تكلمنا من قبل عن حكم بيع الثمر قبل بدو صلاحه، وذكرنا ان الحنفية في القول الصحيح عندهم وبعض المالكية اجازوا بيع الثمر قبل بدو صلاحه للحاجة إليه مع تعارف الناس عليه.. أما جمهور الفقهاء فقد قال بتحريمه وبطلانه. واجاز الشافعية والحنابلة استئجار الاشجار للثمر كبديل عن منع بيع الثمر قبل بدو صلاحه، ولم يعترف الحنفية والمالكية بهذا الاستئجار، لانه وقع علي منفعة غير مقصودة من وجهة نظرهم. ويتصل بمسألة بيع الثمر قبل بدو صلاحه مسألة بيع الثمر المتلاحق، وصورتها: ان يبيع ثمرا قد بدا صلاحه، وكان مما يطعم بطنا بعد بطن، ويغلب تلاحق ثمرها، ويختلط ما يحدث منها بالموجود كالتين والطماطم والبرسيم. وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة، علي مذهبين في الجملة: المذهب الأول: يري تحريم بيع الثمر المتلاحق مطلقا، سواء بدا صلاح البطن الثانية أو لم يبد صلاحها، وإذا وقع كان باطلا. وهو مذهب الجمهور، قال به الحنفية في ظاهر الرواية وهو القياس عندهم وهو مذهب الشافعية والحنابلة.. وحجتهم: 1- عدم القدرة علي التسليم لتعذر التمييز بين ثمر البطن الأول وثمر البطن الثانية، لان كل بطن صفقة مستقلة وتحتاج الي تمييز وإمكان تسليم. 2- ان ثمر البطن الثانية لم يخلق بعد فلم يجز بيعه. 3- ان بيع الثمر المتلاحق بعد بدو صلاح البطن الاولي جعل الصفقة عقدا يجمع بين الموجود والمعدوم، والمعدوم لا يقبل البيع وحصة الموجود غير معلومة. المذهب الثاني: يري جواز بيع الثمر المتلاحق اذا تم بيع البطن الأولي بعد بدو صلاح ثمرها. وهو الاستحسان عند الحنفية وإليه ذهب المالكية وحجتهم: ان بيع ثمر البطن الأولي صحيح لبدو صلاحه. أما ثمر البطن الثانية فيصح تبعا لحاجة الناس إليه، ولانه قد يتعذر انفكاكه عن ثمر البطن الأولي: ولأن الناس - كما يقول الكمال بن الهمام - تعاملوا ببيع ثمار الكرم بهذه الصفة، ولهم في ذلك عادة ظاهرة، وفي نزع الناس من عادتهم حرج. وكما اختار المصريون ما ذهب إليه الحنفية في القول الصحيح عندهم وبعض المالكية القائلون بجواز بيع الثمر قبل بدو صلاحه اختاروا أيضا ما ذهب اليه المالكية وبعض الحنفية من جواز بيع الثمر المتلاحق، لأنه مال منتفع به في ثاني الحال وان لم يكن منتفعا به في الحال ولان الناس تعاملوا بهذه الصفة وصار لهم عادة ظاهرة وفي نزع الناس من عادتهم حرج، كما ذكر ذلك الكمال بن الهمام في صورة بيع ثمار الكرم المتلاحق. وترك المصريون مذهب جمهور الفقهاء القائلين بتحريم بيع الثمر قبل بدو صلاحه وتحريم بيع الثمر المتلاحقة، وانه يقع باطلا لأن استدلالهم بأحاديث أنس وجابر في البخاري وحديث ابن عمر في الصحيحين التي تنهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه انما هي علي سبيل الكراهة لأخذ الحيطة، إذ ربما تحدث الجائحة فيحدث النزاع فكان الامر لاختيار المتعاقدين وليس لذات النهي، كما ان استدلالهم في مسألة الثمر المتلاحق انه يتعذر مع التمييز، ويجمع بين الموجود والمعدوم، فهذا مما يصعب التحرز منه فكان لابد من التسامح فيه. وبهذا نري عامة المصريين من تجار الثمار والزروع ومن الفلاحين قد مارسوا حقهم الشرعي في الاختيار الفقهي من بين المذاهب المعتبرة، وانتقوا منها ما يرفع الحرج وييسر لهم سبل التعامل الذي يحقق مقاصدهم ومصالحهم دون الخروج عن ضوابط الشريعة الاسلامية في ظل التعددية الفقهية السمحة التي أمر بها الرسول »صلي الله عليه وسلم« فيما اخرج الامام احمد بسند حسن عن وابصة بن معبد، أن النبي »صلي الله عليه وسلم« قال: »استفت قلبك، استفت نفسك... وإن أفتاك الناس وأفتوك«. WWW.SAADHELALY.COM