سرت موجة من الإحباط عندما نشرت الصحف أنه لن تتم دعوة الأمير «أحمد فؤاد» الذي كان ملكًا تحت الوصاية علي العرش لأقل من عام تعتبر مرحلة التعليم الجامعي في حياة معظم من اجتازوها نقطة تحول مهمة في مسيرة أعمارهم لأنها تعتبر القنطرة التي يعبر عليها الشاب من حياته الدراسية إلي حياته العملية كما أن فيها تأهيلًا لشخصيته وتكوينًا لنظرته للحياة وتفكيره تجاه القضايا المطروحة فضلاً عن صقل مواهبه وتنمية تجاربه وتجهيزه لخبرات الحياة القادمة، ومازلت أتذكر ذلك اليوم من شهر سبتمبر عام 1962 عندما ذهبت إلي حرم «جامعة القاهرة» في ساعة مبكرة من الصباح سعيًا نحو مبني كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وقد قابلني وقتها ضابط حرس الكلية وكان هو النقيب «نبيل ريحان» رحمه الله وقال لي يومها (إن أحدًا من الطلاب لم يحضر بعد) وكان الرجل لطيفًا ومثقفًا ومسيسًا أيضًا، ولقد أكمل بعد ذلك مشوار حياته في «المباحث العامة» إلي أن توفي مبكرًا بسبب مرض في كليته، وقد ظللت حينها ألتهم المكان والزمان في رغبة عارمة للتعرف علي تلك المرحلة الجديدة في حياتي وأنا أعلم أن تلك «الجامعة الأم» قد صنعت أعظم الرجال في تاريخنا الحديث، وبدأت أتعرف علي الأساتذة وكانت المحاضرة الأولي لأستاذ طاعن في السن وهو د. «أحمد سويلم العمري» أستاذ «العلوم السياسية» بالكلية والذي بدأ يتحدث عن عشرينيات القرن الماضي وسقوط دولة الخلافة وظهور «تركيا» الحديثة ولم أجد فارقًا كبيرًا بين ما يقول وبين ما كان يدرسه لنا أستاذ التاريخ في المدرسة، ثم توالي دخول الأساتذة بعد ذلك من الأسماء اللامعة، فشعرت باحترام شديد تجاه العميد الراحل د.»محمد زكي شافعي» أستاذ مادة «النقود والبنوك» وقد كان عالمًا كبيرًا وهو العميد المؤسس للكلية وقد أصبح فيما بعد وزيرًا للاقتصاد، كما رأيت الراحل د. «سعيد النجار» بشخصيته العذبة وأسلوبه الرفيع وإحساسه العميق بقضية الحرية مع ارتباطه ب»المدرسة الرأسمالية الحديثة» وكراهيته الشديدة ل»الشيوعية» والشيوعيين، ودخل د.»بطرس غالي» بأناقته الشديدة وسيارته التي يستبدلها بين حين وآخر مع عقله المنظم ورغبته الدائمة في التفكير بصوت مرتفع، ثم بهرني الدكتور «رفعت المحجوب» بتميزه الواضح وقدرته في السيطرة علي المحاضرة وتوافر أدوات البحث العلمي لديه بمنطق فلسفي وقد كان يدرس لنا علم «الاقتصاد السياسي» ويصول ويجول عند تعريفه لعلم (الاقتصاد) فهو «علم المنفعة»، وهو «علم الندرة»، وهو «علم الحاجة» وهو «علم الصيرورة» وقد كان د. «المحجوب» يفسر كل تعريف في براعة لم أر لها مثيلًا فضلاً عن قدرته علي شد الإنتباه لقوة شخصيته وأناقته ثم نظارته الطبية وعدساتها التي بدون إطار، ولقد قلدته في نفس العام باقتناء ذلك النوع من النظارات الطبية ولازلت حتي الآن! وأتذكر من عباراته قوله: (إن المعرفة المطلقة لا وجود لها لأن الإنسان ابن ظروفه، لم يعش في كل زمان وكل مكان ولو أنه عاش الدهر كله، وفي كل بقعة علي الأرض ما كانت النسبية هي قانون الحياة)، رحمه الله لقد قتل خطأً وغدرًا بعدما أصبح رئيسًا مرموقًا ل»مجلس الشعب» المصري، وعندما أطل علينا د. «عبد الملك عودة» شعرت أن أخًا كبيرًا أو أبًا يحتوي كل تلاميذه وعلي الرغم من أن للرجل ابنان فقط هما «جهاد» و»هشام» إلا أن الابن الثالث كان دائمًا هو كل واحد من تلاميذه بغير استثناء، ولقد ارتبطت بالدكتور «عودة» عبر سنوات عمره المديد وتعرفت منه علي مأساة إعدام شقيقه «عبد القادر عودة» عام 1954 وما جره عليه ذلك من ظلم خلال مسيرته العلمية والعملية، ولقد أكرمني الله بأن أتسلم منه مظلمة راقية للرئيس الراحل «جمال عبد الناصر» كي أقوم بتسليمها لزميلتنا الأستاذة الدكتور «هدي جمال عبد الناصر» وقد كتب عليها الزعيم الراحل (يرفع أسمه من قوائم الممنوعين من السفر ولا يوضع فيها مرة ثانية إلا بمعرفتي شخصيًا)، وقد كان لد. «عبد الملك عودة» مدرسة جامعية يقف في مقدمتها زميلنا الواعد د.»عليّ الدين هلال»، وقد كان د. «عودة» يدرس لنا «الشئون الإفريقية» التي تخصص فيها وأصبح رائدًا لها كما كان مسئولًا عن أسرة جامعية هي أسرة «النيل»، وكان من بين الأساتذة أيضًا د. «عاطف صدقي» الذي كان أستاذًا ل»المالية العامة» وقد أمضي أطول فترة في رئاسة الوزارة المصرية خلال عصر ما بعد 23 يوليو، وقد درس لي مادة «القانون الدستوري» الأستاذ د. «ثروت بدوي» وهو صاحب فضل عليّ شخصيًا لأنه دعاني لإلقاء خطاب أمام حشد كبير في الكلية حول حدث سياسي وطني وكان ذلك الخطاب هو شهادة ميلاد شعبيتي في الكلية لكي أصبح رئيسًا لاتحاد طلابها عدة سنوات، لقد كان ذلك كله تحت مظلة «العصر الناصري» بما فيه من آمال وأحلام وأوهام أيضًا، وقد كان تعلقنا بالبطل «جمال عبد الناصر» أمرًا يفوق الخيال فقد التف الشعب حوله كما لم يحدث من قبل إلي أن جاءت نكسة يوليو عام 1967 لتكتب نهاية المشروع القومي الذي قاده «عبد الناصر» لعقد ونصف من الزمان، ولقد كانت كلية «الاقتصاد والعلوم السياسية» في ذلك الوقت شعلة مضيئة تموج بالتيارات القومية حيث كان فيها نسبة عالية من الطلاب العرب الوافدين حيث اختلطت الدراسة فيها بالعمل الوطني العام والمشاركة في المناسبات القومية المختلفة وكانت الدراسة في تلك الكلية الوليدة هي مزيج من العلوم القانونية والاقتصادية والسياسية ودراسات الإحصاء والإدارة، وسوف تبقي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية رمزًا شامخًا يجمع بين العمل الأكاديمي والنشاط السياسي، ولابد أن أعبر عن سعادتي بأن عميدات الكلية الثلاث اللاتي تناوبن عليها في العقد الأخير وهم الدكاتره «مني البرادعي» و»علياء المهدي» والعميدة المتألقة الحالية «هاله السعيد» قد أضفن كثيرًا إلي الكلية مظهرًا وجوهرًا واستكملن عصر «علي الدين هلال» الذي تعلو عمادته علي وزارته، فقيمته الأكاديمية تطفو فوق ما عداها... تحية لهذه الكلية صاحبة الفضل علي وعلي كل زملائي وزميلاتي وسوف تبقي دومًا هي مصدر الإلهام ومخزن الذكريات لأننا قضينا فيها أحلي سنوات العمر في أجمل سنوات «مصر». دعوة «الملك» السابق سعد معظم المصريين بما كان قد تردد عن دعوة الرئيس «السيسي» ل»الملك» السابق «أحمد فؤاد» للمشاركة في احتفالات افتتاح «القناة الجديدة» استكمالًا ل»القناة الأولي» التي افتتحها جد أبيه «الخديوي إسماعيل» منذ ما يقرب من قرن ونصف واعتبرها الجميع تعبيرًا عن أصالة «السيسي» المعروفة وفهمه العميق لروح الوطن المصري، ثم سرت موجة من الإحباط عندما نشرت الصحف أنه لن تتم دعوة الأمير «أحمد فؤاد» الذي كان ملكًا تحت الوصاية علي العرش لأقل من عام واحد والذي انتهي به حكم «الأسرة العلوية» التي أسسها «محمد علي» عام 1805، وفي ظني أن الأمر أعمق من ذلك وأكبر، فالدول يجب أن تحترم تاريخها - بما له وما عليه - بل إنني كنت أطالب أن يعود «تمثال ديليسبس» إلي مكانه بمناسبة افتتاح «القناة الجديدة» تذكيرًا للجميع بأن «مصر» بلد معطاء يستوعب كل من يأتيه ويمتص الوافدين إليه ويصهرهم في بوتقة مصرية خالصة تجعلهم جزءًا لا يتجزأ من الوطن المصري العريق، لقد دعا الرئيس «السادات» رحمه الله «الملك» السابق «أحمد فؤاد» وأعطاه جواز سفر مصري بل وزاد علي ذلك أن أهداه سيف أبيه الملك «فاروق» كأحد مقتنيات القصور الملكية، وأتذكر عندما كنت في مؤسسة الرئاسة سكرتيرًا سياسيًا للرئيس الأسبق «مبارك» أن اتصل بي السفير «هشام النقيب» وقال لي أن ابن عمه وهو ابن الملكة السابقة «ناريمان» من زوجها د.»أدهم النقيب» قد اتصل به ليبلغه بأن أخاه من الأم الملك السابق «أحمد فؤاد» سوف يأتي إلي «مصر» زائرً وعندما أبلغت الرئيس الأسبق بذلك قال لي: (ترتب له خدمة أمنية ومراسمية محدودة دون التوسع الإعلامي)، ولقد جمعتني بالملك «أحمد فؤاد» بعد ذلك أكثر من مناسبة كان آخرها عشاء دعاني إليه علي شرفه د.»ماجد فرج» وهو صاحب دور كبير في إحياء الجانب الثقافي لتاريخ «الأسرة العلوية» في السنوات الأخيرة وقد امتلك نادي باسم «محمد علي» في منطقة «المنيب» ب»الجيزة»، وأنا أظن أن دعوة «أحمد فؤاد» كان يمكن أن يكون لها مردود إيجابي ولا أظن أن هناك ما يدعو لغير ذلك فالتاريخ تاريخ والرجل مصري الجنسية وليس لديه ولن يكون «أجندة» سياسية وبالتالي فإن حضوره حفل الافتتاح هو تعبير عن روح الشعب المصري ووفائه للماضي بخيره وشره. فنون الشام رغم أنني مصري الجذور والمسيرة والحياة إلا أنني شامي الهوي تستهويني «أصوات الجبل» بدءًا من «وديع الصافي» مرورًا ب»فهد بلان» وصولًا إلي «صباح فخري» فهي كلها نماذج تقف جنبًا إلي جنب مع الفنانين المصريين في منظومة قومية لا نكاد نجد لها مثيلًا في العالم العربي كله، ولقد تعود الفنانون الشوام الحصول علي ختم الصلاحية الشعبية من الجمهور المصري إلا أن بعضهم قد خرج عن هذا السياق، فإذا كانت «صباح» اللبنانية قد اكتسبت شهرتها من «مصر» وكذلك «فايزة أحمد» السورية وغيرهما من الفنانين والفنانات يتقدمهم «فريد الأطرش» ابن «جبل الدروز» وشقيقته الراحلة ذات النهاية الغامضة «اسمهان» بالإضافة إلي عشرات الممثلين والممثلات والأدباء والشعراء والرواه الذين وفدوا من «الشام» إلي «مصر» باعتبارها الواحة الآمنة والحضن الدافئ إلا أننا نرصد أسماء قليلة لفنانين كبار لم يكونوا مدينين لختم الصلاحية المصري ومع ذلك تقبلهم ذلك الجمهور واحتفي بهم دائمًا أذكر منهم «فيروز» اللبنانية و»دريد لحام» السوري، ولا شك أن الأنغام الموسيقية للشوام هي وافد تركي من عصور الهيمنة «العثمانية» إلا أن امتزاجها ب»القدود الحلبية» و»الموشحات الأندلسية» جعلها شيئًا مختلفًا ورائعًا، إن رقصات «دول الشام» «سوريا»و»لبنان»و»الأردن»و»فلسطين» تعطيني إحساسًا بأنها مزيج من فنون «العرب والترك» بل وبعض دول «شرق أوروبا»، وهل ننسي «رقصة الدبكة» والتي تعبر عن إيقاع رائع وفن جميل ورشاقة متناهية وشراكة بين الفتيان والفتيات في مظهر حضاري عصري يدعونا نحن المصريين إلي ضرورة تلمس خطانا للبحث عن رقصة مصرية جماعية ذات خصوصية وتميز إذ أن «الميوعة الفنية» تؤدي بالضرورة إلي تراجع مظاهر الهوية ونحن محتاجون دائمًا إلي تأكيد الذات وتثبيت الشخصية الوطنية من خلال الآداب والفنون، وأنا أزعم هنا أن الفن هو قاهر «الإرهاب» والقادر علي القضاء عليه لأن الفن يصنع الحياة بينما «الإرهاب» صناعته الموت، وعندما غني «عبد الوهاب» «يا جارة الوادي» ل»أمير الشعراء» صدحت بها «فيروز» في تكامل قومي وتناغم ثقافي لابد أن نعتز بهما، وما تركت حفلًا لفنون شامية في «مصر» إلا وسعيت إليه وقصدته مستمعًا ومستمتعًا، وأتذكر أن السيد «عمرو موسي» وزير الخارجية الأسبق وأمين عام جامعة الدول العربية السابق لديه شيء من نقطة الضعف هذه، وما أكثر ما ذهبنا سويًا إلي حفلات «وديع الصافي» و»صباح فخري»، بل إنه من الطرائف أنني كنت أعمل مساعدًا لوزير الخارجية وكان نائبي هو السفير المتميز «محمود عبد الجواد» سفيرنا الأسبق في «البحرين» والمستشار الدبلوماسي ل»الإمام الأكبر» «شيخ الأزهر» حاليًا فإذا به يتصل بي من مكتبه المجاور ويقول لي: (إن لدي صديقًا مشتركًا سوف يأتي للسلام عليك الآن بلا موعد) فترقبت الضيف فإذا به الفنان الكبير «صباح فخري» الذي كان يزور «القاهرة» وتربطه بالسفير «محمود عبد الجواد» صداقة منذ سنوات عمله في السفارة المصرية ب»دمشق»، وأتذكر أن الفنان «صباح فخري» مر يومها أيضًا علي مكتب السيد «عمرو موسي» وزير الخارجية لتحيته والسلام عليه، إن الفن هو عنوان الشعب ومظهر الأمة وروح الإنسان والزمان والمكان، وأنا أتذكر الآن ما يعانيه الشعب السوري الشقيق العريق في تاريخه والأبي في تكوينه وأبناؤه الآن بين قتيل أو جريح أو لاجئ أو نازح أو مشرد.. حمي الله «الشام» بثقافتها وآدابها وفنونها حتي لا ننسي ما قاله أمير الشعراء في مطلع رائعته أمام مشهد العدوان علي «سوريا» في عشرينيات القرن الماضي، لقد قال «شوقي» يومها « وعز الشرق أوله «دمشق»!»