أ.د. أحمد عمر هاشم العدل أساس الملك، والعدل أساس الأمن والاستقرار. فحيث انتشرت العدالة، ولم يكن هناك ظلم من كبير إلي صغير، أو من مسئول أو ولي الأمر، ولابد أن يستقر العمل ولابد أن تستقر الحياة بالعدل. أما في جو الظلم، فلا يكون هناك أمن ولا استقرار، فتري المظلوم متبرما من العمل، ومن القائمين عليه ولا تري تعاونا بين العاملين الذين يشعرون بالظلم، فنهاية الظلم وخيمة، وعاقبته أليمة، وقد وضع الله تعالي أن الأمن والاستقرار للمؤمنين الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم، فقال جل شأنه: »الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون«. ولقد طبق الرسول صلوات الله وسلامه عليه العدالة علي نفسه عندما طالبه أحد أحبار يهود بدين لم يأت موعده بعد فاشتد واحتد في الطلب مما أثار حفيظة سيدنا عمر رضي الله عنه فقال له النبي صلي الله عليه وسلم: »لا يا عمر أنا وهو أولي منك بغير ذلك تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التقاضي«. وفي ظل الحياة العادلة تري الجميع آمنين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ولننظر إلي حياة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد طبق العدل في أسمي معانيه، ها هو ذا يأتيه رسول كسري بالمدينة فلم يجد له قصرا ولا بيتا متميزا عن سائر الرعية ويراه نائما أمام بيته، فدهش وقال قولته المشهورة: حكمت فعدلت فأمنت فنمت ياعمر، وقال في هذه الواقعة شاعر النيل حافظ ابراهيم رحمه الله: وراع صاحب كسري ان رأي عمرا بين الرعية عطلا وهو راعيها وعهده بملوك الفرس أن لها سورا من الجند والأحراس يحميها رآه مستلقيا في نومه فرأي فيه المهابة في أسمي معانيها فقال قولة حق أصبحت مثلا وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها أمنت لما أقمت العدل ياعمر فنمت نوم قرير العين هانيها ان الذين يعدلون فيما ولاهم الله تعالي هم الذين يجعلون من سلوكهم سببا لنشر الأمن والاستقرار في الأرض. والعدل مطلوب في العمل الإداري كما هو مطلوب في كل قول وفي كل عمل آخر، فهو مطلوب في القول: »وإذا قلتم فاعدلوا« وهو مطلوب في الحكم: »وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل«. وهو مطلوب في الاختيار وملء الأماكن بالكفاءات حتي لا تعصف الأهواء البشرية والرغبات الخاصة بأهل الجدارة والاستحقاق ففي الحديث »من استعمل رجلا علي عصابة وفيهم من هو أرضي لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين« ان العدالة في الحكم والإدارة، من أهم الأسس التي ينجح بها العمل الإداري ويستتب بها الأمن والطمأنينة والاستقرار. التحذير من استغلال الجاه والنفوذ: ان العمل الإداري الناجح، هو الذي يقوم المسئولون به دون أن يتميزوا علي سائر الناس بل يكونون قدوة لغيرهم في عدم التمييز، وفي عدم استغلال الجاه أو النفوذ، ولقد ضرب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أروع الأمثلة في ذلك، فمع انه أشرف المرسلين وخير خلق الله إلا أنه كان لا يحب أن يميز نفسه علي أحد من المسلمين ففي واقعة ذبح الشاة التي قال بعض أصحابه فيها أنا عليَّ ذبحها، وقال الآخر وأنا عليّ سلخها وقال الثالث وأنا عليّ طبخها قال عليه الصلاة والسلام: »وأنا عليّ جمع الحطب« فلما قالوا له كلنا يكفيك هذا يارسول الله؟ قال: علمت ذلك، ولكني أكره أن أتميز عليكم. وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحذر أهله وعشيرته من استغلال اسمه أو قرابتهم منه، فيأمرهم أن يكونوا آخر من يشبع وأول من يجوع، ويحذر ولاته من استغلال نفوذهم أو الحصول علي أيسر شيء باسم الوظيفة لقد أهدي إليه أحد ولاته حلوي فلما سأل حاملها قائلا: »كل المسلمين يأكلون ذلك؟« أجاب حاملها بقوله: بل هي طعام الخاصة فرفض سيدنا عمر رضي الله عنه قبولها وأمر الرجل الذي حملها أن يعود بها إلي الوالي وأن يقول له: عمر يأمرك ألا تأكل من طعام حتي يشبع منه قبلك جميع المسلمين. وعندما مر ببعض النوق التي بدت عليها آثار النعمة والسمنة سأل عن الذي يملك هذه الجمال، فأجابوا بقولهم إنها لعبدالله بن عمر، فإذا به يسوقها إلي بيت المال ظنا منه أن ثروة ابنه لا تفي لها، وأنه لولا جاهه بين الناس ما كان ليقدر علي إطعامها. وفي هذا يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم رحمه الله: وما وفي ابنك عبدالله أينقه رأيتها في حماه وهي سارحة فقلت ما كان عبدالله يشبعها ردوا النياق لبيت المال إن ل لما أطلعت عليها في مراعيها مثل القصور قد اهتزت أعاليها لو لم يكن ولدي أو كان ينميها حق الزيادة فيها قبل شاريها ويمثل هذه الإدارة للمجتمع وللحياة، وبعدم تمييز المسئول عن الناس، وعدم استغلال الجاه والنفوذ ينجح العمل الإداري ويكون المسئول فيه قدوة لمن معه، وتشرق الحياة بالعاملين المخلصين الذين لا يستعلون علي الناس. الرجوع إلي الحق: الرجوع إلي الحق، من أهم أسس العمل الإداري الناجح، وهو خير من التمادي في الباطل وخير من الاستمرار علي الخطأ أو ما ليس بمفيد.. وكثير من المسئولين يتعرضون لكثير من المواقف التي يتخذون فيها قرارا، أو يصدرون فيها بعض التوجيهات للذين يعملون معهم، ثم يتبين للذين معهم أن الأفضل هو إلغاء القرار أو ايقاف تلك التوجيهات لمجافاتها للحق أو لبعدها عن الصواب، أو أن غيرها أفضل منها للعمل وللصالح العام.. وكثير من الموفقين للحق من يدركون ذلك فيرجعون للحق ويرون أن الرجوع للحق خير من التمادي في الباطل، فلا يرون حرجا أن يرجعوا عن قراراتهم أو توجيهاتهم، ولا يتبرمون من ذلك مادامت المصلحة العامة تقتضي ذلك، وكلنا بشر، وليس فينا أحد معصوم.. ولكن هناك فريق آخر يري أن الرجوع إلي الحق وتغييره لقراره فيه نوع من الضعف أو ظهور له بمظهر المخطئ في قراره الأول أو في توجيهاته الأولي فيتمادي في الباطل حتي يقهر علي الرجوع عنهأو يوقع المصلحة العامة في حرج أو طريق مسدود، وهذا من أفدح الأخطاء والخطايا التي يرتكبها مسئول في مسيرته الإدارية وأولي له ثم أولي أن يرجع عن قراره إلي ما هو حق حتي لا يقع في الخطأ ويوقع من معه في حرج أو مأزق، وقد رجع رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو خير خلق الله عن موقفه يوم بدر ونزل بالجيش إلي المكان الذي أشار به لحباب بن المنذر ورجع عن رأيه في تأبير النخل وقال أنتم أعلم بشئون دنياكم، وهذا فيما لا وحي فيه، وليعلم المسلمين الرجوع إلي الحق وها هو سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه تسور الحائط علي قوم يشربون الخمر ليأخذهم علي غرة فأنكروا عليه أمورا ثلاثة وهي: دخوله عليهم من غير الباب وقد قال الله تعالي: ».. وأتوا البيوت من أبوابها« وأخذوا عليه عدم الاستئذان وقد قال تعالي: »يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتي تستأنسوا وتسلموا علي أهلها« والتجسس عليهم وقد نهي الله عن ذلك: »يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن اثم ولا تجسسوا« فأنثني عنهم ورجع بعد أن لزمته حجتهم، قال حافظ إبراهيم رحمه الله: قالوا مكانك قد جئنا بواحدة وجئنا بثلاث لا تباليها فأت البيوت من الأبواب ياعمر فقد يذم من الحيطان آتيها واستأذن الناس أن تغشي بيوتهمو ولم تسلم بدار أو تحييها ولا تجسس فهذي الآي قد نزلت بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها فعدت عنهم وقد أكبر حجتهم لما رأيت كتاب الله يمليها وما أنفت وان كانوا علي حرج من أن يحجك بالآيات عاصيها ورع المسئول وحفاظه علي المال العام: ومن أسس الإدارة الناجحة: وجوب المحافظة علي المال العامفليس هذا المال ملكا للحكومة كما يزعم البعض، فإن الحكومة شخصيات مؤقتة لهم آجال معينة وهم أمناء علي المصالح العامة والأموال العامة ولا يملكون هذا المال بل هم أمناء عليه، أما ملكية المال العام فهي للدولة كلها ولكل فرد حق فيه فمن اعتدي عليه كان معتديا علي حق الدولة كلها أفرادا وجماعات وكان المفرط في إهداره أو ضياعه مرتكبا لأكبر الذنوب