجليلى على صلة المقريزى بديوان الإنشاء بأن مسودة بعض كتبه كتبت بسطور صغيرة بين سطور الأحرف الكبيرة الديوانية على أوراق ديوان الإنشاء كبيرة القطع، والتى كانت تقطع قطعًا أصغر وتُباع بالقنطار، وهذا كله صحيح، ولكنى لا أميل إلى أن المقريزى استمر فى عمله فى ديوان الإنشاء هذه الفترة كلها؛ لأنه لا يخبرنا بذلك حقيقة إلا فى عهد ابن فضل الله، ولا يبدو لى أن تعليق المقريزى على صلته بكاتب سر أو آخر دليلٌ على أنه كان يعمل تحته فى ديوان الإنشاء، بل ربما كانت هذه العلاقات، كما سأحاول أن أبيِّن، علاقات صداقة أو انتماء أو تزلف بينه وبين هؤلاء الموظفين الكبار الذين كان بعضهم بمنزلة زميل عمل له بعد أن أصبح مؤرخًا معروفًا. وهذه الدلائل كلها تشير إلى أن المقريزى ترك عمله مُوَقِّعًا فى ديوان الإنشاء خلال فترة حُكْم السلطان برقوق الثانية (792-801ه/1390-1399م)، وربما ترك المقريزى ديوان الإنشاء إما بعد وفاة حاميه الوزير كاتب أرلان، وإما بعد وفاة بدر الدين بن فضل الله سنة 796ه/ 1394م على الأرجح؛ ذلك أنه صعد فى سُلَّم الوظيفة صعودًا هائلًا بعد هذا التاريخ بقليل، ولو أننا لا ندرى ما الذى عمله خلال الفترة بين وفاة ابن فضل الله وتقلده أعلى منصب سيحصل عليه فى حياته المهنية، ألا وهو منصب محتسب القاهرة، فى رجب سنة 801ه/ مارس 1399م، الذى سيشغله مرتين تاليتين، وإن لم يمكث فيه طويلًا.
ولا يخبرنا المقريزى نفسُهُ فى أيٍّ من كتبه بتركه ديوان الإنشاء، أو بما شغل نفسه به فى تسعينيات القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، ولو أننا نعلم أنه كان لا يزال يتقلَّب فى دوائر السُّلطة، بل يتقرَّب من عدد من الموظفين والأمراء الكبار والصغار فى الدولة ممن ساعدوه -ولا بُدَّ- فى الحصول على المناصب التى سيتعيَّش منها.
ولعل المقريزى قد تحوَّل خلال بعض سنوات هذه الفترة إلى المناصب الدينية بدلًا من المناصب الوظيفية البحتة، وإن لم يصرِّح هو نفسه بشيء فى هذا الصدد، بل تأتينا المعلومات من مترجميه الكُثُر، ويثبت السخاوى عدة وظائف شغلها المقريزى دون ذكر لتاريخها، ويشاركه فى ذكر بعضها ابنُ فهد، وهو أقرب إلى المقريزى من السخاوي، وليس متحاملًا عليه كالسخاوي، وهذه المناصب هي: خطابة جامع عمرو بن العاص فى الفسطاط، ونظر جامع الحاكم بأمر الله فى القاهرة والإمامة به، ثم يضيف السخاوى منصبين مشابهين وقليلى الأهمية نسبيًّا: الخطابة بمدرسة السلطان حسن، والنيابة فى الحُكْم، وهو منصب مساعد القاضي، وكان يشغله عادةً عدد كبير من الشهود، أى أنه منصب صغير حقًّا.
ويخبرنا السخاوى فى سياق آخر أن المقريزى شغل وظيفة الخطابة فى جامع عمرو سنة 803ه/1405م، أى بعد عزله من الحسبة، ويحكى المقريزى نفسُهُ أنه تولى الخطابة بجامع عمرو بن العاص فى سنة 805ه، واستناب عنه غيرَ نائبٍ فى عدة مناسبات، أى أن هاتين الوظيفتين الدينيتين على الأقل قد جاءتا للمقريزى بعد إعفائه من تولى الحسبة فى المرتين الأوليين لا قبلهما، بل ربما كانتا تعويضًا عن خسرانه فى مجال الوظائف التنفيذية حصل عليه عن طريق واحد أو أكثر من رُعَاته الذين ساعدوه فى الحصول على هذه الوظائف متوسطة الأهمية فى القاهرة (وعلى الرغم من الأهمية التاريخية لجامعَى الحاكم وعمرو بن العاص، فقد كانا جامعين ثانويين فى القرن الرابع عشر الميلادى الذى كانت القاهرة تحفل خلاله بالجوامع والمدارس المملوكية الجديدة المدعومة بأوقاف هائلة).
وهناك وظائف أخرى سيشغلها المقريزى فيما بعد خلال إقامته فى دمشق سنعود إليها، وسنعود أيضًا إلى دعوى السخاوى أن المقريزى قرأ الحديث بالجامع المؤيدى (أى بعد سنة 824ه/ 1421م) بدلًا من محب الدين بن نصر الله، وهو ابن عائلة متنفذة أحب أفرادُهَا المقريزى وأسبغوا عليه رعايتهم، ولكن هذا الحديث سابق لأوانه هنا.
على أننا -وإن جهلنا ما الذى كان المقريزى يفعله بعد ترك ديوان الإنشاء وقبل ولايته الحسبة، أو حتى ما إذا كان قد ترك ديوان الإنشاء أساسًا- نعرف أنه كان خلال هذه الفترة كلها يوثِّق صلته ببعض أكابر أمراء عصره وأعيانه، وحتى بعض سلاطينه؛ طمعًا فى الحصول على رعايتهم فى سعيه الدؤوب، كغيره من علماء عصره، إلى تقلد أعلى المناصب الممكنة، وإن كنا نفتقر إلى المعلومات الكافية التى تسمح لنا بسبر غور هذه الصلات، ومدى أهميتها فى حياة المقريزى العملية، ويبدو أن بعض هذه الصلات كانت من القوة بحيث أتاحت للمقريزى تسنم بعض المهام الكبرى والمناصب المهمة، وإن لفترات قصيرة، فى محيط كان التنافسُ فيه على هذه المناصب شديدًا، وأحيانًا خاليًا من أى اعتبار أخلاقي. وما يشغلنا هاهنا أن المقريزى لم يكن فيما يبدو يملك من الدهاء والمرونة ما يملك غالبية معاصريه ومنافسيه على هذه المناصب، كابن حجر العسقلانى والعينى وابن تغرى بردى الذى كان ابن واحد من أهم أمراء السلطان برقوق، الذين استخدموا كافة الوسائل للحصول على رعاية الأمراء الكبار والسلاطين، ولقطع الطريق على منافسيهم، ومع ذلك، فقد كان المقريزى بلا ريب أوفر نجاحًا من غيره من معاصريه ومعارفه من المؤرخين الصغار، أمثال ابن دقماق العلائى والأوحدى وابن الفرات، الذين لم يحصلوا على أى منصب مهم فى حياتهم المهنية على الرغم من أنهم كانوا جميعًا من خيرة مؤرخى عصرهم، بل إن أهمهم كمؤرخ، وهو ابن الفرات، كان من الحاجة بمكان بحيث إنه كان يتكسب بالجلوس فى حوانيت الشهود، أى أنه كان يؤجِّر نفسه شاهدًا.
وربما كان من أهم أسباب نجاح المقريزى المتواضع نسبيًّا، مقارنة بهؤلاء المؤرخين على الأقل، أنه استخدم شبكة واسعة من أصدقاء أبيه وجده ومن معارفه فى دوائر السُّلطة، ومن طبقة الكُتَّاب لتسهيل دخوله عالم الوظيفة من درجاتها الدنيا. ولما حاول الصعود بالاعتماد على صلات جديدة مع أمراء أقوياء أو سلاطين عظام، نجح فى البداية نجاحًا باهرًا، ولكنه سرعان ما سئم اللعبة أو اشمأز من شروطها ومتطلباتها، أو فشل فى المحافظة على تفوقه فيها، وبدأ بالتغير والتراجع، ولم يكن قرارُ التراجع عن التنافس الوظيفى والكف عن التزلف إلى السُّلطة قاطعًا بدرجة كافية فى البداية، بل ربما حاول المقريزى عدة مرات الحصول على رعاية متنفذين جدد يمكنهم دعمه فى العودة إلى عالم المناصب، ولكن جملة من الحوادث أو حادثًا واحدًا جللًا غيَّر اتجاهه تغييرًا جذريًّا حوالى عام 818ه/ 1415م؛ حيث كفَّ عن السعى والتناحر، وقرر التوقف عن الركض اللاهث وراء المناصب والانقطاع للعلم والكتابة والتأليف، وهذه الفترة من حياة المقريزى غير واضحة تمامًا، ولكن تراجيديا فشله فى الحصول على ما تطمح إليه نفسُهُ بسبب من شعوره بالتفوق، وتقززه من النزول إلى الدرك اللاأخلاقى الذى يتطلبه التنافس على المناصب اجتمعا معًا لكى يخلقا المؤرخ الناقد الحاد، وهى الصورة التى آل إليها المقريزيُّ خلال الشطر الثانى من حياته، فأمسى بحق وجدان التاريخ المصري، على الرغم من الانتقادات الكثيرة -والصحيحة فى بعض الأحيان- التى وجهها إليه بعضُ معاصريه وبعض الباحثين المعاصرين، وبخاصة فيما يتعلَّق بإغفاله ذكر مصادره سهوًا أو عمدًا.
العلاقة مع الأمراء والسلاطين
حظى المقريزى برعاية طائفة من أهم أمراء عصره فى نهاية القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، أى حين كان لا يزال فى ديوان الإنشاء، بل ربما من خلال عمله فى ديوان الإنشاء، أو من خلال بعض أصدقائه أو أصدقاء أبيه وجده، وهو يخبرنا فى سياق ترجماته التى ضمَّنها كتابه «درر العقود الفريدة» بمعظم هذه الصلات مع الأمراء فى لغة حيادية، مبتسرة، وأحيانًا مترفعة بعض الشيء، كما لو أنه، وهو يكتب هذه التراجم فى كهولته، كان يشعر ببعض الخجل من تكالبه على الرعاية فى بداية حياته المهنية، وببعض الترفع فى عزلته حين كف عن التزلف إلى السُّلطة، وأصبح سيد نفسه الحرة، أو ربما لأنه لم يتخل قط عن الشعور بالتفوق على أرباب السيف بوصفه عالمًا وأحد أرباب الأقلام، وهذه واحدة من الخصال الاجتماعية الرئيسة التى سنعود إليها لاحقًا، والتى تظهر عند المقريزى بوضوح، ولكنها تميز إجمالًا طبقة العلماء خلال العصر المملوكي؛ إذ كانوا يستشعرون فى بواطن نفوسهم هذا التفوق، ويعبِّرون عنه تصريحًا وتلميحًا فى مؤلفاتهم، وفى تصويرهم للمماليك، وإن لم يجهروا بهذا الشعور؛ خوفًا من نقمة المماليك أو طمعًا فى رعايتهم.
ويصرِّح المقريزى بهذا الشعور مرارًا فى «الدرر»، ويشير إليه أحيانًا فى «السلوك»، وخاصة عندما يتكلم عن جهل المماليك المعاصرين له وطمعهم وفسادهم وغلظتهم سواء أكانوا أمراء أم سلاطين، ولكنه يميز أحيانًا فى تراجمه لأمراء المماليك بين الصالح والطالح، ويثبت هذا التمييز حتى عندما يكون كلا النموذجين من رعاته الذين ساعدوه فى الارتقاء فى المناصب، وفى هذا الميل تبرير كافٍ لنقد المقريزى القاسى للسلطان برقوق الذى شهد العز فى عهده، والذى قربه ونادمه وأعطاه جاريته (سول) التى تولَّه بها كما مر بنا، فهو يكيل لبرقوق أشنع الاتهامات، وإن لاحظ بعض الباحثين تغيرًا فى حدة النقد الموجَّه إلى السلطان بين فترة حكمه الأولى وفترة حكمه الثانية، حين كان المقريزى قريبًا منه، بل ربما من حاشيته، ولو أن بعض الدلائل تشير إلى عكس ذلك.
وسوف نرجع إلى هذا الموضوع مرة أخرى عند البحث فى نقد المقريزى للسُّلطة؛ لكى نبيِّن أنه خلال الشطر الثانى من عمره لم يهادن قط فى نقده وفى تتبعه لمثالب سلاطين زمانه وأمرائه، وهو ما يندرج تحت الإطار الشرعى الذى وضعه لنفسه، وتأثَّر فيه بالخوف على بلده مصر من الخراب والفساد.
والحق أن هذا الإطار الأخلاقى المحافظ يظهر أكثر ما يظهر فى تراجم الأمراء المماليك الذين رضى المقريزى عنهم بسبب امتثالهم للشرع وعملهم بأحكامه، بخشونة وحدة أحيانًا، وخلال فترة احتكاكه بهم، فهو يقدِّم مثلًا ترجمة فى «درر عقوده» للأمير سودون الفخرى الشيخونى (ت. 798ه) الذى كان نائبًا للسلطنة على عهد برقوق، تفُوق فى تتبعها لتدينه وعمله بالشرع كلَّ التراجم الأخرى التى يُثْبِتُهَا غيرُهُ من المؤرخين، ويخبرنا المقريزى فى هذه الترجمة بأن سودون كان: «من خير أمراء المسلمين عِفَّةً وصيانة ولزوم صوم ومواظبة قيام الليل وإنكارًا للمنكرات ومحبة للفقراء وأهل الخير مع سلامة باطن، حتى صارت تُحكى عنه حكايات كحكايات قراقوش»، ولا يتوقف المقريزى فى وصفه لتدين سودون الشيخونى عند صفاته الشخصية وعباداته وأخلاقه، بل يخبرنا بأن الأمير عندما عُيِّن حاجب الحُجَّاب فى بداية سلطنة الظاهر برقوق سنة 784ه، «تتبع أهل الفساد ومنع من إظهار المنكرات وأراق الخمور، وعبث بأَكَلَة الحشيش، فقلع أضراسهم»، وهى كلها تطبيقات للسياسة الشرعية التى يحبِّذها المقريزى الذى يختتم ترجمته قائلًا: «ولقد صحبت الأمير سودون فما كان وجوده إلا رحمة من الله تعالى لخلقه الذين يتقيدون بشرعه طبعًا، فلقد اختل أمر الظاهر بعد موت سودون، وتظاهر من المنكر بما لم يكن يُعْرف عنه، فعلم أهل العرفان أنه كان يترك ذلك حياءً من الأمير سودون؛ لما كان يُعْرَف به من التشدد والإنكار بإنكار المنكر»، ويبدو سودون فى هذه الجملة المقتضبة خلاف برقوق من حيث التزامه بأحكام الشرع وتشدده فى تطبيقه حتى إن السلطان كان يهابه، أى أن سودون كان دعامة إسلامية لحكم برقوق من وجهة نظر المقريزى العالم المتدين، وبفقده فقد برقوق هذه الخصلة.
ويظهر تفرُّد أحكام المقريزى على معاصريه إذا قارنا ما ذكره هو عن سودون الشيخونى وما ذكره زميلُهُ وصديقه ابن حجر العسقلانى الذى لم يلاحظ فى ترجمته المختصرة لسودون فى «إنباء الغمر» سوى أن سودون كان: «محبًّا فى الصالحين، مع غفلة فيه حتى إن بعض الناس جمع من أحكامه شيئًا يحاكى المجموع من أحكام قراقوش، وكان الملك الظاهر يحترمه ويعظِّمه، ولم يتظاهر بالمنكرات إلا بعد أن خمل ولزم بيته»، فابن حجر يركز على دور سودون فى تصرفات برقوق، وهى ملاحظة تاريخية سياسية، ولكنه لا يلتفت إلى تقيُّد سودون بالشرع فى أحكامه، على الرغم من كونه قاضى قضاة أولًا وأخيرًا، وهو يركِّز على غفلة سودون التى خفَّف من وقعها المقريزى مع إثباته لما يردده الناس، ولا يلاحظ ابن حجر سوى محبة سودون فى الصالحين، وهى صفة تؤكد الغفلة ولا تلتفت إلى الحزم الذى يظهر من أحكامه المتشددة التى يوردها المقريزي.
وأما ابن تغرى بردي، الذى يورد فى «المنهل الصافي» ترجمة وافية لسودون الشيخوني، فيذكر بعض الأحداث التى تبيِّن ولاء سودون لبرقوق وتبرِّر عظم مهابته فى الدولة الظاهرية (وهى كلها مُثْبَتَةٌ فى أحداث السلوك للمقريزي)، ثم يقول: «وكان أميرًا جليلًا وقورًا وافر الحرمة، ديِّنًا خيِّرًا، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، يُضرَب بجوده المثل»، ثم يقتطف من كلام المقريزى ما يؤكد تدين سودون، ومن كلام بدر الدين العينى ما يؤكِّد عفته وطهره وتعلقه بالفقراء (الصوفية) وغفلته وجذبته، ويختتم الترجمة بالعودة إلى قصة أحكامه القراقوشية، وكيف عمل الشاعر الماجن فخر الدين بن مكانس كتابًا يستهزئ فيه من أحكام سودون (وهو ما شكَّك فيه المقريزي، وسمَّى ابن مكانس «الفويسق» تصغيرًا له) ليختمها بشهادة شخصية من بعض المماليك الذين خدموا عند والده الأمير تغرى بردي، ورووا لابن تغرى بردى كثيرًا من القصص عن تدين سودون وتعقله.
أى أن المقريزى هو الوحيد الذى يركِّز فى ترجمته على الناحية الشرعية فى حُكْمِه على سياسة سودون وعلى تصرفاته فى السُّلطة، ويخلص منها إلى الثناء على الأمير.
ويصدق الأمرُ نفسُهُ على ترجمة المقريزى المسهبة فى «الدرر» للأمير يلبغا السالمى الذى كان من أكابر الأمراء فى دولة الناصر فرج بن برقوق، واحتل مناصب أستادار السلطان والوزير ومشير الدولة إلى أن قُتل فى سجنه بالإسكندرية سنة 811ه؛ بسعاية الحُسَّاد والوشاة، ويورد المقريزى كثيرًا من محاسنه، ولكنه يركز على تدينه وورعه وتقيُّده بأحكام الشرع، ويسهب فى ذلك؛ فيؤكد قيامه بالعبادات إلى حدٍّ زائد من قيام الليل والمواظبة على السُّنن والنوافل وصيام الأيام الفاضلة، على الرغم من كثرة مشاغله السلطانية، ويضيف إلى ذلك بعض الصفات التى تليق بالحاكم المسلم، وبخاصة فى ذلك العصر الذى عاب عليه المقريزى انتشار البراطيل والرشاوى؛ مثل: «العفة حتى عن قبول الهدية، والمروءة الزائدة، والقيام مع مَن يقصده، والكرم وبذل اليد بالصدقات التى يخرج فيها عن الحدِّ»، ومثل: «إبطال مظالم كثيرة» كالمكوس المفروضة على الوظائف والغلال والتجارة والزراعة، وقد أُعيدت كلها بعده، ومثل: «إتلافه الخمور التى تُعصر على جاه الديوان»، و«محاولته التشديد على أهل الذمة لولا ممانعة الأمراء له»، وأخيرًا ضربه دينارًا ذهبًا جديدًا عُرف بالدينار السالمى عوضًا عن الدينار الإفرنجى الرائج آنذاك، وهو الدينار الذى حمل شعار النصرانية (أى الصليب).
ولا بُدَّ أن هذه التصرفات كلها كانت تُشبع رغبة المقريزى فى تطبيق أحكام الشرع كما عرفها وفهمها، وهى بالتالى مستحبة والقائم عليها مشكور. ولم يكتف المقريزى بإيراد أخلاق يلبغا السالمى الإسلامية، وإنما أضاف إليها تحصيلَهُ للعلم وتفقهه وتصوفه وإتقانه للخط والقراءات السبع، والنظر فى النجوم والحساب، وهى كلُّها علوم أتقنها المقريزيُّ نفسه، ولكن المقريزي، كغيره، يأخذ على يلبغا تشدده وتعسفه فى استخراج الأموال وتطبيق القرارات المتعسفة واعتداده برأيه وتسفيهه لآراء الآخرين؛ مما أدى إلى انقلاب الناس عليه وسقوطه وقتله، بل إنه يختتم خبر قتل السالمى فى «السلوك» بعبارة فيها من الذم أكثر من المدح؛ إذ يقول: «وكان مخبطًا، خلط عملًا صالحًا بعمل سيئ»، دون أن يخبرنا هل نصحه إبان سنوات اتصاله به أم لا؟، بيد أنه يختتم ترجمته فى «درر العقود» قائلًا: «صحبته سفرًا وحضرًا، وكان لى مبجِّلًا ومعظِّمًا، وقلَّ ما رأيتُ مثله، ولولا ما ذكرتُهُ لكمل»، وليس فى هذا غرابة؛ فالأوصاف التى يضفيها المقريزى على يلبغا السالمى تنطبق عليه أيضًا مع اختلاف المقام والجاه والسطوة.
ولئن قدَّم ابن حجر فى «إنباء الغمر» صورة وافية لحياة يلبغا، فإنها أقصر من ترجمة المقريزى وأقل تفصيلًا بما لا يتقارب، كما أنها تفتقر إلى التعاطف الظاهر فى ترجمة المقريزي، والتفهم الذى يبديه تُجاه ميول السالمى الشرعية، على الرغم من أن ابن حجر كان يعرف السالمى معرفة شخصية. ويضيف ابن حجر ملاحظتين عن اهتمام السالمى بالعلم تقلِّلان من شأن إنجازه، كعادة العلماء فى رفض تطلع المماليك إلى الاشتغال بالعلم؛ إذ يقول: «وكان طول عمره يلازم الاشتغال بالعلم، ولم يُفتح عليه بشيء منه سوى أنه يصوم يومًا بعد يوم، ويكثر التلاوة وقيام الليل والذكر والصدقة».
وما أبعد هذه العبارة عن عبارة المقريزى المشابهة التى تعترف بتدين السالمي، ولا تأخذ عليه عدم إتقانه للعلم، وأما الملاحظة الثانية التى يوردها ابنُ حجر ولا ذِكر لها عند المقريزى فهى أن السالمي: «كان يبالغ فى حب ابن عربى وغيره من أهل طريقته، ولا يؤذى مَن ينكر عليه»، أعاد صياغتها السخاوى تلميذ ابن حجر الهجَّاء؛ لكى يثبتها على يلبغا، ولكنها فاتت على المقريزى أو أنه تركها قصدًا؛ ربما لأنه لم يجد فى تعظيم السالمى لابن عربي، صاحب فلسفة وحدة الوجود، غضاضة، أو أنه لم يُرِد لنقده للسالمى أن يتجاوز عسفه واعتداده وبأسه.
ومن الممكن أن نلاحظ كيف اختلف تقييم المقريزى للأمراء الذين عاشرهم أو استفاد منهم بحسب حُكْمِه على التزامهم بتعاليم الدِّين والشرع، وبغض النظر عما استفاده من صلته بهم من خلال مقارنة ترجمتيه لسودون الشيخونى ويلبغا السالمى وترجمته لغيرهم من الأمراء الذين عرفهم، من أمثال: سودون الظاهري، وجانبك الأشرفى الدوادار، ويشبك الشعباني، وشيخ الصفوي.
عندما تعرف المقريزى إلى الأمير جانبك الأشرفى دوادار السلطان برسباى (ت. 831ه) كانت حاجته إلى رعاية أميرية قد انتفت؛ نظرًا لأنه التقى به بعد ابتعاده عن عالم التنافس على المناصب عام 825ه خلال واحدة من رحلات حجه، وصحبه خلال الحج ووعظه مرارًا على حد قوله، ولكن نفس المقريزى «لم تمل إلى صحبته»، على الرغم من أن الأمير كان يصغى إلى وعظه خلال الحج وأنه، أى جانبك، قد رغب فى الاجتماع بالمقريزى مرارًا بعد عودتهما من الحج، ويقول المقريزي: «فحمانى الله ووقاني»، ولا يزيد؛ مما يسمح لنا بطرح تأويلين مختلفين على الأقل لهذه العبارة، وإن بدت نتيجتهما واحدة؛ أما التأويل الأول: فهو أن المقريزى قصد أن الله حماه ووقاه من إغراء العودة إلى كواليس السُّلطة، والوقوع فى شَرك التمسح بأصحاب السُّلطة والتزلف إليهم بعد أن ترك التنافس على المناصب بمدة طويلة، وأما التأويل الثاني: فهو أن الله حماه من غضب الأمير عليه لتمنعه عن لقائه، على الرغم من أن هذا الأخير كان «يقظًا، شهمًا، ذكيًّا، فطنًا»، ولكنه بالإضافة إلى ذلك كان «خفيفًا، كثير الزهو والإعجاب، تحدِّثه نفسه بأمور لم تقدَّر له»؛ لأنه مات وهو دون الثلاثين من العمر بعد مرض طويل، هذا التأويل يعيدنا إلى التناقض الأولى بين الأمراء والعلماء وإلى مأزقه المبدئي: عدم التكافؤ فى القوة والجاه والقدرة على العنف بين الطبقتين؛ الأمر الذى أفضى إلى الحكم على العلاقة بتبعية العلماء للأمراء مع ما تجره هذه التبعية من انتقاص لدور العلم (والمقصود هنا طبعًا العلم الديني، وعلى رأسه الفقه أساس التشريع)، وتهميشِ مقدرة العلماء على التأثير على السياسة العامة للدولة التى ظلت فى الغالب حكرًا على أهل السيف، إلا فيما ندر، عندما خرج من طبقة العلماء أفراد قادرون على المناورة والتأثير على السياسة، وفى المقابل، أدت هذه التبعية إلى ظهور تشوهات نفسية فى الوعى الجمعى للعلماء، تمثَّلت أكثر ما تمثلت فى اعتمادهم على الرياء والنفاق، وإحساسهم بتضخم دورهم، واشتعال التنافس الحاد والحسد فيما بينهم، واستخدامهم الكتابة للتنفيس عن شعورهم بالدونية فى الانتقاص من قدرات الأمراء العلمية والاجتماعية.
ولا يختلف موقف المقريزى عن هذا الموقف الجمعى لعلماء عصره خلال الفترة التى شهدت سعيه فى كواليس السُّلطة للحصول على المناصب؛ حيث لجأ إلى الرياء والمداهنة والتورية فى الكتابة كما يفعل غيره، وإن كان قطعًا أكثر احتشامًا وتجنبًا للألفاظ الجارحة أو البذيئة بحكم نزعته المحافظة، وأكثر ميلًا للأمراء الذين يُظهرون التقيد بالشرع وأوامره ونواهيه، ولكنه سيختلف جذريًّا، كما سنرى، حين قرر التوقف عن هذا السباق اللاهث والاعتكاف فى منزله للكتابة؛ إذ إنه سيوجه سهام نقده إلى أصحاب السُّلطة مهما علت منزلتهم، لا يستثنى منهم سلاطين زمانه، دون خوف من انتقامهم لسبب ما زلنا نجهل تفاصيله، وإن كنا سنعجب بنتائجه.
على أن هذا التغير لن يظهر إلا فى الثلاثين سنة الأخيرة من حياة المقريزي، وسينحصر وجوده فى كتاباته التاريخية، وبشكل خاص فى «الخطط» و«السلوك» و«كشف الغمة» و«شذور العقود»، وهى المؤلفات الرئيسة التى تتعلق بالعصر المملوكي، وبخاصة الفترة التى عاصرها المقريزي. وستكون لنا عودة إلى هذا الموضوع، نعرض له فيها بالدرس المستفيض.
وأما المقريزى فى بداية حياته المهنية فيظهر أنه كان يتبع مبدأ غيره من العلماء الطامحين إلى المناصب، وقد سعى إلى الحصول على رعاية أى من الأمراء الذين أمكنه الاتصالُ بهم، سواء أكان اتصاله بهم مباشرًا أم من خلال الوسطاء، ومن أهم الأمراء الذين كان للمقريزى فيما يبدو صلة به فى قمة حياته المهنية، وفقًا لرأى السخاوى على الأقل، الأمير يشبك الشعبانى الأتابكي، الذى لعب أدوارًا مهمة فى الدولة إبان عهدَى برقوق وابنه فرج إلى أن وقف مع الفئة الخاسرة، شيخ المحمودى ونوروز (عام 810ه/1407م)، ضد السلطان فرج، فكان مصيره القتل، ولكن المقريزى لم يُشر مطلقًا إلى أن له علاقة به فى ترجمته فى «الدرر» أو «السلوك»، على حين يدعى السخاوى أن المقريزى «صحب يشبك الدوادار وقتًا ونالته منه دنيا، بل يقال: إنه أودع عنده نقدًا»؛ مما يطرح تساؤلًا آخر: هل تحامل السخاوى على المقريزي؟، وبخاصة أنه توسع فى النقل عنه فى «الضوء»، ولا بُدَّ أنه لاحظ أن المقريزى لا يصرح بأن له علاقة تربطه بالأمير الذى كان راعيًا لابن خلدون.
وأما الأمير الآخر الذى حظى المقريزيُّ عنده فى بداية صعوده الوظيفى فهو الأمير شيخ الصفوي، أمير مجلس، المعروف بشيخ الخاصكي، الذى مات سجينًا فى قلعة المرقب، ولا يخبرنا المقريزى فى ترجمته الناقصة لشيخ الصفوى فى «الدرر» أو «السلوك» بأنه قد استفاد منه أو أنه كان يعرفه، وهو يثبت فقط ما عُرف عن الأمير شيخ من الانهماك فى اللذات والفساد والفاحشة، ولكنه لا يغمطه حقَّه فى المعرفة والحشمة ومحبة العلماء (وهى صفة مهمة لكل العلماء كما نعرف) والذكاء والفطنة، ويركز فى الأساس على حسنه وجماله، وكأنه يلمح إلى تهتكه الذى تسبب فى سجنه وموته فى نهاية المطاف، ولكن المقريزى يفصح عن صلته بشيخ الصفوى فى ترجمة فقيه آخر من أولاد الناس، هو أحمد بن كندغدى الفقيه الحنفي؛ إذ يقول: إن ابن كندغدى صحب الأمير شيخ الصفوي، وهو الذى عرَّفه به عندما كان أمير مجلس «لصحبة أبى لأبيه حيث خدم الاثنان الأمير آقتمر الحنبلى نائب السلطنة وصحبتى أنا له هو»، ولكنه لا يورد شيئًا من التفاصيل المتعلقة برعاية شيخ الصفوى له، وهو الأمير الذى عُرف بمجالسة العلماء ورعايتهم ومطارحتهم المسائل وتعاطى الفقه والكلام، حتى إن بدر الدين العيني، أهم منافسى المقريزى فى التاريخ، ألَّف له مختصرًا من كتابَى فقه كوسيلة تقرب منه، وربما أدت هذه الصلة إلى اتصال المقريزى بالسلطان برقوق، الذى كان شيخ الصفوى من خلصائه المقربين فى نهاية الفترة الثانية من حكمه، قبل أن يغضب عليه ويعزله عن مناصبه ويسمح له بالإقامة بطَّالًا فى القدس، على نحو أشبه بالإقامة الجبرية اليوم، ثم آل به الأمر إلى الاعتقال فى قلعة المرقب على الساحل السورى بسبب شكوى الناس منه فى القدس، على ما قال مترجموه؛ لإغرائه أبناءهم بمقارفة الفاحشة، ومات شيخ الصفوى شابًّا فى سجنه بعد أقل من سنة على اعتقاله فى ربيع الآخر سنة 801ه/ ديسمبر 1398م.
والراجح أن اتصال المقريزى ببرقوق، إن كان قد حصل فعلًا، قد تم بوساطة أحمد بن كندغدى الذى تمكن بوسيلة لا علم لنا بها -وإن كان لها فى الغالب علاقة بكون ابن كندغدى من أولاد الناس ومتقنًا للتركية- من التقرب من السلطان الذى اختص به، وسمح له بالمبيت عنده، فقويت شوكتُهُ واكتسب قوة وجاهًا على عادة أن القرب من مركز السُّلْطة فى الأنظمة السلطانية سلطة أيضًا.
ولكن السلطان غضب على ابن كندغدى هذا بسبب اتهامه بأنه رخَّص للسلطان فى شُرْب النبيذ على قاعدة مذهبه الحنفى قبيل وفاته بقليل؛ مما أثار غضب الفقهاء واستهجانهم، أى فى الفترة نفسها التى كان فيها المقريزيُّ فى أعلى مراتبه دائرًا فى فلك السُّلطة، وربما فى فلك السلطان أيضًا.
فابن تغرى بردي، وهو القريب من المقريزى وإن كان موقفه منه غامضًا، يخبرنا بأن برقوق: «قرَّب المقريزي ونادمه وولَّاه حسبة القاهرة». ويقرِّر السخاويُّ اتصال المقريزى بالسلطان برقوق ودخوله دمشق لاحقًا مع فرج بن برقوق، ولكنه لا يحدِّد كيف استفاد المقريزى من هاتين الصلتين.
فما نعرفه هو أن المقريزى حصل على وظيفة الحسبة فى 11 رجب سنة 801ه/ 19 مارس 1399م، أي: قبل ثلاثة أشهر فقط من موت السلطان برقوق فى 15 شوال سنة 801ه/20 يونيو 1399م، ولو أنه يحدد تاريخ توليه ب 12 رجب، وما نعرفه أيضًا هو أن المقريزى حصل على الجارية سول التى نشأت فى بيت السلطان، وأُعطيت له وهى عذراء فى الخامسة عشرة من عمرها فى السنة نفسها، قطعًا كأعطية من السلطان؛ مما يعزز الاعتقاد بأنه كان نديمًا للسلطان، أو على الأقل مقرَّبًا منه فى هذه السنة الأخيرة من حياته. ولكن مَن كان وسيلة الوصل والوصول هذه؟.
لا يمكن أن يكون شيخ الصفوى أو ابن كندغدى السبب المباشر لحصول المقريزى على منصب الحسبة، وإن بدا ممكنًا أن يكونا كلاهما أو أحدهما سبب اتصال المقريزى الأصلى بالسلطان برقوق؛ فالأول كان مبعدًا فى القدس ومات بقلعة المرقب فى السنة السابقة على ولاية المقريزى للحسبة، والثانى كان مُبْعَدًا من السلطان فى آخر عمره، أى السنة التى تولى فيها المقريزيُّ الحسبة، ومن الممكن طبعًا أن يكون أحد هذين الأميرين قد عرَّف السلطان بالمقريزي، الذى تمكن بعد ذلك بفضل «حسن محاضرته وحلو منادمته» -على قول ابن تغرى بردي- من الانخراط فى حاشية السلطان المقربة ومنادمته والتمتع بأعطياته، ولكنه فى الغالب كان لا يزال بحاجة إلى راعٍ أو حامٍ له فى هذه المرحلة من حياته، وفى عش الزنابير هذا الذى وجد نفسه فيه، ويمكن أن يكون راعيه فى هذه الفترة الأمير يشبك الشعبانى الأتابكى الذى ترقى أيضًا فى الخدمة السلطانية، وكان، بحُكْم كونه أميرًا مملوكيًّا، أوسع نفوذًا من أصحاب القلم حول السلطان، ولكننا لا نملك من المعلومات سوى ادعاء السخاوى أن المقريزى تزلَّف إلى الأمير يشبك الشعباني، ولا يمكننا أن نعرف عمق هذه الصلة أو حتى صحتها. والحق أن الشخص الوحيد الذى نعرف عن تفاصيل علاقته بالمقريزى ما يسمح لنا باعتباره راعى المقريزى الرئيسى آنذاك ولسنين عديدة هو كاتب السر فتح الدين فتح الله بن مستعصم بن نفيس الإسرائيلى الداوودى التبريزى الحنفى (ت. 816ه).
وينتسب فتح الله هذا إلى أسرة يهودية من تبريز غلب على أبنائها الاشتغال بالطب، وقد أسلم جدُّه على يدى السلطان الناصر حسن، وبدأ حياته المهنية طبيبًا مثل جده وعمه بديع، اللذين خدما سلاطين مصر، وبرع فى فنه.
وقد تعرَّف فتح الله إلى شيخ الصفوى حين كان هذا الأخير مملوكًا قبل أن يترقى فى بلاط السلطان برقوق، فترقى فتح الله معه بحكم قربه الشديد منه؛ حيث زوَّجه شيخ الصفوى بأمه فى ترتيب غريب لا يمكن توقع حدوثه إلا فى الدولة المملوكية بما عُرفت به من علاقات تحالف معقدة بين الأمراء المجلوبين والموظفين المهمين الذين يديرون لهم دولتهم.
وقد عهد شيخ الصفوى إلى زوج أمه بجميع شأنه وأسكنه معه فى منزله؛ «فعظم قدره واشتهر ذكره» بعبارة المقريزي. ولا بُدَّ أن المقريزى قابل فتح الله خلال تلك الفترة عن طريق شيخ الصفوي؛ إذ إنه، كما رأينا، قد تعرف إلى شيخ بوساطة ابن كندغدي.
ويمكن أن يكون شيخ الصفوى هو مَن عرَّف فتح الله بالسلطان برقوق قبل نفيه إلى القدس وقلعة المرقب بعدها، ولو أنه لم يكن بحاجة إلى هذه الواسطة؛ إذ إن عمه بديع بن نفيس كان طبيب السلطان الخاص، فلما مات سنة 797ه عيَّن برقوق فتح الله مكانه، فحُمِدَت سيرته فى منصبه، ولم يمض وقتٌ طويل حتى عيَّنه السلطان كاتب سره فى 11 جمادى الأولى 801ه/ 19 يناير 1399م، وبقى فى منصبه مع انتقال السلطنة من برقوق إلى ابنه فرج فى شوال 801ه/ يوليو 1399م، أى أنه كان فى مركز مهم قبل ولاية المقريزى للحسبة، فهل هذا دليل على أن فتح الله قد مهَّد السبيل أمام المقريزى للحصول على هذا المنصب؟، لا نستطيع بالطبع الإجابة على هذا السؤال، وإن كنا نعلم أن المقريزى قد لازم فتح الله فيما بعد حتى مقتله؛ مما يدل على عمق الصلة بينهما، ولن يمكننا كذلك التأكد مما لو كان هناك أية صلة بين إعادة ابن خلدون إلى منصب قاضى القضاة المالكى فى 15 رمضان 801ه/ 21 مايو 1399ه، وتعيين المقريزى فى الحسبة بعد فترة وجيزة من ذلك، وبخاصة أن هذا النمط سيتكرر ثانية عام 807ه/1405م خلال حكم فرج بن برقوق؛ إذ إن الاثنين سيتقلدان المنصبين ذاتيهما ويُصرفان منهما بفارق بضعة أيام، ولا نعلم على وجه اليقين صلة هؤلاء المعينين ببعضهم البعض، ولو أن المقريزى كان قريبًا من الرجلين كليهما، فتح الله وابن خلدون، اللذين لا نعرف شيئًا عن الصلة الجامعة بينهما، إن وجدت.
فهل نحن أمام مجموعة من العلماء ساعد أفرادها بعضهم بعضًا فى الوصول إلى مناصب مهمة فى الدولة، أى أنهم شكلوا «مجموعة مصالح» ((Community of Interest كما يقول مجتمع الأعمال اليوم؟، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون صدفة اعتمدت أكثر ما اعتمدت على الرعاة الذين دعموا هؤلاء الثلاثة على نحو منفصل فيما يبدو، وعلى رأسهم السلطان برقوق نفسه؟.
مهما كان الأمر، فمن الواضح أن المقريزى قد بلغ مطالع القرن التاسع الهجرى (أو أواخر القرن الرابع عشر الميلادي) أعلى منصب إدارى سيصل إليه فى حياته (وهو الحسبة)، وأن الطريق إلى الصعود فى سُلَّم المناصب كان يبدو معبَّدًا ومضمونًا من منظور تلك اللحظة بالنسبة له، فصل من كتاب ناصر الربَّاط «تقى الدين المقريزي.. وجدان التاريخ المصري» والصادر عن دار «تراث» للنشر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.