ان الزمان لا يري، ولا يراقب، ومع ذلك يصنع التاريخ، لذا استطاع الإنسان أن يقيس الزمان، ويسجله، ليجعله مرئيا مدركا، لكن ذلك قد أنتج تأريخا للذي كان من الأحداث، ليس فيه ثمة خيار لتفعيل تأثير إرادة الإنسان في ذلك الذي كان من الوقائع والأحداث. شغلت هذه المعضلة اليونانيين القدماء، فصنعوا تمثالا سموه »كايروس«، أي الفرصة، بوصفها لحظة قادمة من الزمان، تفلت من الإنسان نتيجة عدم الانتباه، أو غياب الادراك. ربما قصدوا بذلك ابتداع آلية تولد لدي الإنسان الانتباه للزمن القادم غير المرئي الذي يبرمج تغييرات في حياته. قد تستجلب آمالا يعزز حضورها الانتباه، وقد تفلت منه لعدم الادراك. تجلي التمثال علي هيئة شاب، يقف فوق حجر صغير، متكئا علي أطراف أصابعه، اذ تزودت قدماه بأجنحة، تسمح لهما بالاقتدار علي الطيران، وكأنه مسكون بفورية ظهوره، وانفلاته، كما أن شعره لا ينمو وفقا لمعهود البشر، حيث الجزء الخلفي من رأسه خال تماما من الشعر، في حين أن مقدمة رأسه تمتد منها إلي الأمام خصلة طويلة من الشعر. وقد نقشت علي قاعدة التمثال مدونة حوار تتضمن خمسة أسئلة من عابر سبيل، يطلب من التمثال تبيانا لمعني اسمه، ولأسباب أوضاعه، وخصائص ما تفرد به جسده، فأجاب التمثال بأن اسمه يجسد هويته، وتواصلت إجاباته لتكشف عن خصوصية الزمن، بوصفه هويته، شارحا أن اتكاءه علي أصابع قدميه يعني الانتباه إلي أنه يتوقف للحظة متحفزا للانطلاق من فوره، وأن دلالة أجنحة قدميه تشير إلي ضرورة الوعي بأنه يمضي علي عجل، أما شعره الطويل الممتد من جبهته، فهو دعوة إلي من يبصره مواجهة، بوجوب الامساك به من شعره الأمامي لاقتناصه. أما السؤال عن سبب تبدي مؤخرة رأسه عارية تماما من الشعر، فقد أجاب أنه تحذير لادراك الاستعصاء، والعجز المطلق عن الامساك به من خلفه بعد انفلاته؛ ذلك أنه إن مضي لن يعود مجددا. لكن التمثال تحطم تماما، ولم تتبق منه سوي قاعدته. ولأن الفكر اليوناني القديم كان أسير ثقافة أسطورية تعتقد أن الزمان يلهث وراء الإنسان ليبتلعه، فهل يمكن أن يكون ذلك قد أنتج تصورا مفاده أن الزمان حطم التمثال وبدده، لرفضه أن يري مجسدا، فيسترعي انتباه البشر ووعيهم به؟ تعددت إنجازات العقل الإنساني وفتوحاته علي طول تاريخه، متجلية في كل مجالات المعرفة لاستيعاب الزمان والوعي به، وأدرك الإنسان أن هناك حقيقتين لا يمكنهما الإعادة هما: الموت، والولادة، وأنه بين هذين الحدين تقع مساحة علاقة الإنسان بالزمان وتحديات أحداثه، التي قد تضفي معني أو لا تضفي علي الوجود الإنساني، فراح يشحذ قدراته بالاشتغال علي تلك العلاقة، مستهديا بآليات استشراف المستقبل، تأصيلا لايجابية مسئولية الأفراد عن أحداث الزمان ووقائعه في مكان محدد، يعيش فيه مجتمع معين، وفي هذا السياق اتخذ الزمان وجودا اجتماعيا، وأصبحت فتوحات العقل غزوا للمستقبل. صحيح ان بؤس أي مجتمع يتبدي واضحا عندما لا يمتلك أفراده أفكارا عن المستقبل، بقدر ما يمتلكون أفكارا عن الماضي؛ بل يسعون إلي استعادته، دون اجتهاد لتحليله وانتقاده، بوصفه صناعة بشرية تقبل المراجعة في ضوء اقتدار العقل الإنساني وتطوره، لكن الصحيح كذلك أن هذا البؤس يظل ميهمنا علي المجتمع، حين يكون هناك علي الجانب الآخر من يحلمون بالمستقبل، ويستمتعون بالحلم به خيالا، ولا يعملون علي تحقيقه، عندئذ يظل المجتمع معلقا في الفراغ، يعاني أعمق شرخ حقيقي في تقدمه. إن المجتمعات الناهضة لا تسجن ماضيها في صورة مغلقة تعمل علي تكرارها؛ بل تربط ارث معارف الماضي بعمق التفكير المنفتح علي المستقبل بإمكاناته المتعددة، بإنشاء مؤسسات علمية لاستشراف المستقبل في تخصصات متنوعة، تطرح الانتباه لحقائق المخاطر، وتحدد بدء تأثيرها وأفقها الزمني، وترصد الاشكالات قبل أن تصبح أزمات، حتي لا يظل المخفي خفيا، وهذه المعطيات المعرفية حول الأوضاع المستقبلية، تقود صانعي السياسات إلي رسم توجهات عامة تفاعلية مسبقة، تحافظ علي مصالح المجتمعات وتحمي مصائر أفرادها من الشقاء. صحيح لم يعد الإنسان بحاجة إلي رؤية التمثال، في ظل حضور فتوحات انتباهه، لكن الصحيح كذلك ان المجتمعات التي لا تشتبك سياساتها العامة مع المنظور الواسع للواقع، بممارسة البعد المعرفي للوعي بالمستقبل، يظل مشروعها للنهضة مجهضا.