"إكسترا نيوز "تعرض فيديوجراف عن خطة المواطن الاستثمارية في محافظة الفيوم    تعرف على سعر الأرز اليوم الجمعة 17-5-2024 في الأسواق    واشنطن: من حق إسرائيل ملاحقة عناصر حماس دون اجتياح رفح    جيش الاحتلال ينسف مباني سكنية شرق رفح الفلسطينية    مسلحون يقتلون 3 سائحين أجانب في أفغانستان    اختبار صعب لطلعت يوسف، موعد مباراة فيوتشر والزمالك بالدوري المصري    الدوري السعودي، النصر يتفوق علي الهلال في الشوط الأول بهدف    أحمد جلال يروي تفاصيل "علقة حلوة" تعرض لها داخل الزمالك بسبب حبيبته    يسرا تحتفل بميلاد الزعيم عادل إمام وتوجه له هذه الرسالة    بالصور- حمادة فتح الله وسارة مكاتب أول حضور زفاف ريم سامي    استمرار تراجع العملة النيجيرية رغم تدخل البنك المركزي    طلاب جامعة الأقصر يشاركون في ختام البرنامج التدريبي لقادة المستقبل    وزير الاتصالات يبحث مع سفير التشيك تعزيز التعاون بمجالات التحول الرقمي    جداول قطارات المصيف من القاهرة للإسكندرية ومرسى مطروح - 12 صورة بمواعيد الرحلات وأرقام القطارت    إصابة طالبة سقطت من شرفة منزلها في سوهاج    حريق هائل يلتهم محتويات شقة سكنية في إسنا ب الأقصر    ضمن الخطة الاستثمارية للأوقاف .. افتتاح مسجدين بقرى محافظة المنيا    أوكرانيا تسعى جاهدة لوقف التوغل الروسي فى عمق جبهة خاركيف الجديدة    بمناسبة اليوم العالمى للمتاحف.. ننشر قائمة من 31 متحف مفتوح مجانًا للمصريين غدًا    بعد غلق دام عامين.. الحياة تعود من جديد لمتحف كفافيس في الإسكندرية (صور)    طيران الاحتلال يغتال القيادي بحماس في لبنان شرحبيل السيد «أبو عمرو» بقصف مركبة    فيديو.. المفتي: حب الوطن متأصل عن النبي وأمر ثابت في النفس بالفطرة    مدير إدارة المستشفيات بالشرقية يتفقد سير العمل بمستشفى فاقوس    حسام موافي يوضح أعراض الإصابة بانسداد الشريان التاجي    توخيل يؤكد تمسكه بالرحيل عن بايرن ميونخ    "بموافقة السعودية والإمارات".. فيفا قد يتخذ قرارا بتعليق عضوية إسرائيل    بريطانيا تتهم روسيا بتزويد كوريا الشمالية بالنفط مقابل السلاح    4 وحدات للمحطة متوقع تنفيذها في 12 عاما.. انتهاء تركيب المستوى الأول لوعاء الاحتواء الداخلي لمفاعل الوحدة الأولى لمحطة الضبعة النووية    عمر الشناوي حفيد النجم الكبير كمال الشناوي في «واحد من الناس».. الأحد المقبل    عمرو يوسف يحتفل بتحقيق «شقو» 70 مليون جنيه    سوليفان يزور السعودية وإسرائيل بعد تعثر مفاوضات الهدنة في غزة    علماء الأزهر والأوقاف: أعلى الإسلام من شأن النفع العام    تاتيانا بوكان: سعيدة بالتجديد.. وسنقاتل في الموسم المقبل للتتويج بكل البطولات    "بسبب سلوكيات تتعارض مع قيم يوفنتوس".. إقالة أليجري من منصبه    أحمد السقا: أنا هموت قدام الكاميرا.. وابني هيدخل القوات الجوية بسبب «السرب»    دعاء آخر ساعة من يوم الجمعة للرزق.. «اللهم ارزقنا حلالا طيبا»    الوضع الكارثى بكليات الحقوق    محافظ أسيوط ومساعد وزير الصحة يتفقدان موقع إنشاء مستشفى القوصية المركزي    وزارة العمل تعلن عن 2772 فُرصة عمل جديدة فى 45 شركة خاصة فى 9 مُحافظات    رئيس جهاز دمياط الجديدة يستقبل لجنة تقييم مسابقة أفضل مدينة بالهيئة للعام الحالي    موعد عيد الأضحى المبارك 2024.. بدأ العد التنازلي ل وقفة عرفات    «جمارك القاهرة» تحبط محاولة تهريب 4 آلاف قرص مخدر    «تقدر في 10 أيام».. موعد مراجعات الثانوية العامة في مطروح    إعلام فلسطيني: شهيدان ومصاب في قصف إسرائيلي استهدف مواطنين بحي الزهور    فريق قسطرة القلب ب«الإسماعيلية الطبي» يحصد المركز الأول في مؤتمر بألمانيا    «المستشفيات التعليمية» تكرم المتميزين من فرق التمريض.. صور    المقاومة الإسلامية في العراق تقصف هدفا إسرائيليا في إيلات بالطيران المسيّر    «المرض» يكتب النهاية في حياة المراسل أحمد نوير.. حزن رياضي وإعلامي    بالصور- التحفظ على 337 أسطوانة بوتاجاز لاستخدامها في غير أغراضها    قافلة دعوية مشتركة بين الأوقاف والإفتاء والأزهر الشريف بمساجد شمال سيناء    في اليوم العالمي ل«القاتل الصامت».. من هم الأشخاص الأكثر عُرضة للإصابة به ونصائح للتعامل معه؟    أوقاف دمياط تنظم 41 ندوة علمية فقهية لشرح مناسك الحج    الاتحاد العالمي للمواطن المصري: نحن على مسافة واحدة من الكيانات المصرية بالخارج    سعر جرام الذهب في مصر صباح الجمعة 17 مايو 2024    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    أحمد سليمان: "أشعر أن مصر كلها زملكاوية.. وهذا موقف التذاكر"    بعد حادثة سيدة "التجمع".. تعرف على عقوبات محاولة الخطف والاغتصاب والتهديد بالقتل    «الأرصاد»: ارتفاع درجات الحرارة اليوم.. والعظمى في القاهرة 35 مئوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
في ذكري محمود السعدني

رفع »‬السعدني» يده وقال للرئيس »‬مبارك» إنني سعيد لأنك جعلت من الحزب الوطني الحاكم حزباً سرياً فقال له »‬مبارك» ومن قال إنه سري فرد عليه »‬السعدني» علي الفور قائلاً »‬لأنه لا وجود له»!
تمر هذه الأيام ذكري رحيل الكاتب المصري الكبير »‬محمود السعدني» الذي يتحدث عنه الجميع باعتباره كاتباً صحفياً ساخراً بينما هو قبل ذلك فيلسوف معاصر له منظور خاص لكل ما حوله من بشر وشجر وحجر وهو مِن أكثر مَن عرفت إحساساً بتأثير الزمن علي الناس وذلك موضوع يستهويني كثيراً فالإنسان موقف يرتبط بلحظة معينة ولكنه قابل للتغيير تماماً وفقاً لما جري وما يجري، وعندما تركت مؤسسة الرئاسة عام 1992 توافد الكثيرون علي منزلي للتعبير عن المواساة المعتادة لكل من يترك موقعاً مرموقاً وجاءني »‬محمود السعدني» ليقول (إنني أكثر الناس إدراكاً لهذه اللحظة فقد جري استبعادي من كثير من المناصب بل وانتقلت من قرب السلطة إلي قاع الزنزانة وأعرف ردود فعل الناس) وأضاف لي أن تليفونه الذي كان يدق كل خمس دقائق أصبح لا يدق إلا كل خمسة أيام، وصدقت نبوءة »‬السعدني» فقد شعرت أن بعض ضعاف النفوس قد تحولوا وأن منافقي الأمس وحملة المباخر حولي لعدة سنوات قد أختفوا وأن الباقي فقط هم أصحاب المبادئ وذوو الخلق ممن لا يتغيرون وفقاً للظروف والمصالح، لقد كان »‬محمود السعدني» خبيراً بالنفس البشرية سبر أغوارها وفهم أعماقها وقد قال لي ذات مرة إنه اكتشف أن الذي أمر باعتقاله كل مرة هو وزير الداخلية فقام بمصادقته فإذا به يحبس مرة جديدة هو »‬وشعراوي جمعة» وزير الداخلية ذاته!، ولازلت أتذكر أول لقاء لي معه ذات يوم عام 1974 وكان هو في »‬العاصمة البريطانية» مطارداً من »‬مصر» بعد خلافه مع الرئيس الراحل »‬أنور السادات» فيما سمي »‬بقضية مراكز القوي» والتي أمضي بسببها »‬السعدني» فترة في السجون المصرية استكمالاً لفترات سابقة في عهد الرئيس الراحل »‬جمال عبد الناصر» الذي آمن به »‬السعدني» وارتبط بثورته ارتباطاً لا أعرف له مثيلاً، وذات مساء في »‬لندن» سعيت لاستقبال الكاتب الصحفي الكبير الأستاذ »‬أحمد بهاء الدين» ضمن سلسلة لقاءات منتظمة معه كلما هبط ذلك المفكر المصري بالعاصمة البريطانية وكنت أناقشه في أمور تتصل بأطروحتي للدكتوراه عن »‬الأقباط في السياسة المصرية» – مكرم عبيد نموذجاً - ولقد وجدت معه ضيفاً في ذلك المساء يجلس بجانبه ويمسك عصا مظلة المطر متكئاً عليها تحت ذقنه وينظر بازدراء لي وعرفت في الحال أنه الأستاذ »‬محمود السعدني» حيث بادره الأستاذ »‬بهاء الدين» قائلاً (هذا »‬مصطفي الفقي» سكرتير ثاني السفارة هنا وهو قريب مني منذ سنوات) فرد عليه »‬السعدني» (لابد أنه واحد من جواسيس »‬السادات» في السفارة ولا أريد أن أعرف أحداً) فقمت إلي »‬السعدني» وقبلت رأسه وقلت له سوف تكتشف أنني أقرب إليك مما تظن ومنذ تلك اللحظة زاملته سنوات »‬لندن» كاملة وتوثقت علاقتي به في »‬مصر» أكثر وأكثر فكنا نلتقي في نادي الصحفيين النهري بالجيزة حيث تكون هناك رموز دائمة الحضور من مريدي »‬السعدني» الذين يستمتعون بأعظم حكائي العصر، فالوزراء يجلسون أمامه في سعادة بالغة أذكر منهم »‬عمرو موسي» و»حسب الله الكفراوي» و»محمد عبد الحليم موسي» و»أسامة الباز» وأي محافظ للجيزة موجود في ذلك الوقت مع الوزير »‬علي والي» ورفيق عمره الحاج »‬إبراهيم نافع» بالإضافة إلي الفنان »‬عادل إمام» أحياناً والفنان »‬صلاح السعدني» غالباً وعدد آخر من رموز الأدب والفن والسياسة والكل مبهور »‬بمحمود السعدني» والترتيبات الرائعة للجلسة والموضوعات التي يتطرق إليها ذلك الفيلسوف الساخر الذي لا ينحني لأحد ولا يخضع إلا لإرادة وطنه ويجلس بيننا ابنه الوحيد الأستاذ »‬أكرم السعدني» الكاتب الصحفي حالياً، وذات مساء ذهبنا في صحبة »‬السعدني» إلي لقاء محدد مع كاتب نوبل الروائي »‬نجيب محفوظ» بمنزل الحاج »‬إبراهيم نافع» بالجيزة حيث حضر بصحبة رفيقيه »‬جمال الغيطاني» و»يوسف القعيد» وكان معنا يومها المستشار »‬عبد المجيد محمود» النائب العام الأسبق، ولازلت أتذكر ونحن في »‬لندن» أن طلب مني الأستاذ »‬أحمد بهاء الدين» تقديم »‬محمود السعدني» لزميل دراستي »‬أحمد خليفة السويدي» وزير خارجية »‬الإمارات» حينذاك بقصد إصدار جريدة عربية في »‬لندن» تكون صوتاً سياسياً ومنبراً ثقافياً للعرب والمصريين هناك وعندما أبلغت الأستاذ »‬السويدي» رحب باللقاء وطلب أن يحصل علي نسخة من كتاب »‬الولد الشقي» معنا عند زيارته، وجلسنا »‬أحمد السويدي» و»السعدني» وأنا وعندما طلب »‬السويدي» من »‬السعدني» اسم الصحيفة الجديدة رد عليه »‬السعدني» قائلا (سوف نسميها »‬القافلة») فقال له لم اخترت هذا الاسم؟ رد عليه بأنها سوف تصدر عدة أعداد ثم تغلقها السلطات فهي »‬قافلة» وضحكنا جميعا وقد كان! فلقد هاجم السعدني »‬شاه إيران» والرئيس »‬السادات» وكانت تلك محاذير بالنسبة لدولة »‬الإمارات» في ذلك الوقت، ومن نوادر الراحل العظيم »‬محمود السعدني» يوم أن التقاه الرئيس »‬السادات» في دولة »‬الكويت» لأول مرة بعد قطيعة استمرت أربع سنوات خصوصاً وأن علاقتهما كانت وثيقة لعدة عقود قبل ذلك وعملا معاً في مجال الصحافة والحياة العامة وكان »‬السعدني» و»زكريا الحجاوي» أثيران لدي قلب »‬السادات»، ولقد رتب الراحل »‬عثمان أحمد عثمان» الذي كان يحب »‬السعدني» كثيراً لقاء »‬الكويت» وعندما دخل »‬السعدني» بادر »‬السادات» قائلا (والله ما أنت قائم) ثم همس في أذنه ببضع كلمات ظل »‬السادات» يقهقه بعدها وذاب الجليد الذي صنعته ظروف 15 مايو 1971 وكان »‬السعدني» يتحدث إلي »‬السادات» وإلي كل الوزراء والمسئولين بنفس طريقة حديثه إلي بسطاء الناس والعمال والفلاحين وحين التقاه الرئيس الأسبق »‬مبارك» يوم الإفراج عنه من اعتقالات سبتمبر 1981 بادره »‬السعدني» قائلاً (إنك أول رئيس مصري يكون أصغر مني سنا فلقد كان »‬عبد الناصر» و»السادات» من مواليد 1918 وأنا من ومواليد 1927 أما أنت فمن مواليد 1928) فرد عليه الرئيس الأسبق »‬مبارك» ممازحاً في الحال قائلاً (إذاً فأنت أكبر مني في السن وبذلك وجدت سبباً احترمك به!) في مداعبة غير مألوفة من الرئيس الأسبق، وذات يوم ونحن في اجتماع عام بمؤسسة الرئاسة رفع »‬السعدني» يده وقال للرئيس »‬مبارك» إنني سعيد لأنك جعلت من الحزب الوطني الحاكم حزباً سرياً فقال له »‬مبارك» ومن قال إنه سري فرد عليه »‬السعدني» علي الفور قائلاً »‬لأنه لا وجود له»! وكما قلت من قبل فإن »‬السعدني» كان مفتوناً بأبطال كرة القدم وأقطاب تلاوة »‬القرآن الكريم».. لقد كان رجلاً رائعاً في عصر جميل لن يعود أبدا.
السودان بعد التقسيم
لدي غصة تاريخية من تقسيم »‬السودان» الذي جري منذ عدة سنوات وفي ظني أن إرادة السودانيين في مجملها لم تكن مع انفصال جنوبه عن شماله بل إنني التقيت الزعيم الجنوبي الراحل »‬جون جارانج» الذي كان وحدوياً ولا يمانع في استمرار »‬السودان» دولة مركزية يعيش فيها الشماليون والجنوبيون في ظل ديمقراطية حقيقية تعلي مبدأ المواطنة لأبناء ذلك البلد الشقيق العريق، ثم رحل »‬جارانج» في حادث طائرة غامض وبعدها مضت إجراءات تقسيم البلاد وفصل الجنوب عن الشمال بسرعة وسلاسة توحي بأن مقايضة قد حدثت ليغمض الغرب عينه عن خروقات سودانية من أجل قيام دولة جنوبية!، ولقد كان »‬السودان» أكبر دول »‬القارة الإفريقية» مساحة فضلاً عن الثروات الكامنة فيه وعن الشعب الطيب في الشمال والجنوب الذي يتميز بالسماحة وحب الغير، لذلك فإن عمود صديقي الدكتور »‬أسامة الغزالي حرب» حول »‬السودان» - رئاسة وحكومة وشعباً - قد مس مشاعري بشدة لأنني أظن أن التاريخ المشترك الطويل بين »‬مصر» و»السودان» يدفعنا إلي متابعة ما يدور في »‬جنوب الوادي»، ونحن لا ننسي عندما جري اغتيال »‬جوردون» الحاكم الانجليزي للسودان وكيف أبدي الزعيم السوداني »‬المهدي الكبير» أسفه لأنه كان يريد أن يقايض »‬بجوردون» أسيراً مصرياً منفياً وهو »‬أحمد عرابي» وهي روح »‬وادي النيل» المتجذرة لدي أشقاء الجنوب مهما ظهر علي السطح مما يوحي بغير ذلك، ونحن لا ننسي أن »‬عبد الناصر» لم يأتمن علي طلاب الكليات العسكرية المصرية في أعقاب نكسة 1967 إلا استضافة أشقائهم السودانيين لهم، ونتذكر أيضا أن شعب »‬السودان» هو الذي قهر النكسة معنوياً بخروج ملايين منه لتحية »‬جمال عبد الناصر» وشد أزره بعد النكسة وهي أيضاً »‬السودان» الدولة التي رفض رئيسها الراحل »‬جعفر نميري» قطع العلاقات الدبلوماسية مع »‬مصر» عند توقيع اتفاقية »‬السلام المصرية الإسرائيلية» وقال »‬نميري» وقتها بصوت »‬السودان» كله إن ما بيننا وبين »‬مصر» يختلف عن كل ما بينكم وبينها ونحن لا ننسي التاريخ ولا نعاند الجغرافيا، أيها الشعب الشقيق لقد تغيرت الدنيا وتبدلت الأحوال ولكنكم أنتم كما عاهدناكم دائماً شعب »‬الونسة» المتحدث الودود، شعب الشعراء والأدباء والمفكرين والساسة، وسوف تظل علاقة الشعبين »‬المصري» و»السوداني» في دولتي الشمال والجنوب كما هي دائماً لأنها معطاة تاريخية وصناعة جغرافية ورابطة إنسانية.
نحن والأحباش
تميزت العلاقات »‬المصرية» »‬الإثيوبية» بقدر من التحفظ عبر العقود الأخيرة بل واتصفت بشيء من الفتور أحياناً فضلاً عن عدم الفهم المتبادل والثقة المفقودة وظل موضوع »‬مياه النيل» هاجساً مشتركاً يعطل مسيرة الاقتراب المحتمل بين البلدين الشقيقين ولكن كما يقولون (فإن رب ضارة نافعة) وأنا أتصور أن موضوع »‬سد النهضة» قد فتح الباب علي مصراعيه للفهم المشترك واستعادة الثقة بين شعبين من أقدم شعوب الدنيا، »‬فالأمهرية» وارثة حكم »‬سليمان» و»داوود» ترتبط »‬بالكنانة» منذ فجر التاريخ بروابط العيش المشترك والتقارب الثقافي والديني فضلاً عن الشراكة بين دولة »‬منبع» ودولة »‬مصب» لنهر يربط الشعوب المطلة علي ضفتيه برباط لا ينفصم أبداً، ولقد سعي الرئيس المصري »‬عبد الفتاح السيسي» إلي تأسيس قاعدة متينة للعلاقات بين »‬القاهرة» و»أديس أبابا» تجاوز بها العقد التاريخية والعوامل الدخيلة علي العلاقات الطويلة بين البلدين وكانت مشاركة »‬مصر» في إطلاق سراح المواطنين الإثيوبيين المحتجزين في »‬ليبيا» بمثابة إشارة البدء لصفحة جديدة من العلاقات الشفافة والقوية بين الدولتين وإنهاء فصل كامل من التوتر الصامت والفتور المستمر، ولا شك أن اتفاق الطرفين »‬المصري» و»الإثيوبي» علي المشاركة في إجراءات ملء خزان المياه المحتجزة قبل »‬سد النهضة» بحيث لا يضار أحد الطرفين، إن مثل هذا الاتفاق سوف يكون حاسماً في تصفية الأجواء وتنقية المشاعر مما شابها أو طرأ عليها عبر السنين.
رفع »‬السعدني» يده وقال للرئيس »‬مبارك» إنني سعيد لأنك جعلت من الحزب الوطني الحاكم حزباً سرياً فقال له »‬مبارك» ومن قال إنه سري فرد عليه »‬السعدني» علي الفور قائلاً »‬لأنه لا وجود له»!
تمر هذه الأيام ذكري رحيل الكاتب المصري الكبير »‬محمود السعدني» الذي يتحدث عنه الجميع باعتباره كاتباً صحفياً ساخراً بينما هو قبل ذلك فيلسوف معاصر له منظور خاص لكل ما حوله من بشر وشجر وحجر وهو مِن أكثر مَن عرفت إحساساً بتأثير الزمن علي الناس وذلك موضوع يستهويني كثيراً فالإنسان موقف يرتبط بلحظة معينة ولكنه قابل للتغيير تماماً وفقاً لما جري وما يجري، وعندما تركت مؤسسة الرئاسة عام 1992 توافد الكثيرون علي منزلي للتعبير عن المواساة المعتادة لكل من يترك موقعاً مرموقاً وجاءني »‬محمود السعدني» ليقول (إنني أكثر الناس إدراكاً لهذه اللحظة فقد جري استبعادي من كثير من المناصب بل وانتقلت من قرب السلطة إلي قاع الزنزانة وأعرف ردود فعل الناس) وأضاف لي أن تليفونه الذي كان يدق كل خمس دقائق أصبح لا يدق إلا كل خمسة أيام، وصدقت نبوءة »‬السعدني» فقد شعرت أن بعض ضعاف النفوس قد تحولوا وأن منافقي الأمس وحملة المباخر حولي لعدة سنوات قد أختفوا وأن الباقي فقط هم أصحاب المبادئ وذوو الخلق ممن لا يتغيرون وفقاً للظروف والمصالح، لقد كان »‬محمود السعدني» خبيراً بالنفس البشرية سبر أغوارها وفهم أعماقها وقد قال لي ذات مرة إنه اكتشف أن الذي أمر باعتقاله كل مرة هو وزير الداخلية فقام بمصادقته فإذا به يحبس مرة جديدة هو »‬وشعراوي جمعة» وزير الداخلية ذاته!، ولازلت أتذكر أول لقاء لي معه ذات يوم عام 1974 وكان هو في »‬العاصمة البريطانية» مطارداً من »‬مصر» بعد خلافه مع الرئيس الراحل »‬أنور السادات» فيما سمي »‬بقضية مراكز القوي» والتي أمضي بسببها »‬السعدني» فترة في السجون المصرية استكمالاً لفترات سابقة في عهد الرئيس الراحل »‬جمال عبد الناصر» الذي آمن به »‬السعدني» وارتبط بثورته ارتباطاً لا أعرف له مثيلاً، وذات مساء في »‬لندن» سعيت لاستقبال الكاتب الصحفي الكبير الأستاذ »‬أحمد بهاء الدين» ضمن سلسلة لقاءات منتظمة معه كلما هبط ذلك المفكر المصري بالعاصمة البريطانية وكنت أناقشه في أمور تتصل بأطروحتي للدكتوراه عن »‬الأقباط في السياسة المصرية» – مكرم عبيد نموذجاً - ولقد وجدت معه ضيفاً في ذلك المساء يجلس بجانبه ويمسك عصا مظلة المطر متكئاً عليها تحت ذقنه وينظر بازدراء لي وعرفت في الحال أنه الأستاذ »‬محمود السعدني» حيث بادره الأستاذ »‬بهاء الدين» قائلاً (هذا »‬مصطفي الفقي» سكرتير ثاني السفارة هنا وهو قريب مني منذ سنوات) فرد عليه »‬السعدني» (لابد أنه واحد من جواسيس »‬السادات» في السفارة ولا أريد أن أعرف أحداً) فقمت إلي »‬السعدني» وقبلت رأسه وقلت له سوف تكتشف أنني أقرب إليك مما تظن ومنذ تلك اللحظة زاملته سنوات »‬لندن» كاملة وتوثقت علاقتي به في »‬مصر» أكثر وأكثر فكنا نلتقي في نادي الصحفيين النهري بالجيزة حيث تكون هناك رموز دائمة الحضور من مريدي »‬السعدني» الذين يستمتعون بأعظم حكائي العصر، فالوزراء يجلسون أمامه في سعادة بالغة أذكر منهم »‬عمرو موسي» و»حسب الله الكفراوي» و»محمد عبد الحليم موسي» و»أسامة الباز» وأي محافظ للجيزة موجود في ذلك الوقت مع الوزير »‬علي والي» ورفيق عمره الحاج »‬إبراهيم نافع» بالإضافة إلي الفنان »‬عادل إمام» أحياناً والفنان »‬صلاح السعدني» غالباً وعدد آخر من رموز الأدب والفن والسياسة والكل مبهور »‬بمحمود السعدني» والترتيبات الرائعة للجلسة والموضوعات التي يتطرق إليها ذلك الفيلسوف الساخر الذي لا ينحني لأحد ولا يخضع إلا لإرادة وطنه ويجلس بيننا ابنه الوحيد الأستاذ »‬أكرم السعدني» الكاتب الصحفي حالياً، وذات مساء ذهبنا في صحبة »‬السعدني» إلي لقاء محدد مع كاتب نوبل الروائي »‬نجيب محفوظ» بمنزل الحاج »‬إبراهيم نافع» بالجيزة حيث حضر بصحبة رفيقيه »‬جمال الغيطاني» و»يوسف القعيد» وكان معنا يومها المستشار »‬عبد المجيد محمود» النائب العام الأسبق، ولازلت أتذكر ونحن في »‬لندن» أن طلب مني الأستاذ »‬أحمد بهاء الدين» تقديم »‬محمود السعدني» لزميل دراستي »‬أحمد خليفة السويدي» وزير خارجية »‬الإمارات» حينذاك بقصد إصدار جريدة عربية في »‬لندن» تكون صوتاً سياسياً ومنبراً ثقافياً للعرب والمصريين هناك وعندما أبلغت الأستاذ »‬السويدي» رحب باللقاء وطلب أن يحصل علي نسخة من كتاب »‬الولد الشقي» معنا عند زيارته، وجلسنا »‬أحمد السويدي» و»السعدني» وأنا وعندما طلب »‬السويدي» من »‬السعدني» اسم الصحيفة الجديدة رد عليه »‬السعدني» قائلا (سوف نسميها »‬القافلة») فقال له لم اخترت هذا الاسم؟ رد عليه بأنها سوف تصدر عدة أعداد ثم تغلقها السلطات فهي »‬قافلة» وضحكنا جميعا وقد كان! فلقد هاجم السعدني »‬شاه إيران» والرئيس »‬السادات» وكانت تلك محاذير بالنسبة لدولة »‬الإمارات» في ذلك الوقت، ومن نوادر الراحل العظيم »‬محمود السعدني» يوم أن التقاه الرئيس »‬السادات» في دولة »‬الكويت» لأول مرة بعد قطيعة استمرت أربع سنوات خصوصاً وأن علاقتهما كانت وثيقة لعدة عقود قبل ذلك وعملا معاً في مجال الصحافة والحياة العامة وكان »‬السعدني» و»زكريا الحجاوي» أثيران لدي قلب »‬السادات»، ولقد رتب الراحل »‬عثمان أحمد عثمان» الذي كان يحب »‬السعدني» كثيراً لقاء »‬الكويت» وعندما دخل »‬السعدني» بادر »‬السادات» قائلا (والله ما أنت قائم) ثم همس في أذنه ببضع كلمات ظل »‬السادات» يقهقه بعدها وذاب الجليد الذي صنعته ظروف 15 مايو 1971 وكان »‬السعدني» يتحدث إلي »‬السادات» وإلي كل الوزراء والمسئولين بنفس طريقة حديثه إلي بسطاء الناس والعمال والفلاحين وحين التقاه الرئيس الأسبق »‬مبارك» يوم الإفراج عنه من اعتقالات سبتمبر 1981 بادره »‬السعدني» قائلاً (إنك أول رئيس مصري يكون أصغر مني سنا فلقد كان »‬عبد الناصر» و»السادات» من مواليد 1918 وأنا من ومواليد 1927 أما أنت فمن مواليد 1928) فرد عليه الرئيس الأسبق »‬مبارك» ممازحاً في الحال قائلاً (إذاً فأنت أكبر مني في السن وبذلك وجدت سبباً احترمك به!) في مداعبة غير مألوفة من الرئيس الأسبق، وذات يوم ونحن في اجتماع عام بمؤسسة الرئاسة رفع »‬السعدني» يده وقال للرئيس »‬مبارك» إنني سعيد لأنك جعلت من الحزب الوطني الحاكم حزباً سرياً فقال له »‬مبارك» ومن قال إنه سري فرد عليه »‬السعدني» علي الفور قائلاً »‬لأنه لا وجود له»! وكما قلت من قبل فإن »‬السعدني» كان مفتوناً بأبطال كرة القدم وأقطاب تلاوة »‬القرآن الكريم».. لقد كان رجلاً رائعاً في عصر جميل لن يعود أبدا.
السودان بعد التقسيم
لدي غصة تاريخية من تقسيم »‬السودان» الذي جري منذ عدة سنوات وفي ظني أن إرادة السودانيين في مجملها لم تكن مع انفصال جنوبه عن شماله بل إنني التقيت الزعيم الجنوبي الراحل »‬جون جارانج» الذي كان وحدوياً ولا يمانع في استمرار »‬السودان» دولة مركزية يعيش فيها الشماليون والجنوبيون في ظل ديمقراطية حقيقية تعلي مبدأ المواطنة لأبناء ذلك البلد الشقيق العريق، ثم رحل »‬جارانج» في حادث طائرة غامض وبعدها مضت إجراءات تقسيم البلاد وفصل الجنوب عن الشمال بسرعة وسلاسة توحي بأن مقايضة قد حدثت ليغمض الغرب عينه عن خروقات سودانية من أجل قيام دولة جنوبية!، ولقد كان »‬السودان» أكبر دول »‬القارة الإفريقية» مساحة فضلاً عن الثروات الكامنة فيه وعن الشعب الطيب في الشمال والجنوب الذي يتميز بالسماحة وحب الغير، لذلك فإن عمود صديقي الدكتور »‬أسامة الغزالي حرب» حول »‬السودان» - رئاسة وحكومة وشعباً - قد مس مشاعري بشدة لأنني أظن أن التاريخ المشترك الطويل بين »‬مصر» و»السودان» يدفعنا إلي متابعة ما يدور في »‬جنوب الوادي»، ونحن لا ننسي عندما جري اغتيال »‬جوردون» الحاكم الانجليزي للسودان وكيف أبدي الزعيم السوداني »‬المهدي الكبير» أسفه لأنه كان يريد أن يقايض »‬بجوردون» أسيراً مصرياً منفياً وهو »‬أحمد عرابي» وهي روح »‬وادي النيل» المتجذرة لدي أشقاء الجنوب مهما ظهر علي السطح مما يوحي بغير ذلك، ونحن لا ننسي أن »‬عبد الناصر» لم يأتمن علي طلاب الكليات العسكرية المصرية في أعقاب نكسة 1967 إلا استضافة أشقائهم السودانيين لهم، ونتذكر أيضا أن شعب »‬السودان» هو الذي قهر النكسة معنوياً بخروج ملايين منه لتحية »‬جمال عبد الناصر» وشد أزره بعد النكسة وهي أيضاً »‬السودان» الدولة التي رفض رئيسها الراحل »‬جعفر نميري» قطع العلاقات الدبلوماسية مع »‬مصر» عند توقيع اتفاقية »‬السلام المصرية الإسرائيلية» وقال »‬نميري» وقتها بصوت »‬السودان» كله إن ما بيننا وبين »‬مصر» يختلف عن كل ما بينكم وبينها ونحن لا ننسي التاريخ ولا نعاند الجغرافيا، أيها الشعب الشقيق لقد تغيرت الدنيا وتبدلت الأحوال ولكنكم أنتم كما عاهدناكم دائماً شعب »‬الونسة» المتحدث الودود، شعب الشعراء والأدباء والمفكرين والساسة، وسوف تظل علاقة الشعبين »‬المصري» و»السوداني» في دولتي الشمال والجنوب كما هي دائماً لأنها معطاة تاريخية وصناعة جغرافية ورابطة إنسانية.
نحن والأحباش
تميزت العلاقات »‬المصرية» »‬الإثيوبية» بقدر من التحفظ عبر العقود الأخيرة بل واتصفت بشيء من الفتور أحياناً فضلاً عن عدم الفهم المتبادل والثقة المفقودة وظل موضوع »‬مياه النيل» هاجساً مشتركاً يعطل مسيرة الاقتراب المحتمل بين البلدين الشقيقين ولكن كما يقولون (فإن رب ضارة نافعة) وأنا أتصور أن موضوع »‬سد النهضة» قد فتح الباب علي مصراعيه للفهم المشترك واستعادة الثقة بين شعبين من أقدم شعوب الدنيا، »‬فالأمهرية» وارثة حكم »‬سليمان» و»داوود» ترتبط »‬بالكنانة» منذ فجر التاريخ بروابط العيش المشترك والتقارب الثقافي والديني فضلاً عن الشراكة بين دولة »‬منبع» ودولة »‬مصب» لنهر يربط الشعوب المطلة علي ضفتيه برباط لا ينفصم أبداً، ولقد سعي الرئيس المصري »‬عبد الفتاح السيسي» إلي تأسيس قاعدة متينة للعلاقات بين »‬القاهرة» و»أديس أبابا» تجاوز بها العقد التاريخية والعوامل الدخيلة علي العلاقات الطويلة بين البلدين وكانت مشاركة »‬مصر» في إطلاق سراح المواطنين الإثيوبيين المحتجزين في »‬ليبيا» بمثابة إشارة البدء لصفحة جديدة من العلاقات الشفافة والقوية بين الدولتين وإنهاء فصل كامل من التوتر الصامت والفتور المستمر، ولا شك أن اتفاق الطرفين »‬المصري» و»الإثيوبي» علي المشاركة في إجراءات ملء خزان المياه المحتجزة قبل »‬سد النهضة» بحيث لا يضار أحد الطرفين، إن مثل هذا الاتفاق سوف يكون حاسماً في تصفية الأجواء وتنقية المشاعر مما شابها أو طرأ عليها عبر السنين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.