استكملنا في المقالة السابقة الحديث عن الاعتبارات التي قد تؤثر في حكم الإنسان علي الآخرين، وتعليقًا علي تلك الكلمات، أرسل إليَّ أحد الأصدقاء رابطًا لمقطع ڤيديو قُرابة الدقيقتين، مع رسالة من كلمة واحدة: "صدَقتَ."! يعرض المقطع صورةً داخل أحد الفصول الدراسية، والمعلمة تمر بين الطالبات فاحصةً حقائبهن، وعند وصولها إلي إحداهن تجد الفتاة وقد احتضنت حقيبتها بشدة وتأبي أن تقدمها للمعلمة لتفتشها! وعندئذ تثور المعلمة معتقدةً أن الفتاة تُخفي شيئًا أخذته من صديقاتها، أو بالأحري سرقته منهن؛ ليزداد إصرارها علي كشف ما في الحقيبة. ومع إلحاح المعلِّمة يزداد تشبث الفتاة بحقيبتها، إلي أن أتت مديرة المدرسة وتصحَب المعلمة والفتاة إلي مكتبها؛ وهناك تنكشف الحقيقة: أن بالحقيبة كيسًا يحوي بقايا طعام زميلات الفتاة قد جمعتها لتقدمها إلي إخوتها الصغار سدًا لجوعهم!! وبالكلام مع الفتاة يتضح أن شقيقها الأكبر حاول الحصول علي المال بطريق غير قانونيّ زج به إلي السجن وهو ما تسبب في وفاة والدتهم؛ وهكذا صارت الفتاة عائل الأسرة!!! لقد رفضت الفتاة أن تفحص المعلمة حقيبتها، لا لأنها لصة كما ظنت المعلمة، وإنما لعدم رغبتها في كشف عوزها أمام زميلاتها كي لا تصبح مجالاً لحديثهن سواء بالازدراء أو بالشفقة؛ لذلك، يا عزيزي: كُن حريصًا جدًّا قبل أن تُطلق العِنان لكلماتك وأحكامك علي الآخرين، فربما أنت تجرح وتَزيد آلام من يحتاج إلي الرحمة والإنسانية!! أيضًا لا تحكم علي إنسان من خلال أحكام الآخرين، سواء بما هو طيب أو رديء، فأنت لا تدري أسباب أحكامهم ودوافعها أو الظروف التي أدت إليها، وضع في اعتبارك يا صديقي أن العالم يمتلئ بالمفارقات العجيبة والغريبة؛ بل أعطِ كل إنسان فرصته الكاملة، ودَعِ المواقف تؤكد لك الحقيقة، ولا يَخفَي أن التجارِب التي تمر بنا هي كاشفة الحقائق. كذلك احكم من خلال تاريخ معاملاتك مع الشخص لا من موقف واحد، فمن الممكن جدًّا أنه كانت في ذلك الموقف مؤثرات خارجية أو ضغوط قد جعلته يتصرف بأسلوب مغاير لطبيعته؛ وأنا في هذا المقام لا أقصد نصائح الوالدِين إلي أبنائهم بالحذر من أصدقاء السوء المعروفين بأعمالهم الشريرة، فيجب ألا يجازف الإنسان في طريق هو يعرف أنه يحمل علامات الخطر. أيضًا لا تخدعنَّك الكلمات الناعمة، وفي الوقت نفسه لا ترفض النصيحة المخلصة. أعجبتني حكمة تقول: "لسان الإنسان كتاب علي الأرض: فلا تُهمل قراءته، ولا تصدق كل ما تقرؤه فيه."؛ بل لتكُن عيناك وفكرك علي المواقف والكلمات معًا، يقولون: "إن أردت أن تعرِف خُلق إنسان، فانظر في كيفية معاملته لمن هم أقل منه، لا كيفية معاملته لرؤسائه.".