الإمام الغزالي والمنقذ من الضلال كان الإمام الغزالي، وتجربته في المنقذ من الضلال، حاضرين في ذهني وأنا أتابع رحلة الدكتور مصطفي محمود من الشك إلي الإيمان . بدا لي أنه مشدود في كتابته إلي تجربة الإمام الغزالي التي سبقته بنحو ألف عام، ولكنه أضاف إليها ما يسره العلم طوال الألف سنة. في تصدير طبعة هذا الكتاب سنة 1973، كلمات رشيقة للأستاذ أنيس منصور، يقول فيها عن الكتاب : » إنني أقرأ فيه أجمل وأروع ما كتبه الفيلسوف الفرنسي ديكارت في كتابه المشهور » مقال في المنهج » .. فهو يبدأ بالشك ثم ينتهي إلي اليقين . ولكن الغزالي أبسط وأروع وأعمق .. تجرد من كل شيء ليؤمن بكل شيء .. نزل إلي كل بحر، وطاف كل محيط .. ليرسو علي بر الأمان بالعلم والإيمان .. لقد هداني الغزالي، وثبّت الأرض تحت قدمي، وثبّت الدنيا كلها أمامي .. هنا السماء وهنا الأرض . هنا العقل وهنا النقل هذا الكتاب وهنا الحديث وهنا الاجتهاد » . الإمام أبو حامد الغزالي، غني عن التعريف، فهو حجة الإسلام وفقيهه البارز غير مدافع، وحجة أيضًا في الفلسفة الإسلامية، صوفي النزعة، صاحب البصمات المتعددة في الدين وفي الفقه، وفي الفلسفة وعلوم الكلام، وهو صاحب الكتاب الشهير » تهافت الفلاسفة »، وصاحب الباع في الفكر والمنطق، فضلاً عن روحانياته وسبحاته الصوفية، وترك عشرات المؤلفات الضافية الرصينة، أشهرها لدي القراء : كيمياء السعادة، وإحياء علوم الدين، وتهافت الفلاسفة، فضلاً عن كتابه الإيماني » المنقذ من الضلال » . رحلة الإمام الغزالي قطع الإمام الغزالي رحلة عميقة من قرابة ألف عام .. غاص في بحور ولجج، وطاف بين العلوم والأفكار، مدفوعًا بأشواق قوية لمعرفة الحق والخروج من هواجس وتخيلات الضلال إلي شاطئ وأمن اليقين ! يفصح الغزالي في بدايات الرحلة، أن اختلاف الناس في الأديان والملل، بحر عميق غرق فيه كثيرون، ولم ينج إلاّ قليلون، وأنه منذ عنفوان شبابه خاض في لجج هذا البحر، وتوغل في كل اتجاه، وتفحص في عقيدة كل فرقة .. دافعه التعطش إلي إدراك الحقيقة.. بدأ بالتخلص من قيود التقليد والخضوع للموروث، فكل مولود يولد علي الفطرة، ويتابع ما يتلقاه من والديه فينشأ علي دينهما، إلاّ من يطلب الحقيقة ويسعي جاهدًا لاكتشافها .. التفتيش في العلوم فتش الغزالي في العلوم، فقال لنفسه في البداية إن الأمل في المحسوسات، فهي التي تقيه مغبة الغلط، ولكنه حين استعرض ما صادف إبراهيم الخليل عليه السلام حين استبان أن الكواكب والقمر والشمس جميعها تأفل بعد بزوغ، أدرك أن الثقة بالمحسوس قد تتعلق بفراغ أو أوهام، فتبطل الثقة إلاّ بالعقليات .. فالعقل هو الذي كذّب لديه ظنّه في المحسوسات .. والضرورات العقلية أوثق للوصول إلي الأمن واليقين . في ضوء العقل ولكنه نظر فوجد المتطلعين إلي نور العقل، قد تفرقوا بين أربعة فرق : المتكلمون، والباطنية، والفلاسفة، والصوفية .. فأي من هذه الفرق أهدي سبيلاً في الوصول إلي الغاية .. لاحظ أن علم الكلام الذي درج عليه المتكلمون علم وافٍ بمقصوده، ولكنه غير وافٍ بمقصود الغزالي في الاهتداء إلي المذهب الصحيح بلا تشويش .. فأهل الكلام قد صرفوا جهودهم لبيان مناقضات الخصوم ومقارعتهم بلوازم مسلّماتهم، وهذه المقارعات لن تكفيه للخروج كليةً من ظلمات الحيرة .. فهل تفي الفلسفة والمتفلسفون في تحقيق مراده ؟! .. بذل الغزالي غاية جهده لدراسة الفلسفة والتعمق فيها لنحو ثلاث سنوات، فخلص إلي أن معظم ما اطلع عليه منها فيه خداع وتلبيس، افترقت سبله بين الدهريين والطبيعيين والإلهيين، فرأي الدهريين يزعمون أن العالم لم يزل موجودًا بنفسه بلا صانع، ورأي الطبيعيين برغم بحثهم في عجائب صنع الله تعالي وبدائعه، أكثروا الخوض في تشريح أعضاء الحيوانات، فأخذهم ذلك إلي الظن بأن قوة الإنسان العاقلة تابعة لمزاجه، وتبطل ببطلانه، وذهبوا إلي أن النفس تموت ولا تعود، فجحدوا الآخرة والحشر والنشر والقيامة والحساب، ولم يبق عندهم للطاعة ثواب، ولا للمعصية عقاب .. فلما ترك هؤلاء وأولاء إلي الإلهيين، وراجع سقراط وأفلاطون وأرسطاليس، ثم الإسلاميين كابن سينا والفارابي وأمثالهما، وجد أن اللاحقين يتبرأون مما رآه السابقون، ووجد علومهم قد جرت في اتجاهات طفق الغزالي يراجعها ويعرضها، حتي خلص إلي مجمل رأيه في الفلسفة التي حمل عليها حملة تري تفاصيلها إن أردت في كتابه الشهير »تهافت الفلاسفة»، والذي رد عليه ابن رشد في » تهافت التهافت » .. ويبدو أن حملة الغزالي علي الفلسفة والفلاسفة في »المنقذ من الضلال» كانت مخافة التأثير علي العقيدة التي أراد من رحلته الوصول إليها خالصة مصفّاة . البوصلة والمرفأ يروي الإمام الغزالي رحلة خروجه من الشك إلي خياراته النهائية في الوصول إلي نور اليقين . استبعد الإمام الغزالي الخيارات التي طاف بها، بعد أن ردَّ ردودًا مفحمة علي أصحابها . طلب الإمام الغزالي الكشف والنور في رحاب القرآن والنفحات الإلهية والسنة النبوية، فتأمل في حقيقة النبوة وأنه لا غناء لكافة الخلق عنها، فعوالم الله تعالي كثيرة لا يحصيها إلاَّ هو، وهو سبحانه القائل : » وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَي لِلْبَشَرِ » ( المدثر 31 ) . ومن الإدراكات ( السمع والبصر واللمس والذوق .. إلخ )، تتكون الخبرة من العوالم، ويترقي فيها الإنسان ليدخل في طور »العقل» الذي يدرك الواجبات والجائزات والمستحيلات، ووراء العقل طور آخر تتفتح فيه عين أخري يبصر بها الغيب وأمورًا أخري . بيد أن العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عن إدراك المعقولات، وكعزل قوة الحس عن مدركات التمييز .. هنا تبدو » مدركات النبوة » التي أخطأ من استبعدوها عن جهل . فإذا كان الشك في النبوة فذلك أما أن يقع في إمكانها أو في وجودها ووقوعها أو في حصولها لشخص معين .. فإن دليل إمكان النبوة وجودها .ودليل وجودها وجود معارف في العالم لا يتصور أن تُنال بالعقل، ومن ثم لم تُدرك إلاَّ بالإلهام الإلهي الذي تتلقاه النبوة . ومدركات العقل إحدي خواص النبوة، ولكنها تصل بالإلهام إلي ما لا سبيل إليه للعقلاء ببضاعة العقل وحدها . ومعرفة شخص حامل النبوة، يحصل اليقين به بمعرفة أحواله، وسماع أقواله، فهذه وتلك دالة عليه . أما الآيات المستمدة من أحوال محمد عليه الصلاة والسلام وأقواله، فعديدة استشهد الإمام الغزالي بها . من نظر في أقوال رسول الله صلي الله عليه وسلم، وما ورد من أخبار عن اهتمامه بإرشاد الخلق وتلطفه في حث الناس بأنواع الرفق واللطف، إلي تحسين الأخلاق وإصلاح ذات البين، وما يصلح به الدين والدنيا يحصل لديه علم ضروري بأن شفقته عليه الصلاة والسلام من شفقة الوالد علي ولده . منهاج تحصيل العلم الضروري واجب بتصديق النبي وبالتأمل في القرآن . عود علي بدء لن تشبع وأنت تتابع الغزالي في رحلته الباحثة عن الإيمان اليقيني بالله تعالي وبالنبوة وباليوم الآخر، وكيف استقر به المقام بعد بحث عميق وتأمل طويل إلي مرفأ الأمان، وكيف وجد سعادته في التقوي وكف النفس عن الهوي ومجافاة الغرور، وكيف لم يعد يشغل نفسه إلاّ بالخلوة والرياضة والمجاهدة وتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب لذكر الله تعالي. وبعد، فليس في وسعي أن أغنيك في هذه السطور عن متابعة الغزالي في رحلته الشائقة، المتأملة الممتعة، وهو يبحث عن الحقيقة، حتي اهتدي إلي شاطئ الأمن واليقين.