قال الإمام أبوحامد الغزالي في كتابه مشكاة الأنوار الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب 1964 بتحقيق الدكتور أبوالعلا عفيفي: ولقد ارتقيت بسؤالك مرتقي صعبا تنخفض دون أعاليه أعين الناظرين، وقرعت بابا مغلقا لا يفتح إلا للعلماء الراسخين. ثم ليس كل سر يكشف ويفشي، ولا كل حقيقة تعرض وتجلي، بل صدور الأحرار قبور الأسرار. ولقد قال بعض العارفين »إفشاء سر الربوبية كفر». لما كان سر النور وروحه هو الظهور للإدراك، وكان الإدراك موقوفا علي وجود النور وعلي وجود العين الباصرة أيضا: إذ النور هو الظاهر المظهر، وليس شيء من الأنوار ظاهرا في حق العميان ولا مظهرا. فقد تساوي الروح الباصرة والنور الظاهر في كونه ركنا لابد منه للإدراك ثم ترجح عليه في أن الروح الباصرة هي المدركة وبها الإدراك. وأما النور فليس بمدرك ولا به الإدراك، بل عنده الإدراك، فكان اسم النور بالنور الباصر أحق منه بالنور المبصر. وأطلقوا اسم النور علي نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش إن نور عينه ضعيف، وفي الأعمش إنه ضعيف نور بصره، وفي الأعمي إنه فقد نور البصر، وفي السواد إنه يجمع نور البصر ويقويه، وإن الأجفان إنما خصتها الحكمة الإلهية بلون السواد وجعل العين محفوفة بها. الرابع أن العين تدرك من الأشياء ظاهرها وسطحها الأعلي دون باطنها: بل قوالبها وصورها دون حقائقها. والعقل يتغلغل إلي بواطن الأشياء وأسرارها ويدرك حقائقها وأرواحها، ويستنبط سببها وعلتها وغايتها وحكمتها، وأنها مم خلق، وكيف خلق، ولم خلق، ومن كم معني جمع وركب، وعلي أي مرتبة في الوجود نزل، وما نسبته إلي خالقها وما نسبتها إلي سائر مخلوقاته، إلي مباحث أخر يطول شرحها نري الإيجاز فيها أولي. الخامس أن العين تبصر بعض الموجودات إذ تقصرعن جميع المعقولات وعن كثير من المحسوسات: إذ لا تدرك الأصوات، والروائح والطعوم والحرارة والبرودة والقوي المدركة: أعني »و41» قوة السمع والبصر والشم والذوق، بل الصفات الباطنة النفسانية كالفرح والسروروالغم والحزن والألم واللذة والعشق والشهوة والقدرة، والإرادة والعلم إلي غير ذلك من موجودات لا تحصي ولا تعد، فهو ضيق المجال مختصر المجري لا تسعه مجاوزة الألوان والأشكال وهما أخس الموجودات، فإن الأجسام في أصلها أخس أقسام الموجودات، والألوان والأشكال من أخس أعراضها. فالموجودات كلها مجال العقل، إذ يدرك هذه الموجودات التي عددناها واعلم أن معني كونه نور السماوات والأرض تعرفه بالنسبة إلي النور الظاهر البصري. فإذا رأيت أنوار الربيع وخضرته مثلا في ضياء النهار فلست تشك في أنك تري الألوان، وربما ظننت أنك لست تري مع الألوان غيرها، فإنك تقول لست أري مع الخضرة غير الخضرة. ولقد أصر علي هذا قوم فزعموا أن النور لا معني له، وأنه ليس مع الألوان غير الألوان، فأنكروا وجود النور مع أنه أظهر الأشياء، وكيف لا وبه تظهر الأشياء، وهو الذي يبصر في نفسه ويبصر به غيره كما سبق. لكن عند غروب الشمس وغيبة السراج ووقوع الظل أدركوا تفرقة ضرورية بين محل الظل وبين موقع الضياء فاعترفوا بأن النور معني وراء الألوان يدرك مع الألوان حتي كأنه لشدة انجلائه لا يدرك، ولشدة ظهوره يخفي وقد يكون الظهور سبب الخفاء. والشيء إذا جاوز حده انعكس علي ضده. قال الإمام أبوحامد الغزالي في كتابه مشكاة الأنوار الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب 1964 بتحقيق الدكتور أبوالعلا عفيفي: ولقد ارتقيت بسؤالك مرتقي صعبا تنخفض دون أعاليه أعين الناظرين، وقرعت بابا مغلقا لا يفتح إلا للعلماء الراسخين. ثم ليس كل سر يكشف ويفشي، ولا كل حقيقة تعرض وتجلي، بل صدور الأحرار قبور الأسرار. ولقد قال بعض العارفين »إفشاء سر الربوبية كفر». لما كان سر النور وروحه هو الظهور للإدراك، وكان الإدراك موقوفا علي وجود النور وعلي وجود العين الباصرة أيضا: إذ النور هو الظاهر المظهر، وليس شيء من الأنوار ظاهرا في حق العميان ولا مظهرا. فقد تساوي الروح الباصرة والنور الظاهر في كونه ركنا لابد منه للإدراك ثم ترجح عليه في أن الروح الباصرة هي المدركة وبها الإدراك. وأما النور فليس بمدرك ولا به الإدراك، بل عنده الإدراك، فكان اسم النور بالنور الباصر أحق منه بالنور المبصر. وأطلقوا اسم النور علي نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش إن نور عينه ضعيف، وفي الأعمش إنه ضعيف نور بصره، وفي الأعمي إنه فقد نور البصر، وفي السواد إنه يجمع نور البصر ويقويه، وإن الأجفان إنما خصتها الحكمة الإلهية بلون السواد وجعل العين محفوفة بها. الرابع أن العين تدرك من الأشياء ظاهرها وسطحها الأعلي دون باطنها: بل قوالبها وصورها دون حقائقها. والعقل يتغلغل إلي بواطن الأشياء وأسرارها ويدرك حقائقها وأرواحها، ويستنبط سببها وعلتها وغايتها وحكمتها، وأنها مم خلق، وكيف خلق، ولم خلق، ومن كم معني جمع وركب، وعلي أي مرتبة في الوجود نزل، وما نسبته إلي خالقها وما نسبتها إلي سائر مخلوقاته، إلي مباحث أخر يطول شرحها نري الإيجاز فيها أولي. الخامس أن العين تبصر بعض الموجودات إذ تقصرعن جميع المعقولات وعن كثير من المحسوسات: إذ لا تدرك الأصوات، والروائح والطعوم والحرارة والبرودة والقوي المدركة: أعني »و41» قوة السمع والبصر والشم والذوق، بل الصفات الباطنة النفسانية كالفرح والسروروالغم والحزن والألم واللذة والعشق والشهوة والقدرة، والإرادة والعلم إلي غير ذلك من موجودات لا تحصي ولا تعد، فهو ضيق المجال مختصر المجري لا تسعه مجاوزة الألوان والأشكال وهما أخس الموجودات، فإن الأجسام في أصلها أخس أقسام الموجودات، والألوان والأشكال من أخس أعراضها. فالموجودات كلها مجال العقل، إذ يدرك هذه الموجودات التي عددناها واعلم أن معني كونه نور السماوات والأرض تعرفه بالنسبة إلي النور الظاهر البصري. فإذا رأيت أنوار الربيع وخضرته مثلا في ضياء النهار فلست تشك في أنك تري الألوان، وربما ظننت أنك لست تري مع الألوان غيرها، فإنك تقول لست أري مع الخضرة غير الخضرة. ولقد أصر علي هذا قوم فزعموا أن النور لا معني له، وأنه ليس مع الألوان غير الألوان، فأنكروا وجود النور مع أنه أظهر الأشياء، وكيف لا وبه تظهر الأشياء، وهو الذي يبصر في نفسه ويبصر به غيره كما سبق. لكن عند غروب الشمس وغيبة السراج ووقوع الظل أدركوا تفرقة ضرورية بين محل الظل وبين موقع الضياء فاعترفوا بأن النور معني وراء الألوان يدرك مع الألوان حتي كأنه لشدة انجلائه لا يدرك، ولشدة ظهوره يخفي وقد يكون الظهور سبب الخفاء. والشيء إذا جاوز حده انعكس علي ضده.