عندما وصلت إلي العاصمة النمساوية سفيرًا ل»مصر» في خريف 1995، وجدت أن السفارة أي المكاتب ودار السكن عبارة عن مبنيين صغيرين لا يليقين باسم «مصر» واكتشفت أن لنا مبنيً مهجورًا كان هو مقر السفارة المصرية القديمة وهناك مفاوضات لإعادة بنائه استمرت أكثر من عشر سنوات بلا جدوي والخزانة المصرية تدفع رسومًا هندسية ومستحقات للمهندس النمساوي كل عام ولكن لم نحصل علي الموافقة من السلطات المحلية لإعادة البناء وبدا الطريق أمامنا مسدودًا، وذات يوم قيض الله لنا شابًا نمساويًا من أصل مصري يعتبر من أبرز المعماريين في «أوروبا»، وعندما زارني في مكتبي عرفت منه أنه يملك مبنًي تاريخيًا ضخمًا في أرقي أحياء «فيينا» وأهم شوارعها وأن هذا المبني غير قابل للتعلية أو الهدم وبالتالي لن يكون متاحًا إلا لسفارة مرموقة أو شركة كبيرة، وعندئذ سال لعابي وأدركت أنني أمام فرصة نادرة لبلادي، فذهبت أنا والمهندس «علاء أبو العنين» مالك العقار وبرفقتنا الزملاء في السفارة لتفقد المبني فوجدناه صرحًا رائعًا بحديقة كبيرة فاتصلت بالسيد «عمرو موسي» وزير الخارجية في «القاهرة» وأبلغته بالأمر وطلبت منه إيفاد لجنة فنية وقانونية لمعاينة العرض الجديد علي أن يكون نوعًا من المقايضة مع الأرض القديمة لمبني السفارة المهجور منذ سنوات طويلة علمًا بأن مساحة المبني الجديد أضعاف أضعاف القديم فضلًا عن أن الموقع أميز كما أن قيمته التاريخية لا تقدر بثمن، فاستجاب لي وزير الخارجية فورًا وقال لي أن هناك لجنة من «هيئة تمويل المباني» في وزارة الخارجية سوف تتجه إلي «أوروبا» الأسبوع القادم لمعاينة بعض المباني في «ألمانيا» ودول الشمال وأنه سوف يطلب منهم التوجه أولًا إلي «فيينا»، وبالفعل وصلت اللجنة وفيها مهندسون كبار ودبلوماسيان ومستشار رفيع الدرجة من مجلس الدولة وخبير أمني مسئول وعندما رأوا المبني وملحقاته وكيف أنه يصلح مقرًا للمكاتب ودار السكن بالإضافة إلي مبني ثالث مستقل في إطار الحديقة يصلح للقسم القنصلي، عندما عاينت اللجنة هذه العقارات الرائعة أصابتهم حالة من الانبهار ولم يصدقوا أن يكون هذا المبني مقايضة مع المبني الصغير القديم الذي كنا نملكه فتحمس أعضاؤها للمقايضة علي أن تتكفل هيئة تمويل المباني بوزارة الخارجية بنفقات الترميم والتجهيز فقط دون أن ندفع فارق أسعار، وعندما أبدي المعماري المصري المهذب صاحب المبني الجديد شعوره بالظلم وعدم التكافؤ في الصفقة قلنا له أنك تتحمل الفارق من وطنيتك المعروفة وانتمائك ل»مصر»! وبدأنا نردد علي مسامعه بعض الشعارات الحماسية التي قَبِلَ بها ذلك المهندس الرائع بابتسامة رقيقة حبًا في بلاده وحرصًا منه علي أن تستأثر «مصر» بهذا الأثر التاريخي في أرقي أحياء العاصمة النمساوية، ثم اكتشفنا بعد ذلك أن هذا المبني له مواصفات خاصة ففيه دور سحري تحت الأرض من خلال نفق طويل كان يستخدم كمخبأ أثناء الحروب وهذا النفق يصل حاليًا ما بين دار المكاتب ودار السكن، ولقد أمضيت في المبني الجديد العام الرابع فقط من مدة خدمتي في «فيينا» ولم يكن أعضاء السفارة يعرفون أين السفير هل هو في دار السكن أم في مكتبه بمقر البعثة؟! لأنه يصل فجأة من خلال النفق وبذلك كان الطراز المعماري والشروط الأمنية متوفرين تمامًا في الصفقة الجديدة، ولقد حرصت علي أن أقيم حفل العيد الوطني في 23 يوليو ذلك العام في حديقة المبني قبل ترميمه لتأكيد ملكيته حتي أعطي الفرصة لمن ينازع فيه لكي يظهر ولكن أوراق المهندس المصري الوطني كانت صحيحة ودقيقة، ولم نجد مشكلات في الترميم والإعداد والتجهيز ثم بدأنا نبحث في تاريخ المبني لنجد الشائعة القوية في أوساط كبار السن في العاصمة النمساوية حينذاك وهم يتحدثون عن أن الزعيم النازي «أدولف هتلر» قد بات ليلته التي قضاها في العاصمة النمساوية في هذا المبني يوم أن خاطب الشعب النمساوي في الصباح من قصر «الهوفبورج» الرئاسي، وبذلك أصبح مقر السفارة المصرية في «فيينا» مزارًا للباحثين والمؤرخين والأثريين، ولقد وجدت أن علينا أن نعطيه طابعًا مصريًا يربطه بالوطن بحيث نفاخر بحضارتنا في قلب ذلك المبني العريق فاقترحت علي صديقي المهندس الدولي المرموق د. «ممدوح حمزة» أثناء زيارته ل»فيينا» أن يبعث لي «بمسلة فرعونية» بالحجم الطبيعي من جرانيت «أسوان» وبالفعل تم ذلك وأصبحت «المسلة» في مدخل مبني السفارة المصرية شاهدًا علي عراقة المصريين ومكانتهم الكبيرة، ولقد كنت أتمشي أحيانًا أنا وزوجتي حول المبني فنتقابل مع رئيس جمهورية النمسا «كليستل» وهو يتمشي مع زوجته الثانية وقد كانت دبلوماسية شابة لأن مسكنه كان ملاصقًا لسفارتنا الجديدة وكان الرجل يتمشي في المساء دون حراسة رغم أنه رئيس الدولة وقد داعبني ذات مرة قائلًا: «لماذا لا تفكر يا سعادة السفير في أن نتبادل المباني إذ أن مقركم أعرق وأضخم وأرقي من مسكن رئيس الجمهورية»، وكنا نبتسم لهذه الملاحظة في كل لقاء، وعندما غادرت «فيينا» أصر الرئيس النمساوي علي استقبالي في مكتبه خروجًا علي التقاليد التي لم تكن تعطي السفراء المغادرين حق توديعه لهم والاكتفاء بوزيرة الخارجية فقط ولكنه طلب مني أن أزور مدير مكتبه ثم يدخل هو من الباب المشترك بين القاعتين وقد أمضي معي في ذلك اللقاء معًا عشرين دقيقة كان فيها مجاملًا لدولتي محترمًا لمكانتها، ولقد تشرفت السفارة الجديدة بعد رحيلي باستضافة زملائي الذين تعاقبوا علي المنصب بدءًا من السفير «سامح شكري» وزير الخارجية الحالي وصولًا إلي السفير «خالد شمعة» الموجود هناك حاليًا مرورًا بالسفيرين «رمزي عز الدين» و»إيهاب فوزي»، ولقد تلقيت اتصالًا هاتفيًا منذ أيام من أحد الوزراء السابقين في «مصر» يقول لي أنه كان يستقبل وفدًا نمساويًا وتركز الحديث عن قصة السفارة المصرية وقيمتها التاريخية وموقعها الفريد في قلب العاصمة النمساوية. فن الزمن الجميل وجهت لي أرملة الفنان «عادل أدهم» وعدد كبير من الفنانين والشخصيات العامة دعوة حضور احتفالية في المسرح الصغير بنادي الأوبرا تحت عنوان «فن الزمن الجميل» دعا إليها أفراد من عائلات الفنانين الكبار، ولقد قابلت هناك ابنة الفنان الراحل «حسين رياض»، وابنة المطرب الشعبي الراحل «محمد عبد المطلب»، وشقيقة الفنانة الراحلة «سعاد حسني» وغيرهن من أسر فنانيا الراحلين، كما جاءت السيدة المصرية التي يتردد أنها ابنة عملاق الكوميديا «نجيب الريحاني» والتي عاشت وتربت في «فرنسا» مع أمها إلي أن عادت إلي أحضان الوطن الأم، كما حضر الاحتفالية الكاتب الصحفي «محمد الغيطي» وهو وثيق الصلة بالفنون فهو كاتب «سيناريست» فضلًا عن غرامه الشديد وتخصصه الدقيق في «نجيب الريحاني» تاريخيًّا وفنيًّا وشخصيًّا، ولقد بدأت سلسلة تكريم رواد «فن الزمن الجميل» من خلال «نجيب الريحاني» باعتباره أسطورة ال»كوميديا» الباقية التي تضحك لها الأجيال منذ بدايته الفنية حتي اليوم، بل إنني أدهش كثيرًا عندما أري شبابًا بل وأطفالًا يتابعون أفلامه غير الملونة(بالأبيض والأسود) في سعادة بالغة لأنها كانت «كوميديا» عميقة تقوم علي فلسفة من نوع خاص يعطي الإحساس بالتلقائية انطلاقًا من موهبة ثرية، وقد استمتعنا في تلك الأمسية بلقطات من أفلام «نجيب الريحاني» التي لا يمل المرء رؤيتها في كل وقت خصوصًا وأنها تعكس طبيعة الحياة وظروف المعيشة في ذلك الزمن الذي نتحدث عنه ونشعر جميعًا بجاذبية نحوه لأن «مصر» التي عرفت «التعددية» في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين امتلكت ثروة هائلة من المواهب والخبرات والقدرات والتجارب، فهذا هو «نجيب الريحاني» من أبٍ مسيحي عراقي ومن أم مصرية قبطية في وقت كانت فيه «مصر» تعج ب»الشوام» و»اليونان» و»الأرمن» و»الطليان» و»اليهود» وغيرهم دون تفرقة أو تمييز، إنها هي «مصر» الرائعة كما أرادها الله، لقد كانت مدينة «الإسكندرية» علي سبيل المثال ملتقي لشعوب «البحر المتوسط»، ومركزًا للتواصل الحضاري بين دوله بثقافاته المختلفة كما كانت نموذجًا للتعايش المشترك بين مختلف الديانات والهويات لذلك كان طبيعيًا أن ينعكس الأمر علي الفن في ذلك الزمن الذي كان يسوده صفاء في القلوب ومودة بين الناس ومحبة تظلل الجميع، وليسمح لي الفنانون والفنانات بأن أقتحم عالمهم بالإشارة إلي بعض الرموز الكبيرة في مسيرة الفن المصري، ف»الريحاني» ملك الكوميديا بعناصرها المختلفة، كما أن فنانًا كبيرًا مثل «يوسف وهبي» كان مجتهدًا أكثر منه موهوبًا وغلبت عليه الصنعة واستخدام طبيعة الصوت وطريقة الأداء لتجعل منه رمزًا مرموقًا في تاريخ المسرح المصري دون أن يستند إلي موهبة تميزه، كما أن سيدة الشاشة العربية «فاتن حمامة» كانت حبيسة أدوار بذاتها ارتبطت بها وعاشت معها، وفي ظني أن «سندريلا» السينما المصرية «سعاد حسني» كانت قادرة علي تشكيل التعبير الصحيح للموقف المحدد وامتلكت حضورًا انسانيًا طاغيًا افتقدته الكثيرات من فنانات جيلها إذ لا يترسب في ذاكرة الناس إلا ما يحبونه بينما تضيع ملامح أخري في زحام الأحداث وتقادم الأزمنة، ولا شك أن لدي كل منا مسرحيات لا ينساها وأفلامًا يتذكرها دائمًا، فالفن يحفر في الوجدان ويزرع في النفوس لأنه حرفة صناعة الحياة نقيضًا للإرهاب الذي هو مهنة صناعة الموت! فنون التعذيب وأساليب القتل بقدر ما أثار يوم «الجمعة الدامي» من قلق وحزن بقدر ما يصيبنا من ذهول ونحن نقرأ ما تنشره الصحف الأجنبية والعربية والمصرية عن فنون التعذيب الجديدة وأساليب القتل المستحدثة التي يمارسها تنظيم «داعش» وتوابعه ضد من يشتبهون في عدائهم أو حتي خصومتهم أو من يفترضون فيهم أنهم لا ينفذون أوامر التنظيم وتعليماته معتمدين علي تفسير مغلوط للإسلام الحنيف وانتقاءٍ تحكمي لأراءٍ فقهية غير مؤكدة الانتساب لصحيح الدين، إنهم يفعلون ذلك في وقت يهرول فيه العالم إلي الأمام بحثًا عن اكتشافات تفيد الإنسانية أو اختراعات تنفع البشرية ونحن المسلمون مشغولون بالقتل والدمار وتقديم اختراعات من نوع خاص فبعد أن تفوقنا في القتل ذبحًا وبرعنا في القتل رجمًا ونجحنا في القتل حرقًا دخلنا في أسلوب جديد للقتل بوضع الضحايا في قفص حديدي وإسقاطه في الماء حتي نحصل علي «الأوسكار» في القتل غرقًا، كيف نعتبر هذا إسلامًا هل يقبل دين الرحمة في الشهر الكريم هذه الوحشية؟! إنها حملة حقيقية لتشويه «الإسلام» وتدمير المسلمين وأنا علي يقين من أن قوي غربية تقدم مساعدات لهذه الجماعات المريضة حتي لا تقوم لنا قائمة بفعل التفكيك والتقسيم والتحطيم إلي حد الانهيار، ويبدو أننا في العالمين العربي والإسلامي قد تعودنا علي قبول الأخبار المفزعة والتعايش مع النكسات والنكبات إلا أن ما يحدث الآن هو نمط جديد لم نعرفه من قبل وما نستطيع أن نواجهه اليوم قد لا نتمكن من مواجهته غدًا، لذلك فإنني أعبر عن دهشتي مثل الملايين ممن يعيشون في المنطقة تجاه ردود الفعل السلبية والباردة أحيانًا تجاه تلك الأحداث الدموية والساخنة دائمًا. الساعة 7 يوم 7/7 اتصل بي صديق من مركز «الشهداء» ب»محافظة المنوفية» هو السيد «عاطف مكاوي» لينقل لي خبرًا طربت له وسعدت به وهو أنهم سوف يقيمون في مدينة «الشهداء» إفطارًا جماعيًا يوم 7 يوليو بعد أن وضعوا حجر أساس «مسجد» و»كنسية» لذلك سوف يلتقي المسلمون والمسيحيون بل واليهود أيضًا تحت مظلة الوطن المصري العظيم، ولقد وجدوا أن مخرجًا مصريًا في «تلفزيون القاهرة» «يهودي» الديانة ويمكن أن يكون ممثلًا لأهل ملته من المصريين فلقد اتسع أفق أبناء «المنوفية» واتسع معه صدرهم لاحتواء الوطن كله في بوتقة واحدة اتسعت من قبل لتضم الأغلبية المسلمة وأشقائهم المسيحيين الذين تفخر «مصر» بنماذجهم من أمثال «بطرس بطرس غالي» في السياسة والدبلوماسية و»مجدي يعقوب» في أمراض القلب وجراحاته المفتوحة و»رمزي يسي» عازف البيانو الشهير فضلًا عن اليهود المصريين من أمثال «يوسف قطاوي» و»يوسف درويش» و»هارون شحاتة»، ف»مصر» لكل أبنائها احترامًا لحرية العقيدة وتأكيدًا لسماحة «الإسلام» وإدراكًا بأن إعمال مبدأ «المواطنة» هو الطريق الأوحد لغد أفضل.