المقاولون العرب" تنتهي من طريق وكوبري ساكا لإنقاذ السكان بأوغندا"    خلايا رعدية وأمطار غزيرة.. الأرصاد تحذر من طقس الساعات المقبلة    حقيقة انتشار بطيخ مسرطن بمختلف الأسواق    السبت 27 أبريل 2024 ... نشرة أسعار الخضراوات والفاكهة مع بداية تعاملات اليوم    بعد رأس الحكمة وقرض الصندوق.. الفجوة التمويلية لمصر 28.5 مليار دولار    «اللتعبئة والإحصاء»: 192 ألفا و675 "توك توك" مرخص في مصر بنهاية عام 2023    السبت 27 أبريل 2024.. نشرة أسعار الحديد والأسمنت اليوم    محافظة القاهرة تشدد على الالتزام بالمواعيد الصيفية للمحال التجارية والمطاعم    رئيس جهاز العاصمة الإدارية يجتمع بممثلي الشركات المنفذة لحي "جاردن سيتي الجديدة"    قوات الاحتلال تقصف المناطق الغربية من خان يونس بالمسيرات    وزير الخارجية الأردني يقول إنه لا أفق حقيقيا حتى اللحظة لنهاية الحرب على غزة    حماس تتسلم رد إسرائيل بشأن الصفقة الجديدة    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي    زلزال بقوة 4.1 درجة يضرب شرق تركيا    الإمارات تستقبل 25 من الأطفال الفلسطينيين الجرحى ومرضى السرطان    حزب الله يعلن استشهاد 2 من مقاتليه في مواجهات مع الاحتلال    "أبعد من التأهل للنهائي".. 3 أهداف يسعى لها جوميز مع الزمالك من مواجهة دريمز؟    مواعيد مباريات اليوم السبت 27 أبريل 2024 والقنوات الناقلة    خالد بيبو: "لن أخفي كُرتين معي في مباراة الزمالك.. وهل أصبح الحق باطلا؟"    قبل 3 جولات من النهاية.. ماهي فرص "نانت مصطفى محمد" في البقاء بالدوري الفرنسي؟    أمطار تصل لحد السيول.. الأرصاد: استمرار التقلبات الجوية على المناطق الجنوبية اليوم    التحقيق في حريق التهم شقة بسيدي بشر شرق الإسكندرية |صور    وزير التعليم يصل محافظة الغربية لتفقد عدد من المدارس بالمحافظة    اليوم.. استئناف محاكمة المتهمين بقضية تنظيم القاعدة بكفر الشيخ    تفاصيل جريمة الأعضاء في شبرا الخيمة.. والد الطفل يكشف تفاصيل الواقعة الصادم    دينا فؤاد: «الاختيار» الأقرب لقلبي.. وتكريم السيسي لي «أجمل لحظات حياتي»    برج الثور.. نصيحة الفلك لمواليد 27 أبريل 2024    كيف أدَّى حديث عالم أزهري إلى انهيار الإعلامية ميار الببلاوي؟.. القصة كاملة    جلست القرفصاء أمام جمهور الإسكندرية، سلوى محمد علي تثير الغضب والنشطاء يكشفون السر    أول تعليق من أنغام مشاركتها في احتفالية ذكرى عيد تحرير سيناء    هيئة كبار العلماء: الالتزام بتصريح الحج شرعي وواجب    متى يحق للزوجة الامتناع عن زوجها؟.. أمين الفتوى يوضح    خبير أوبئة: مصر خالية من «شلل الأطفال» ببرامج تطعيمات مستمرة    وزارة الصحة: 3 تطعيمات مهمة للوقاية من الأمراض الصدرية    إطلاق قافلة طبية بالمجان لقرية الخطارة بالشرقية ضمن مبادرة حياة كريمة    سياسيون عن ورقة الدكتور محمد غنيم.. قلاش: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد.. النقاش: تحتاج حياة سياسية حقيقية.. وحزب العدل: نتمنى من الحكومة الجديدة تنفيذها في أقرب وقت    علي جمعة: الشكر يوجب على المسلم حسن السلوك مع الله    هتنام بسرعة| 4 آيات حل رباني لمن لا يستطيع النوم ليلاً.. داوم عليها    اليوم .. جهاز المنتخب يتابع مباريات الدوري    كندا تخصص أكثر من مليوني دولار لصناعة المسيرات الأوكرانية    بعد قليل.. الحكم في اتهام مرتضى منصور بسب عمرو أديب    المتهم خان العهد وغدر، تفاصيل مجزرة جلسة الصلح في القوصية بأسيوط والتي راح ضحيتها 4 من أسرة واحدة    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    استقرار أسعار الذهب في بداية التعاملات يوم السبت 27 أبريل 2024    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    "كنت ببعتله تحياتي".. كولر يكشف سر الورقة التي أعطاها ل رامي ربيعة أثناء مباراة مازيمبي    حكم الشرع في الإسراع أثناء أداء الصلاة.. دار الإفتاء تجيب    نتيجة انتخابات نادي القضاة بالمنيا.. عبد الجابر رئيسًا    لدورة جديدة.. فوز الدكتور أحمد فاضل نقيبًا لأطباء الأسنان بكفر الشيخ    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    تصل للحبس 7 سنوات.. عقوبة القتل بحوادث الطرق    الأهلي ضد الترجي.. نهائي عربي بالرقم 18 في تاريخ دوري أبطال أفريقيا    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    يسرا اللوزي تكشف سبب بكائها في آخر حلقة بمسلسل صلة رحم.. فيديو    تنفع غدا أو عشا .. طريقة عمل كفتة البطاطس    رسميا| الأهلي يمنح الترجي وصن داونز بطاقة التأهل ل كأس العالم للأندية 2025    السيسي محتفلا ب"عودة سيناء ناقصة لينا" : تحمي أمننا القومي برفض تهجير الفلسطينيين!!    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسامة عفيفي يكشف عن أب مؤسس مجهول للحركة التشكيلية المصرية

كشف الناقد التشكيلي أسامه عفيفي في محاضرة ألقاها ليلة أمس في الموسم الثقافي لصالون جمعية محبي الفنون التشكيلية عن الدور المجهول الذي لعبه الرائد فؤاد أفندي عبد الملك في تأسيس صالون القاهرة ووصف عفيفي 'عبد الملك ب'أيقونة الثقافة الوطنية المصرية
وقال عفيفي 'برغم أهميه دور عبد الملك الرائد، فإنه لا يكاد يذكر اسمه إلا بين السطور هنا وهناك في هذا البحث أو ذاك، رغم كونه أب مؤسس للحركة الفنية التشكيلية المصرية.
وقدم عفيفي بحثه بعنوان ' فؤاد أفندي عبد الملك.. أيقونة الثقافة الوطنية المصرية وجاء فيه:
في تاريخ الثقافة الوطنية المصرية، كوكبة من البنائين العظام الذين كرسوا مواهبهم ومعرفتهم لتأسيس مشروع الحداثة المجتمعية، وإنشاء المؤسسات الثقافية التي أضاءت بإشعاعاتها طريق الحرية والتقدم منذ القرن التاسع عشر حتي الآن.
منهم من عرفه الناس وكرموه، ومنهم من لم يعرفه أحد.. ولأن الحقيقة لا تطمس كما يقول ديكارت، لأنها موجودة بذاتها بغض النظر عن اكتشافنا لها، سيظل دور الباحث دائمًا هو التفتيش عن الحقائق المحجوبة، بفعل الزمن.. أو بفعل فاعل.
حتي نجوم الرواد الذين نعرفهم، لم يسلم تاريخهم من السطو أو التهوين من جهودهم، أو نسبة دورهم إلي الحكام والملوك والسلاطين.
فكثير من 'كسالي الباحثين' ينسبون 'القاهرة الحديثة' إلي الخديو إسماعيل، لدرجة أنهم أطلقوا عليها اسم 'القاهرة الخديوية'، في حين أن مؤسسها هو علي مبارك البنَّاء العظيم، الذي خططها وأشرف علي تطويرها وبنائها.. كما أنه هو الذي أسس 'الكتبخانة' علي أحدث طراز عالمي في ذلك الوقت، وطور منظومة التعليم الأولي وقام بتحديثه.
كذلك ينسب الكثيرون بناء 'الأنتكخانة' – المتحف المصري – لنفس الخديو ومستشاريه الفرنسيين، في حين أن مؤسسها هو العلّامة أحمد كمال صاحب موسوعة 'تاريخ قدماء المصريين'، ومؤسس 'مدرسة الآثار'، التي ظلت مستقلة حتي تحولت إلي قسم في كلية الآداب في عهد الملك فؤاد.
ومن هؤلاء البنائين العظام فؤاد أفندي عبد الملك، الذي هو موضوع بحثنا.. ، ورغم أهمية دوره الرائد، لا يكاد يذكر اسمه إلا بين السطور هنا وهناك في هذا البحث أو ذاك، وفي هذه المطبوعة أو تلك، دون أن يعرف الناس دوره الحقيقي كواحد من أهم البنائين العظام في تاريخ الحركة الثقافية والحركة التشكيلية المصرية الوطنية.
بل إن الرجل الذي أهملته المراجع، هو الذي أسس عددًا من المؤسسات التشكيلية الوطنية تلك التي نُسبت إلي آخرين تصدروا 'الصورة'، لدرجة أننا فشلنا في العثور علي 'صورة شخصية' واحدة له.. فيم بين أيدينا من مراجع!!
إنها 'أوهام السوق' الذي حذر منها فرانسيس بيكون.. والتي يري أنها تأتي نتاج الكسل العقلي، وتقديس المعرفة الموروثة التي تتواتر إلينا من الماضي دون تمحيص أو نقد، فتصبح حقائق في 'سوق المعرفة'، وتتحول إلي 'مسلمات' لا يأتيها الباطل من أي حدب أو صوب!
ولكي نكتشف الحقيقة، يوصينا بيكون بالحفر والحفر الدءوب والدائم في أصول هذه الأوهام، لنفندها وننقدها، ونبحث عن جذورها لنصل إلي الحقيقة 'الحقيقية'، فيزول الوهم ويتلاشي.
وعندما دُعيت إلي كتابة أحد فصول هذا الكتاب التذكاري، اخترت أن أكتب عن فؤاد أفندي عبد الملك المؤسس الحقيقي لصالون القاهرة، ليس فقط من أجل إبراز دوره الذي نُسب إلي الآخرين، وإعادة الاعتبار له كواحد من روادنا اللامعين.. لكني اخترته بالذات لأحرك به بركة تأريخ الفنون التشكيلية المصرية الراكدة، بإثارة دوامات من الأسئلة الرعناء.. التي قد تفتح شهية الباحثين الجادين للبحث والتنقيب والحفر.
بمعني أدق، تحاول هذه الدراسة إشعال النيران في الأوهام السائدة، وإثارة الأسئلة المشاغبة، وفتح الأبواب المغلقة بروعنة، ونزع 'القداسة' الزائفة عن مسلمات باتت تخنق البحث العلمي، وتثقل كاهل ثقافتنا الوطنية، فبعد ثورة 25 يناير لم يعد هناك أي مؤجلات ثقافية أو فكرية، ولم يعد هناك أي شيء غير قابل للنقاش أو النقد.
ولقد اعتبرت شخصية فؤاد أفندي عبد الملك 'أيقونة ثقافية'، أحاول أن أكشف بها أوهام السوق الثقافية، ومن ثم التشكيلية.. لتفكيك المشهد التاريخي الثقافي، وإعادة تركيبه من جديد.. أي أن هذه الدراسة ليست دراسة تاريخانية تحاول إعادة توثيق الماضي، أو نفض الغبار عن وثائقه الغابرة أو غير المعروفة.. لكنها قراءة انقلابية ضد التاريخ الرسمي، الذي كتبته طبقة النبلاء الأرناؤط، وخدامهم في الماضي، والمنبهرين بزمن الأبيض والأسود وفردوسه المفقود من المؤرخين المعاصرين والباحثين الكسالي.
إنها محاولة لقراءة التاريخ من ضفةٍ أخري لم يسمح لسكانها بكتابة تاريخ الوطن حتي الآن، وأعني بسكان الضفة الأخري: 'الطبقة الوسطي'، التي قادت مشروع الحداثة الوطني منذ القرن التاسع عشر حتي الآن.. وسرقت جهودها طبقة كبار الملاك ومن بعدهما البرجوازية الكبيرة، ومن بعدهما الرأسمالية الطفيلية الوكيلة التابعة للرأسمالية عابرة الجنسية.
المجد للأفندية
نعود إلي أيقونتنا، فؤاد أفندي عبد الملك.. فالرجل ليس فقط مؤسس صالون القاهرة في دورتيه الأولي والثانية.. ولكنه مؤسس أول 'مؤسسة وطنية للفنون بمصر''1'.
فلقد أنشأ عام 1919 'دار الفنون والصنائع' بشارع بولاق بمصر نمرة 21.. 'بهدف إحياء الفنون الوطنية، ونشر الوعي الفني بين أبناء مصر، وتشجيع الفنانين للارتقاء بالفن المصري الوطني الحديث''2'، ولقد نظمت الدار دورات لتعليم الرسم للهواه من أبناء الشعب، ودورات لتعليم 'الصبيان' الفنون الوطنية علي يد 'أسطوات الصنعة المهرة''3'.
وكان أول نشاط للدار تنظيم ثاني معرض لخريجي مدرسة الفنون الجميلة والهواه من المصريين والأجانب، تحت رعاية هدي شعراوي، وشارك فيه: مختار، وأحمد حسن، وراغب عياد، ويوسف كامل، ومحمود سعيد، ومحمد ناجي، وشفيق شاروبيم، ومن الأجانب: روجيه بريفال، وبيبي مارتان، وشارل بوجلان، ومن الأمراء: الأمير محمد علي والأميرة سميحة حسين.
وتم اقتناء جميع المعروضات، وكان من أبرز المقتنين: سعد زغلول، وعدلي يكن، وحسين رشدي، وعلي كامل فهمي 'أخو مصطفي كامل'، والأمير يوسف كمال'4'.
هذه المؤسسة تعد علامة فارقة في التاريخ التشكيلي الوطني.. ودائمًا ما يذكرها مؤرخو الفن بشكل عابر ودون أي قراءة لدلالاتها ودلالة تاريخ إنشائها.
فهي أول مؤسسة فنية وطنية يؤسسها مصري من غير المنتمين للدم الملكي الأزرق، ومن غير الأجانب المقيمين أو المتمصرين، كما أنها أُنشئت عام 1919.. عام الثورة المصرية التي فجرها الشعب المصري بقيادة 'الأفندية' من طليعة الطبقة الوسطي المصرية.. كأنها إشارة واضحة تؤكد انتصار الثورة علي الأرض، وقبل الخوض في دور هذه المؤسسة التي استمرت أربع سنوات كاملة.. علينا أن نتأمل قليلا هذه الدلالات والإشارات، ولكي تتكامل الصورة من 'الضفة الأخري' كما أسلفت، نعود إلي الوراء قليلا.. من خلال شخصية فؤاد عبد الملك، الذي ولد عام 1878، أي أنه كان قد بلغ 41 عامًا عندما أسس مؤسسته في عام 1919.. مما يؤكد لنا أن شخصية الرجل ووعيه المعرفي والثقافي، قد تشكلا في أتون الحركة الوطنية المصرية منذ الثورة العرابية حتي ثورة 19، وشكلت وجدانه نداءات مصطفي كامل بعد هزيمة عرابي، وخطبه الحماسية الثورية التي تفخر بالمصرية، إنه من الجيل الذي حفظ عبارة مصطفي كامل القائلة: 'لو لم أكن مصريًا لوددت أن أكون مصريًا'.. وعاش مأساة دنشواي، ومعارك الهوية المصرية، ومشروع الحداثة الذي قاده الحزب الوطني القديم، وناضل ثواره من أجل الحياة البرلمانية، وحرية الفكر والاعتقاد والرأي، وتعريب التعليم الوطني، ومناهضة الامتيازات الأجنبية.
وشارك في مظاهرات خريجي المدارس العليا من أبناء الطبقة الوسطي، التي كانت تطالب بتمصير الوظائف الحكومية، والاستغناء عن الأجانب.. عاش فؤاد عبد الملك هذه الأجواء الساخنة وهو طالب بكلية الفرير، ثم الآباء اليسوعيين، وتخرج منها عام 1895، ونظرًا لميله الطبيعي للفنون، كان يساعد أساتذته في صنع المناظر والديكور المسرحي في حفلات المدرسة السنوية، ويصقل موهبته الفنية في الأقسام الزخرفية بالمدرسة التي كان يقوم بالتدريس فيها مجموعة من الأساتذة النابهين من خريجي مدرسة العمليات'5'.
وتعلم مبكرًا علي أيدي أساتذته الكبار: أن الفن الشعبي والفنون الوطنية تشكلان هوية الأمة.. ويؤكد ذلك الفنان محمد عزت مصطفي بقوله: إن روح مصر وموهبتها كانتا تتطلعان إلي استعادة المجد الفني الغابر، رغم ما كانت تبثه الرجعية من عقبات في طريق النهضة المنشودة، وكان نتيجة ذلك أن ظهرت الطليعة الفنية الأولي في الأقسام الزخرفية التي كانت تضمها مدرسة العمليات التي أنشأها محمد علي عام 1830، والتي أسست طريق الهوية للنهضة الفنية الجديدة التي بني علي أساسها الوطني الطليعة الفنية الثانية من خريجي مدرسة الفنون التي أُنشئت عام 1908'6'.
ويؤكد د.مصطفي الرزاز هذا الوعي عند الرجل بقوله: ولقد قام فؤاد عبد الملك بتوجيه الأجيال الشابة من الفنانين، وجهز لهم مراسم بسراي تجران بشارع إبراهيم باشا في الثلاثينيات، وكلفهم بتصوير الحياة الشعبية بالقاهرة ومظاهرها في لوحات ملونة يتم تنفيذها بتقنية الخيامية.. باستخدام الأقمشة الملونة'7'.
أي أن الرجل كان يتشكل ثقافيًا وفنيًا وفكريًا في أتون تَشكُّل الحداثة المجتمعية الجديدة.. التي شكلت الحداثة الثقافية الوطنية، تلك التي اجتاحت فنون الشعر الجديد، والقصص والروايات والصحافة، والغناء والمسرح.
هذا الحراك المجتمعي هو الذي شكل ملامح الثقافة الوطنية، ونسيج الفنون الجديدة، التي شكلت وعي ووجدان أيقونتنا فؤاد أفندي عبد الملك.. فهو ابن شرعي لهذا الحراك التاريخي الخلّاق.. وكما يقول المؤرخ الروسي بوجيدانوف: 'أن الفن التشكيلي المصري الذي ولد في بداية هذا القرن - يقصد القرن العشرين – ارتبط بشكل وثيق بحركة التحرر الوطني ضد الإمبريالية الإنجليزية بجميع مراحل هذه الحركة، ورغم ضراوة الاستعمار وجهوده من أجل إيقاف حركة التطور الثقافي للشعب المصري بشكل قسري، لم ينجح المستعمر في إيقاف تصاعد قوي التحرر ونجاحاتها التي لاقت انعكاسًا مباشرًا وسريعًا في البداية علي مستوي الأعمال الأدبية ثم بعد ذلك في الفنون التشكيلية''8'.
هذا هو المناخ الذي تشكل فيه وعي أيقونتنا فؤاد أفندي عبد الملك.. وعندما اكتشف أن موهبته الفنية هي طريقه في الحياة، انتظم في مرسم الفنان الفرنسي 'جورج دي بييف'، وتلقي دروسًا منتظمة في الرسم والفنون، وفنون التصوير الفوتوغرافي، ثم عمل مساعدًا للمصور الفوتوغرافي الأرمني الشهير 'لكجيان'، ثم سافر إلي ألمانيا ليلتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بميونخ'9'.. وهناك لم يغب عن باله ولا عقله ولا وجدانه مشروع وطنه الثقافي، ولأن الدراسة بالأكاديمية الألمانية كانت شاملة.. فلقد درس التصوير الزيتي والجداري والنحت، بالإضافة إلي التصوير الفوتوغرافي الذي كان أبرز اختراعات هذا العصر، ثم سافر إلي فرنسا وإنجلترا ودرس فنون النحت وصب التماثيل باستخدام خامات مختلفة منها 'الشمع'، وهي الخبرة التي أهلته فيما بعد لإنشاء متحف الشمع عام 1934.
نعود إلي دار الفنون والصنائع، كأول مؤسسة فنية وطنية.. لنتأمل شيئًا آخر.. غير دلالة تأريخ إنشائها.. فلقد اختار لها مؤسسها اسم 'الفنون والصنائع'، وهو الاسم الذي حملته مدرسة العمليات في مطلع القرن أي بعد عام 1900، واستمرت به إلي أن سميت مدرسة 'الفنون الزخرفية' عام 1919، قبل أن تصبح مدرسة الفنون التطبيقية فيما بعد.
هذه التسمية أقصد 'الفنون والصنائع'، كانت تعبيرًا عن توجه ثقافي جارف – كما أسلفت – يربط بين الماضي والحاضر – ثقافيًا – ويؤمن بأن الطريق الوحيد للنهضة الفنية يمر عبر 'فنون الشعب'، بل وينظر إلي 'الإنتاج الشعبي' نظرة إيجابية غير استعلائية، أي أنه لا ينظر إليها كحرف تقليدية بل كفنون حضارية، ينبغي أن تسهم في خلق 'الذات الوطنية الفنية'، وربما – أقول ربما – أن دراسته في أكاديمية ميونخ التي كانت تمور بالاتجاهات الحديثة في ذلك الوقت، مع بروز أفكار القومية الألمانية، وتطور الثورة الصناعية التي ثارت علي الأفكار الأرستقراطية في الفن وظهور مدرسة الفن الوظيفي، قد عززت لديه هذا التوجه الذي كان موجودًا بالفعل في مصر نتيجة جهود 'الرعيل الأول' من خريجي مدرسة العمليات من جهة، ونتيجة جهود الرعاة الوطنيين الذين أسسوا الجمعيات المختلفة للنهوض 'بالفنون الوطنية'، ومنها مصنع الخزف المصري الذي أسسته هدي شعراوي، والذي كان يقوم علي تطوير الخزف والبورسالين بابتكار أشكال مصرية موروثة سواء فرعونية أو إسلامية، وهو المصنع الذي عمل فيه النحات محمود موسي وعبد البديع عبد الحي.. وغيرهما من الفنانين.
ويذكر لنا التاريخ أن عددًا من خريجي مدرسة العمليات أسسوا في مطالع القرن العشرين لجنة سميت 'لجنة ترقية الفنون والصنائع المصرية'، وأن هذه اللجنة - فيما يذكر – د.مصطفي الرزاز: 'أقامت في 15 أغسطس عام 1916 - أي قبل تجربة فؤاد عبد الملك -.. معرضًا للصناعات التقليدية المصرية بحديقة رشيد بالإسكندرية، ولقد افتتح المعرض السلطان حسين، وعدد من أصحاب السمو الأمراء، ورئيس الوزراء، والوزراء، ورئيس وأعضاء لجنة ترقية الفنون والصنائع، وجمهور كبير من سراة المصريين، وكبار أصحاب المصانع المصرية.. من بينهم طلعت حرب، وأعجب السلطان بأعمال النجارة الدقيقة المطعمة بالفضة والذهب والعاج والصدف من صنع المعلم 'أحمد البقري'، وقرر السلطان إدخال ثلاثين قطعة من إنتاج البقري لسراياته، وأشار إلي ضرورة تشجيع الأهليين علي فرش منازلهم بالأثاث الوطني.. ''10'.
أي أن التفتيش عن 'الذات الوطنية' الذي شكل سدي ولُحمة هوية مشروع الثقافة الوطنية، كان يسعي إلي 'مشروع قومي' متكامل، وكانت الطبقة الوسطي المصرية تصنع علي الأرض 'الثقافة القومية' في مواجهة الطبقة الحاكمة ذات الأصول التركية، وكبار الملاك المنحدرين من أصول تركية أيضًا، ومحاولات طمس الهوية القادمة مع الاستعمار الأنجلو ساكسوني والفرانكفوني معًا.
أي أن فؤاد أفندي عبد الملك، عندما أنشأ مشروعه الوطني، كان واحدًا من المؤمنين بهذا المشروع الذي انتصر علي الأرض في ثورة 1919.
وتوالت نجاحات دار الفنون والصنائع بعد المعرض الأول.. فأقام المعرض الثاني عام 1920، وبيعت معروضاته أيضًا.. وأصبحت 'دار الفنون والصنائع' المحل المختار للفنانين المصريين، يعرضون بقاعاتها أعمالهم الجديدة.. ويشرفون علي دوراتها الفنية في تعليم الرسم، ويتفاعلون مع كبار أسطوات الفنون الوطنية الذين يعلِّمون الأجيال الجديدة أصول الصنعة.
وفي أوائل 1921، طرح فؤاد عبد الملك فكرة إنشاء أول جمعية وطنية أهلية للفنون، وأجمع الحاضرون علي تسميتها باسم 'الجمعية المصرية للفنون الجميلة'، ورأسها الفنان الرائد محمد حسن.. وقررت الجمعية تأسيس معرض سنوي للفنون يشارك فيه خريجو المدارس الفنية والهواه من المصريين والأجانب.
وبالفعل.. أقيم أول 'صالون للقاهرة' بدار الفنون والصنائع عام 1921، وصمم غلاف المعرض الأول الفنان محمد حسن، ورسم عليه ريفية تحمل 'الباليت' بيد، وتسند رأسها علي يدها الأخري، ومن ورائها بزغ قرص الشمس معلنًا شروق يوم جديد'11'.
ويروي محمد صدقي الجباخنجي: أن المعرض افتتح في 15 إبريل عام 1921، تحت رئاسة الأمير يوسف كمال 'الفخرية'، وصاحبة السمو السلطاني الأميرة سميحة حسين.
بينما رأس الصالون د.عزت شكري، وعضوية كامل غالي والدكتور سامي كمال 'ناقد'، والمقاول المحب للفنون بول ألفريدنيس، ومحمود مختار، وتألفت لجنة التحكيم من: محمود مختار رئيسًا، وراغب عياد سكرتيرًا، وعضوية جابريل بيسي مدير مدرسة الفنون الجميلة، ومحمد حسن، وكامل راغب، وعثمان مرتضي الدسوقي، ويوسف كامل.
وبلغ عدد العارضين - كما يقول الجباخنجي – 55 فنانًا، منهم 32 مصريًا و23 من مختلف الجنسيات، واشتركت الأميرة سميحة حسين بتمثال لوالدها السلطان حسين، وتمثال نصفي لفتاة ريفية وماكيت لموضوع وطني!
واشترك من المثالين: محمود مختار، وعثمان مرتضي الدشوقي، وأنطون حجار، ومن المصورين: محمد حسن، ومحمد ناجي، وعلي الأهواني، ومن هواة الفن – العبارة للجبانخنجي –: محمود سعيد، ومحمود فؤاد مرابط، ومصطفي مختار، وأيوب بشارة، ومحمد خيرت العمري، وطاهر العمري، وحافظ سعيد، ومحمد بهجت نديم، ومن السيدات الهاويات: زينب مبروك، وحرم محمود سري، والآنسات نفيسة أحمد عابدين، ونجف محمود مصطفي، وأمينة شفيق، وحرم حجازي بك.. ومن الأجانب: جون بونتيلا مدرس الرسم بمدرسة الفنون والزخارف، ويوسف بونيلو، وجابريل بيسي، والفنانة الإيطالية كازونا تودافورنو، ووليم ستيوارت مدير مدرسة الفنون والزخارف'12'.
كانت أصداء المعرض الأول مدوية، فلقد بيعت أغلب مقتنياته، وانشغلت الصحف والمجلات المصرية بأخباره، وبشرت بميلاد حركة فنية جديدة، واحتلت أعمال الفنانين المصريين مكان الصدارة في العديد من الصحف السيارة، رغم وجود عارضين من الأمراء والأجانب.
ونتيجة لنجاح 'الصالون الأول'، قررت الجمعية تنظيم الصالون الثاني، الذي افتتح في ربيع عام 1922 تحت رعاية الأميرة سميحة حسين، وأقيم كسابقة بدار الفنون والصنائع لصاحبها فؤاد عبد الملك، وقام بأعمال السكرتارية راغب عياد، واشترك في المعرض 27 فنانًا مصريًا منهم: محمود سعيد، ويوسف كمال، وراغب عياد، ومحمد ناجي، وأحمد صبري، وشفيق شاروبيم، والمثَّال يوسف طاهر، ومحمد أمين غالي العمري، ومصطفي مختار، ومحمد خيرت العمري، وزكي عبده، وراءول كساب، ومحمود إبراهيم، ومن الفنانين الأجانب 15 من بينهم: فريدريك بزنو، وجابريل بيسي، وكولون، ويوسف بونيلو، وحسن هدايت شيرازي، والأميرة سميحة حسين، وخديجة أبو العز، وعائدة كامل عوض، وجزيل خورشيد، ومدموازيل عيروط'13'.
ونجح الصالون الثاني أيضًا.. وتناولته الصحف رغم الأجواء السياسية المشتعلة بين سعد زغلول وعدلي يكن.
بدايات الانكسار
واستمرت دار الفنون والصنائع وصاحبها فؤاد أفندي عبد الملك.. في دعم الفنون الوطنية، ودعم الفنانين الشبان، لكن احتدام الصراع السياسي وما صاحبه من ركود اقتصادي، وعدم استقرار اجتماعي في المرحلة الانتقالية بعد ثورة 1919.. وفشل المفاوضات مع الإنجليز، والإحباط الذي ساد الشارع المصري بعد تحالف الإنجليز والملك وكبار الملاك، الذي أدي إلي تشكيل لجنة 'الدستور' بعيدًا عن ثوار ثورة 19، وهي اللجنة التي أطلق عليها سعد زغلول 'لجنة الأشقياء' التي صاغت دستور 1923، الذي أعطي للملك صلاحيات حل البرلمان، وتشكيل الوزارة وإقالتها بدون أسباب، فضلا عن انحيازه لطبقة كبار الملاك، وإهدار حقوق الفلاحين والطبقة الوسطي، والذي يعتبره المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي بداية نكسة ثورة 1919، وهزيمة مروعة للطبقة الوسطي المصرية أحبطت آمال طليعتها في الاستقلال وبناء الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.. وأجهضت مشروع الحداثة الذي ناضلت من أجله الحركة الوطنية منذ مصطفي كامل'14'.
هذه الأحداث انعكست علي التركيبة الاجتماعية المصرية، وعادت المظاهرات مرة أخري للشوارع، ولكن ليس بنفس الزخم الذي كان موجودًا في ثورة 1919.. وبدأت الأفكار الرجعية تسود قطاع الموظفين 'وهو ما عبر عنه سيد درويش في أغنيته الشهيرة هز الهلال يا سيد'.
هذا كله انعكس علي مشروع الطبقة الوسطي 'الثقافي والنهضوي'، وبدأت رموز طبقة كبار الملاك تتسنم ظهر الحركة الثقافية من جديد.. وأفلست إدارة الجامعة الأهلية بعد طردها من مقرها الكائن بميدان الإسماعيلية 'مقر الجامعة الأمريكية الآن ميدان التحرير'، وبدأت حرية الرأي والتعبير في التراجع نتيجة القيود المفروضة علي الصحف.
في هذه الأجواء أفلس فؤاد أفندي عبد الملك.. وأغلقت أبواب دار الفنون والصنائع، وترنحت الجمعية المصرية للفنون الجميلة التي كانت تقودها طلائع الفنانين المصريين من أبناء الطبقة الوسطي، وكان آخر معارضه عام 1923، هو صالون التصوير الفوتوغرافي الأول الذي نظمته بعد ذلك جمعية محبي الفنون.
وإزاء هذا الانهيار، طرح فؤاد عبد الملك ومحمد حسن علي الأمير يوسف كمال والثري محمد محمود خليل، فكرة إنشاء جمعية محبي الفنون الجميلة، وكانت فكرة فؤاد عبد الملك ومحمد حسن في ذلك الوقت، أن الاستمرار في دعم الفنون هو الغاية، ولأن الرياح عاتية فلابد من الاحتماء تحت مظلةالطبقة الحاكمة.. لتسير سفينة الفنون.. لقد كانت خطوة تكتيكية فرضتها طبيعة تفكير الطبقة الوسطي التي غالبًا ما تنحني للعواصف'15'.
وبالفعل.. تأسست جمعية محبي الفنون الجميلة في 22 مايو عام 1923 لتحل محل دار الفنون والصنائع المصرية والجمعية المصرية للفنون الجميلة اللتين أنشأهما فؤاد عبد الملك، وهو الذي أسندت إليه سكرتارية الجمعية طوال سني حياته، كما شغل محمد محمود خليل رئيس الجمعية بعد وفاة الأمير يوسف كمال عام 1925 واستمر في رئاستها حتي عام 1953.. وكان مجلس إدارتها مكونًا من محبي الفنون الجميلة من الأجانب والعدد القليل من المصريين'16'.
ورغم أن رشدي إسكندر وكمال الملاخ يؤكدان أن الرجل هو المؤسس الحقيقي لجمعية محبي الفنون الجميلة، إلا أن فؤاد عبد الملك اكتفي بدور السكرتير بعد أن انهزم مشروع 'الطبقة الوسطي الثقافي'، واستيلاء طبقة كبار الملاك علي مكاسب ثورة 1919.. والذي تجلي في الحكومة الائتلافية التي فرضت علي سعد زغلول رغم فوز 'الوفد' بالأغلبية، مع عدلي يكن ثم محمد محمود باشا، وهي الحكومة التي استمرت حتي إلغاء دستور 23 بعد وفاة سعد زغلول، وانفراد الملك والإنجليز وطبقة كبار الملاك.. بالحكم.
وانفردت جمعية محبي الفنون الجميلة بأغلبية مجلس إدارتها الأجنبية، بقيادة الحركة الفنية طوال العشرينيات والثلاثينيات لتوجهها وجهة تغريبية، حتي انفجار 'ثورة الفنانين' المصريين إزء تعنت الإدارة الأجنبية الأرستقراطية ضد الفنانين المصريين، فلم يكن يسمح إلا للمرضي عنهم بالعرض في معارض جمعية محبي الفنون الجميلة أو صالونها، ولا تقتني أعمالهم.. فشكلوا عام 1936 رابطة الفنانين المصريين لمواجهة نفوذ محمد محمود خليل الطاغي، ونفوذ الأجانب في الجمعية، وإدارة الفنون الحكومية.
وبدأت الرابطة في نشر مقالات في جريدتي البلاغ والأهرام بتوقيعات مجهولة مثل: فنان، أو فنان مصري، أو فنان مطلع، وهاجمت هذه المقالات فساد الإدارة الفنية للأجانب، ودور جمعية محبي الفنون ورئيسها محمد محمود خليل في محاربة 'الفن المصري'، وظلت أسماء الفنانين من أعضاء الرابطة مجهولة لا يعرفها سوي عزيز المصري، وعبد القادر حمزة 'رئيس تحرير البلاغ'.
وساندهم محمد حسين هيكل في 'السياسة المصرية'، ونشرت الكاريكاتيرات ضد محمد محمود خليل تصوره في شكل 'ديكتاتور الفن'، الذي يقف ضد تطور الفن المصري لأنه يعبر عن الكادحين والفلاحين.
وهي الثورة التي انتصرت بعد عام كامل من نضال أبناء الطبقة الوسطي المصرية ضد رمز 'كبار الملاك' محمد محمود خليل، فصدرت القرارات الوزارية عام 1937 بإلغاء عقود أكثر الموظفين الأجانب في إدارة الفنون الجميلة، وفي مدرستي الفنون الجميلة والتطبيقية، وأسفرت عن تعيين محمد ناجي مديرًا للمدرسة الأولي، والأستاذ محمد حسن مديرًا للثانية ثم نقل مراقبًا عامًا للفنون بالوزارة.
ولقد تزامنت هذه الحركة مع الانتفاضة الطلابية، التي سميت بثورة 1935 التي تصاعدت حتي عام 1946.. باتحاد العمال والطلبة، الذي دبرت ضده مجزرة فتح كوبري عباس في 21 فبراير 1946 الذي اعتبر يومًا عالميًا للطلاب.. وفي نفس الوقت أوقفت الوزارة الاقتناء من الأجانب لصالح متحف الفن الحديث '17'، الذي شارك فؤاد عبد الملك في تأسيسه وكان مقره الأول في جمعية محبي الفنون الجميلة.
هذه الصحوة الجديدة ضد تحالف القصر وكبار الملاك والإنجليز، أعادت الروح إلي مشروع الثقافة الوطنية من جديد، كان لها أثر ضخم علي أيقونتنا الثقافية فؤاد أفندي عبد الملاك.
عودة الروح
لنعود إلي الوراء قليلا.. لنرتب ما أسلفنا قوله في سياقه التاريخي، إذ أن دستور 1923 لم يستمر طويلا، فبعد أقل من سبع سنوات.. لم يتحمله 'تحالف الملك والإنجليز والإقطاع'، رغم ترسانة المواد التي أعطت للملك صلاحيات مطلقة في الحكم.. لكن 'مواد الحرية الشكلية' أقضت مضجعه ومضجع الاحتلال، فلقد استطاع النواب الوطنيون في البرلمان تفيعلها ليخوضوا معارك عنيدة ضد الديكتاتورية والفساد والاحتلال.. فما كان من الملك إلا أن أصدر قرارًا بإقالة الحكومة الائتلافية، وحل البرلمان، وإلغاء دستور 1923، وتكليف إسماعيل صدقي بتشكيل حكومة جديدة لوضع دستور جديد للبلاد.. وبالفعل اجتمعت 'لجنة أشقياء' أخري، وأصدرت دستور 1930 ودعت لانتخابات برلمانية جديدة تم تزويرها بشكل فاضح.. فانفجر الغضب في الشارع المصري'18'.
هذا المشهد الظلامي، دفع الطبقة الوسطي مرة أخري إلي صدارة المشهد السياسي.. وحفزها للنضال، من أجل استعادة مكانتها التي ضاعت بدستور 1923 ومن بعده دستور 1930، وخصوصًا أن هذه الطبقة كانت قد حققت مجموعة من المكاسب والدعم، فلقد زاد عدد المتعلمين نتيجة إنشاء المدارس الثانوية، وانتظام الجامعة الحكومية التي أنشئت عام 1927، وعودة شباب البعثات من أوروبا، وإنشاء عدد كبير من المدارس والمعاهد الفنية والتربوية، وأصبحت 'الجامعة المصرية' بطلابها وأساتذتها المصريين منارة للمعرفة والعلم والثورة.. مما أعطي دفعة قوية للطبقة الوسطي التي كانت ماتزال تعاني من النفوذ الأجنبي الذي يمنع تعيين الخريجين في الوظائف الحكومية اللائقة بهم، إلا عن طريق الواسطة والمحسوبية.. واحتكار أبناء كبار الملاك للوظائف العليا بغض النظر عن مؤهلاتهم العلمية.
وما أن أتي عام 1930، حتي اشتعلت 'ثورة الأفندية' من جديد، وانتشرت التنظيمات الاشتراكية والتقدمية السرية والعلنية، وازدهرت فكرة القومية العربية بعد حادث حريق حائط البراق في فلسطين علي أيدي الصهاينة، وهو الحادث الذي كان صداه مؤثرًا في الشارع المصري في عموم المحروسة.
في هذا المناخ المليء بالزخم الثوري، ظهرت مبادرات عديدة تؤصل من جديد لمشروع 'الثقافة الوطنية'، المستقل عن السلطة، المناهض لتحالف الإنجليز والملك والإقطاع.. فلقد صدرت مجلة الرسالة عام 1932، وازدهرت لجنة التأليف والترجمة والنشر، التي ترجمت أحدث الإصدارات الأوروبية في الفنون والآداب والفكر والفلسفة، وأسس حبيب جورجي جماعة الدعاية الفنية، وانطلق منها ليحقق مشروعه في الفن الفطري.. وبعدها أسس الجباخنجي المجمع المصري للفنون عام 1933، والذي أصدر من خلاله مجلة صوت الفنان بعد ذلك.. وصدرت مجلة مجلتي للصاوي، وآخر ساعة للتابعي، وظهرت كتابات الحكيم والعقاد وهيكل وطه حسين في الفنون.
هذا التدفق الثقافي والإبداعي أعطي للطبقة الوسطي زادًا جديدًا دفعها لأن تثق في نفسها وقدرتها علي المواجهة، فخرجت من جديد تطالب بالجلاء والحرية، والديمقراطية وتمصير الإدارة الحكومية، والكفاح من جديد لتحقيق مشروع الحداثة، وتطوير مشروع 'الثقافة الوطنية' الذي أوقفته الرجعية.
في هذه الأجواء تقدم 'فؤاد أفندي عبد الملك' عام 1933، لمحافظ القاهرة بمشروع إنشاء 'متحف الشمع'، لتخليد الحضارة المصرية منذ نشأتها حتي العصر الحديث.. كان فؤاد عبد الملك يستهدف بمتحفه ذلك، أن يبلور 'الهوية المصرية'، ولأنه يعرف أن الأجانب الذين كانوا يتحكمون في إدارة الفنون الحكومية لن يوافقوا علي مثل هذا المشروع.. فلقد قدمه للمحافظ علي أن يكون تابعًا 'للبلدية'، وأغري المحافظ بأن هذا المتحف سيكون ثالث متحف في العالم بعد متحفي لندن وباريس، وأن هذا الأمر سيعجب الجناب العالي – أي الملك – وبالفعل حصل فؤاد عبد الملك علي الموافقة، وبدأ منذ عام 1933 بتنفيذ الفكرة بسراي 'تجران بشارع إبراهيم'، واختار مجموعة من شباب الفنانين آنذاك مثل: علي الديب، وعبد القادر رزق، ومصطفي نجيب، ومصطفي متولي، وبيكار، كما ساهم معه الفنان التركي المتمصر هدايت، ويوسف كامل، وعدد كبير من شباب الفنون الجميلة العليا، والفنون التطبيقية.
وافتتح المتحف عام 1934 ليحكي قصة الحضارة المصرية، وتحولات وتشكلات الهوية الوطنية، ولقد قام فؤاد عبد الملك بتدريب الكثير من الشبان علي صب الشمع الذي تعلمه في فرنسا وبريطانيا.. وقسم متحفه إلي أقسام تعبر عن الحياة المصرية منذ عصر الدولة القديمة حتي العصر الحديث، مبرزًا أهم إنجازات الإنسان المصري، محتفيًا بالفلاح، والعامل، وأبناء البلد.. والحياة الشعبية، ولقد أضيف للمتحف الكثير من الأحداث تحت إشرافه مع تطور الحياة السياسية، وكان آخر ما أضافه قبل رحيله قسم ثورة يوليو، وحادثة دنشواي، والثورة العرابية عام 1955 قبل رحيله مباشرةً.
لم يكتف فؤاد عبد الملك بإنشاء المتحف وإدارته، بل حوله إلي خلية نحل لإنتاج شهد الفنون 'الوطنية'، وأعاد تفعيل 'مفهومه للفن' الذي تخلي عنه بعد انهيار مشروعه الوطني، فلقد كان يؤمن كما أسلفنا، أن الفن الحديث لابد أن يرتبط بالفنون الوطنية، وهو المفهوم الذي سارت عكسه 'جمعية محبي الفنون الجميلة' بإدارتها الأجنبية الأرستقراطية، حيث أهملت تمامًا 'ميراث الوطن الفني' لصالح فنون الغرب، ومقلديها من المصريين، وإن كانت قد أسهمت في بناء الجسور مع الفن العالمي بمعارضها المتعددة التي استضافت فنون العالم، وقدمت ثقافة فنية راقية.
ولتفعيل 'فكرته الوطنية' التي جاءت مواكبة لتطور الحركة الوطنية في الثلاثينيات والأربعينيات فيما بعد، أسس مراسم حرة للشباب الفنانين، وكان يقودهم بنفسه في حواري القاهرة وأزقتها ليرسموا الحياة الشعبية ويبتكروا في الخامات والأصباغ، منها استخدام الخيامية – كما أسلفنا -، وتطوير فن الباتيك، والرسم الحديث علي الزجاج بالألوان التقليدية.. وانتقل المتحف من سراي تجران إلي القصر العيني ثم إلي حلوان حيث مقره الآن.
وظل المتحف يتبع البلدية إلي أن ساءت حالته، فقررت محافظة القاهرة في نهاية التسعينيات إهداءه إلي وزارة الثقافة لتطويره، ولكن للأسف ظل يتدهور ويتدهورحتي الآن.. ليغيب وجهه 'الوطني' المشرق الذي أرسي دعائمه فؤاد أفندي عبد الملك الذي وهب حياته 'لمشروع الثقافة الوطنية' والهوية..
وبعد
هل استطعت أن أجمع شتات الصورة.. لأعيد إنتاج صورة أخري غير السائدة؟ هل استطعت أن أحفر حول وتحت 'أوهام السوق' الثقافية، أو بعض أوهامها لنصل إلي بعض الحقيقة؟!
الحقيقة هي، أن الصورة تحتاج إلي مزيد من العمل والتنقيب والحفر، لتكتمل ملامحها الضائعة، فالمشروع الثقافي الوطني يحتاج إلي إعادة تفتيش وحفر، وتوثيق علمي حقيقي ينأي عن 'الرأي' و'الهوي'، والاستسلام للمتواتر الثقافي، وليس لهذه القراءة إلا شرف المحاولة، فاللعملة وجهان لم نر منها عبر كتابات السالفين غير وجه واحد، وللنهر ضفتان لم نعرف منهما إلا ضفةٍ واحدة، تلك التي أسسها مؤرخو السلطان والسلطة والطبقات الحاكمة.
لقد آن لنا نحن الباحثين عن الحقيقة، أن نتخلص من 'الأوهام التاريخية والعلمية'، وأن نحفر ونحفر وننقب لنري الوجه الآخر من عملة 'الفن'، وأن نخاطر ونسبح ضد التيار لنصل إلي 'الضفة' الأخري من حقيقة تاريخنا الثقافي.. لأنها مسئوليتنا أمام الأجيال القادمة.
وكما قلت في البداية، لا توجد بعد ثورة 25 يناير مؤجلات ثقافية، إما الآن وإما أبدًا.. ولا توجد محرمات فكرية.. فكل شيء قابل للنقاش، ولا ينبغي أن يظل المسكوت عنه مسكوتًا عنه للأبد.
كل الأفكار والآراء والرؤي محض اجتهاد، قابل للنقد والمراجعة والنسف، فالثقافة دائمًا وأبدًا كما قال أندريه بريتون: 'ما هي إلا معمل للبارود'.
الهوامش:
1- يري محمد صدقي الجباخنجي ومحمد عزت مصطفي، أن فؤاد عبد الملك هو الذي نظم الصالونين الأول والثاني، وأن جمعية محبي الفنون الجميلة نظمت الصالون ابتداءً من دورته الثالثة، بينما يري رشدي إسكندر وكمال الملاخ أنه نظم صالونًا واحدًا، والثاني نظمته 'جمعية الفنون' تحت إدارته كسكرتير للجمعية، ونحن أميل للرأي الأول لأنه أكثر توثيقًا واعتمادًا علي كتالوجات الصالونين، والذي تطابق مع ما نشرته الصحف السيارة، راجع محمد صدقي الجباخنجي ومجلدات الأهرام والمقطم عامي 1921، 1922.
2- راجع محمد صدقي الجباخنجي، تاريخ الحركة الفنية قبل عام 45، ورشدي إسكندر وكمال الملاخ '50 سنة من الفن'.
3- أول معرض نظمته المدرسة عام 1911.
4- محمد عزت مصطفي 'ثورة الفن التشكيلي'.
5- رشدي إسكندر وكمال الملاخ في '50 سنة من الفن' ص 113.
6- محمد عزت مصطفي 'ثورة الفن التشكيلي' ص 26.
7- د.مصطفي الرزاز 'الفن المصري الحديث' ص 22.
8- بوحيدانوف 'الفن التشكيلي في جمهورية مصر العربية'.
9- رشدي إسكندر وكمال الملاخ في '50 سنة من الفن' ص 113.
10- راجع ثابت أفندي – جريدة المقطم 20 أغسطس 1916، ود.مصطفي الرزاز 'الفن المصري الحديث' ص 21، 22.
11- محمد صدقي الجباخنجي 'تاريخ الحركة الفنية في مصر قبل عام 1945' ص 39.
12- راجع الجباخنجي 'تاريخ الحركة الفنية في مصر قبل عام 1945'، ورشدي إسكندر وكمال الملاخ '50 سنة من الفن'.
13- راجع محمد صدقي الجباخنجي 'تاريخ الحركة الفنية قبل عام 1945'، ومحمد عزت مصطفي 'ثورة الفن التشكيلي'.
14- راجع عبد الرحمن الرافعي 'في أعقاب ثورة 19' هيئة الكتاب طبعة 1975.
15- يؤكد رشدي إسكندر وكمال الملاخ في '50 سنة من الفن'، أن فؤاد عبد الملك هو الذي كوَّن جمعية محبي الفنون الجميلة، وكان سكرتيرًا لها.
16- محمد صدقي الجباخنجي، 'تاريخ الحركة الفنية في مصر قبل عام 1945' ص 44.
17- محمد عزت مصطفي 'ثورة الفن التشكيلي'.
18- د.محمد عصفور 'دستورنا في مهب الريح' ص 19، 20، علي نفقة المؤلف.
المراجع:
'ثورة الفن التشكيلي'، محمد عزت مصطفي – دار الكتاب العربي للطباعة والنشر – القاهرة 'بدون تاريخ'.
'تاريخ الحركة الفنية في مصر إلي عام 1945'، محمد صدقي الجباخنجي – الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986.
'الفنون التشكيلية في جمهورية مصر العربية'، أناتولي بوجدانوف، ترجمة د.أشرف الصباغ – سلسلة آفاق الفن التشكيلي – الهيئة العامة لقصور الثقافة – الطبعة الأولي يناير 2000.
'أحاديث في الفنون الجميلة' – راغب عياد – بدون تاريخ.
'خمسون سنة من الفن'، رشدي إسكندر وكمال الملاخ – دار المعارف 1962.
'الاستعمار والفن'، سعد الخادم – سلسلة كتب قومية – بدون تاريخ.
'في أعقاب ثورة 1919'، عبد الرحمن الرافعي – الهيئة المصرية العامة للكتاب 1974.
'تاريخ جامعة القاهرة'، د.رءوف عباس – سلسلة تاريخ المصريين – الهيئة المصرية العامة للكتاب 1994.
'الفن المصري الحديث'، د.مصطفي الرزاز – وزارة الثقافة – قطاع الفنون التشكيلية - 2007
مجلدات جريدة البلاغ 1936، 1937.
مجلدات جريدة الأهرام 1918، 1919، 1920، 1921، 1922، 1923، 1924.
مجلدات جريدة المقطم 1916، 1917، 1918، 1919.
'دستورنا في مهب الريح' – د.محمد عصفور - علي نفقة المؤلف - 1950.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.