عندما يختلط الحلم بالواقع.. والبراءة بالخبث.. ورغم ذلك يخرج الأمل من رحم اليأس.. فإننا أمام عمل فني جميل.. إنه الفيلم الفلسطيني جيرافادا وهو من إخراج راني مصالحة وبطولة صالح بكري وأحمد باياترا (زياد) ورشدي زيم ولور دو كليرمون ومحمد بكري ..والذي عرضته بانوراما الفيلم الأوروبي.. والفيلم الذي يجمع بين كلمتي جيراف " زرافة" وانتفاضة ..مبني على قصة حقيقية وقعت أحداثها عام 2002 خلال الانتفاضة الثانية فخلال القصف الإسرائيلي لمدينة قلقيلية اصطدمت رأس الزرافة في حديقة حيوان المدينة بسور القفص فنفقت.. وحول هذا النسيج الحقيقي صنع الخيال ثوب الفيلم.. فالطفل الفلسطيني الصغير زياد يعيش مع والده الطبيب البيطري ياسين وحدهما بعد وفاة أمه خلال ولادته.. وعلى عكس الأطفال في سنه لا نجده مشغولا بالكرة والانترنت وانما نجده ابن الطبيعة وقته مكرس لرعاية الزرافة ريتا وذكرها براوني ومزروعات حديقة الحيوان.. وعلاقته بالله بسيطة صريحة وواضحة.. انه يحب الله والله يحبه ويستجيب لدعواته البسيطة.. ومع كل دعوة مستجابة يفي الصغير بوعده للخالق.. كان زياد سعيدا بحياته ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فقد قصف الإسرائيليون قلقيلية وخلال القصف يصاب ذكر الزرافة براوني بالهلع فتصطدم رأسه بسور القفص فيصاب وينفق.. وهنا تعزف رفيقته الزرافة ريتا " الحامل" عن الطعام وتصبح مهددة بالموت هي الأخرى وهنا يفقد زياد صوابه ويتعهد لله ألا يتناول طعاما إلا بعد تناول ريتا لطعامها.. وهنا يحاول ياسين المستحيل لإنقاذ ريتا.. وإنقاذ ولده أيضا.. ولكن الزرافة لا تستجيب لأي علاج فلا يجد الطبيب البيطري مناصا من التفكير في سرقة ذكر زراف ليكون رفيقا لريتا ينقذها من وحدتها وإضرابها القاتل عن الطعام.. ويلجأ ياسين لطبيب بيطري إسرائيلي يساعده في سرقة ذكر الزراف روميو من حديقة حيوان إسرائيلية فينقله ياسين وابنه وصديقته الصحفية الفرنسية في سيارتها ومقطورة ..في رحلة مليئة بالمغامرات وبعيدة عن نقاط التفتيش الإسرائيلية إلى قلقيلية.. وتنجح الخطة .. ولكن السلطات الإسرائيلية تلقي القبض على ياسين.. والحقيقة أن الفيلم يعالج بحساسية بالغة قضية الصراع العربي الإسرائيلي بعيون طفل صغير من خلال علاقته بالزرافة.. وعلاقته بوالده.. وعلاقته بمجتمعه وظروفه.. وعلاقته بصديقة والده الأجنبية.. ولا يكاد مشهد في الفيلم يخلو من صورة الجدار العازل الذي يعيش الفلسطينيون وراءه بآلامهم وآمالهم..وقد بهرتني عدة مشاهد عبقرية في الفيلم.. فبعد نفوق ذكر الزرافة براوني خرج زياد يلقي الحجارة على جنود الاحتلال الاسرائيلي مع أطفال آخرين رغم اعتراض والده على ذلك.. وفي مقابل ذلك مشهد للصغير يلعب مع ابنتي الطبيب البيطري الإسرائيلي في تل أبيب.. وهناك مشهد زياد وهو جاثم على ركبتيه يدعو الله.. وفي المقابل مشهد عدد من الأطفال يعتدون عليه والسبب حسب قولهم ان والده لا يذهب إلى المسجد وسيذهب إلى النار.. وذلك فضلا عن مشهد جنود الاحتلال وهم يعتدون على ياسين ويطرحونه أرضا وهم يفتشونه.. في مقابل مشهد صديقه الطبيب البيطري الاسرائيلي وهو يأخذه بالأحضان ويساعده في سرقة روميو ونقله لقلقيليلة.. وأخيرا مشهد الزرافتين الفلسطينية ريتا والإسرائيلي روميو.. وقد تآلفا.. وفي النهاية يطرح الفيلم رسالته بشكل واضح وصريح على لسان بائع الفول السوداني والموز الذي قال لزياد " ان قيمة الحياة وقدسيتها عند الله أهم من الوعد الذي قطعته على نفسك".. وذلك ليقنعه بتناول الطعام خلال إضرابه عنه.. ورغم أن الفيلم هو التجربة الأولى لراني مصالحة إلا أن الإخراج جاء رائعا وكذلك التصوير وآداء جميع الممثلين وخاصة الطفل الصغير.. أحيانا ما يكون صوت الحب أقوى من دانة المدفع.. وقد جاء فيلم جيرافادا صاروخا مدويا من المشاعر الجياشة..