وكذلك ما قمت به من مسعي لدي عمدة فيينا للحصول علي قطعة أرض لبناء كنيسة للأقباط هناك وأتذكر أن العمدة سألني في دهشة هل أنت مسيحي! فقلت له إنني سفير «مصر» أسعي لتحقيق مطالب المصريين بلا تمييز أو تفرقة ليست تجربة «الهند» ثرية علي المستوي الإنساني وحده ولكنها كانت كذلك أيضاً بالنسبة لأسرتي الصغيرة، فأصبح الطعام الهندي مألوفاً لنا ولم يعد أسلوب الحياة فيها غريباً علينا، «فالهند» تجربة ضخمة تفتح آفاقاً هائلة في الفلسفة والفكر وأسلوب الحياة، ولقد كنت علي موعد دائم مع الأحداث الكبري في أرض الوطن، فعندما اندلعت «حرب أكتوبر» وتحقق العبور العظيم كنت في «مصر» في إجازة «نصف المدة» من عملي في «لندن»، وعندما جري اغتيال الرئيس الراحل «السادات» كنت في إجازة «نصف المدة» من عملي في «نيودلهي»، وبذلك أراد الله لي أن أكون قريباً من الأحداث التي تدور في بلادي، ومازلت أتذكر يوم مصرع الرئيس الراحل «أنور السادات» أنني كنت في «المطبعة» أراجع «بروفات» كتاب مشترك بيني وبين المستشار «طارق البشري» والمستشار «وليم سليمان قلادة» وكان عنوانه «الشعب الواحد والوطن الواحد» وقد كتب مقدمته لنا «د.بطرس بطرس غالي»، وبينما أنا أقلب في صفحات الكتاب إذ سمعت من يقول إن أمراً جللاً قد حدث في العرض العسكري وأن برامج «التلفزيون المصري» قد توقفت عن البث المباشر للعرض ثم ترددت أقاويل هامسة عن إصابة الرئيس «السادات» إلي أن أعلنت وفاته رسمياً بعد ذلك بوقت قصير وكنت شاهداً علي الشارع المصري المضطرب الذي كان يغلي في داخله بينما الحياة تبدو شبه عادية في معظم أنحاء البلاد باستثناء ما جري في «أسيوط» التي شهدت أكبر حدث تقوم به الجماعات الإسلامية عام 1981 والذي لم تبلغ مستواه إلا «مذبحة الأقصر» عام 1997 والتي نفذتها عناصر الجماعة الإسلامية أيضاً، وعند عودتي من «الهند» وعملي في مكتب الدكتور «أسامة الباز» تم تعييني «سكرتيراً للرئيس للمعلومات» حيث بدأ فصل جديد من حياتي الحافلة بالإنجازات والإخفاقات أيضاً، فأنا لا أنكر أن عملي في الرئاسة قد وضعني تحت دائرة الضوء ولكنه أيضاً جلب عليّ الكثير من المشكلات والمتاعب، ولو أنني كنت مثقفاً مصرياً يتعاطي جوانب الفكر المعاصر دون أن يقترب من السلطة ربما كانت مصداقيتي أكثر، فالمصريون يقبلون في حماس علي أهل السلطة ورموزها ولكنهم في أعماقهم يحملون تجاههم درجة من الغيرة التي قد تصل إلي حد الكراهية أحياناً فبقدر ما يكون النفاق في البداية يأتي العداء في النهاية، وليست هذه بالطبع قاعدة ثابتة فأنا أحمد الله أنني تركت مؤسسة الرئاسة والكل يشهد بأنني لم أكن شريكاً في ظلم أو متقاعساً عن أداء حق، لذلك لم تترك فترة عملي في «مؤسسة الرئاسة» التي امتدت لأكثر من ثماني سنوات شعوراً بالمرارة تجاهي لأنني حاولت أن أكون صادقاً وأميناً مع الجميع، وبعدما تركت موقعي في رئاسة الجمهورية لأسباب ذكرتها كثيراً من قبل فإنني اتجهت إلي عملي الدبلوماسي حيث كلفت بمنصب «مدير معهد الدراسات الدبلوماسية» حتي تم نقلي سفيراً في العاصمة النمساوية، ولعله من الجدير بالذكر أن أشير إلي أن فترة عملي في «مؤسسة الرئاسة» لن يأتي ذكرها بالتفصيل في هذه الصفحات لأنني قدمتها في حلقات تحت عنوان «سنوات الفرص الضائعة» حيث جري تفريغها في كتاب ضخم دون رتوش أو تدخلات، وإذا كان لي أن أشير الآن في عجالة إلي طبيعة الحياة في «فيينا» فإنني أتذكر ما حكاه لي الدكتور «أسامة الباز» رحمه الله من أن ابنه العزيز «باسل» قد سأل أباه ذات يوم هل يحب عمي «مصطفي» تربية الكلاب؟ فأجاب الدكتور «أسامة» بالنفي، فسأله «باسل» وهل يهوي الموسيقي الكلاسيكية؟ فقال له والده مازحًا مدي علمي أنه لم يتجاوز أغاني «محمد العزبي» و»أبو دراع»! فأضاف «باسل» وهل عمي «مصطفي» كبير في السن؟ فقال له لا إنه علي مشارف الخمسين فقط فضحك «باسل» وقال لأبيه: لن يكون سعيداً أبداً في «النمسا» فقد كان «باسل» يعرفها جيداً منذ كان مع والدته مستشارة السفارة المصرية في «النمسا» من قبل، والواقع أن ما قاله «باسل الباز» كان صحيحاً تماماً فلقد أرهقني كثيراً الجو شديد البرودة مع الرياح السريعة فضلاً عن تراكم الجليد سبعة شهور في السنة يضاف إلي ذلك أن المدينة نظيفة للغاية ولا يوجد في هوائها أثر للتلوث وتلك الأمور تجعل القادم من «القاهرة» يشعر بغربة حقيقية! ومع ذلك أديت عملي بشكل أرضي عنه سواء في «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» أو»منظمة التنمية الصناعية «اليونيدو» أو المقر الاجتماعي «للأمم المتحدة» علي أساس أن «نيويورك» مختصة بالجانب السياسي في مجمله، و»جنيف» معنية بالجانب الاقتصادي في معظمه، بينما تحتضن «فيينا» مكاتب «منع الجريمة ومكافحة المخدرات» وغيرهما من القضايا ذات الطابع الاجتماعي، ولقد خضت عام 1997 معركة ناجحة حصل بها مصري هو الدكتور «محمد البرادعي» علي منصب المدير العام «للوكالة الدولية للطاقة الذرية» وهو منصبٌ كان من الممكن أن يحوزه مصري آخر هو الدكتور «محمد شاكر» لولا اعتراض «الولاياتالمتحدةالأمريكية» وحلفائها، ولابد أن أسجل هنا أن الأجهزة الأمنية في «القاهرة» والخارجية المصرية لم تكن متحمسة في معظمها لترشيح «البرادعي» ولكن التيار الدولي الكاسح الذي كان يدعمه كان قادراً علي تجاوز تردد دولة الأصل، وفي «فيينا» اقتربت من «د.كورت فالدهايم» أمين عام «الأممالمتحدة» لفترتين ورئيس جمهورية «النمسا» الأسبق حتي إنني كنت أقوم بتوصيله من مقهي «موزارت» حيث نجلس إلي منزله بسيارتي ولقد كان الرجل محباً لمصر والعرب حزيناً علي الحملة الصهيونية ضده التي زعمت أنه خدم في «جيش النازي» وقد أعد كتاباً ضخماً ضمنه دفوعه الموثقة التي تدحض المزاعم الإسرائيلية وسماه «الرد» وطلب مني أن أكتب مقدمة الطبعة العربية وقد فعلت ذلك باعتزاز وسعادة، كما تمكنت من نقل «السفارة المصرية» بملحاقتها من دار سكن ومكاتب وقسم قنصلي إلي مبني تاريخي فخم يعتبر أحد المعالم البارزة للحي التاسع عشر من العاصمة النمساوية ويرجع الفضل في ذلك إلي مهندس نمساوي من أصل مصري هو الدكتور «علاء أبو العينين» الذي كان يملك المبني وباعه للخارجية المصرية بثمن زهيد وتم تجهيزه ليصبح واحداً من أروع ممتلكات هيئة تمويل المباني في الخارجية المصرية وقد كان يجاوره مباشرة مسكن رئيس الجمهورية «كليستل» الذي كان يتمشي هو وزوجته ذات مساء وكنت أتمشي أيضاً مع زوجتي فالتقينا علي قارعة الطريق فقال لي : أليس لديكم النية في أن نتبادل المباني أسكن أنا في مبني السفارة وتأتي أنت إلي مقر الرئاسة؟ شهادة منه علي عظمة المبني الذي توجناه بمسلة ضخمة من جرانيت «أسوان» أهداها لنا صديقٌ للدكتور «ممدوح حمزة» الذي طلبها منه عندما زار المبني وهو في طور التشطيب، إنني راض تماماً عما فعلته لبلادي في العاصمة النمساوية فضلاً عن إسهامي في إنشاء «الأكاديمية الإسلامية» في «فيينا» تحت إشراف «الأزهر الشريف»، وكذلك ما قمت به من مسعي لدي عمدة العاصمة للحصول علي قطعة أرض لبناء كنيسة للأقباط هناك وأتذكر أن العمدة سألني في ºدهشة هل أنت مسيحي! فقلت له إنني سفير «مصر» أسعي لتحقيق مطالب المصريين بلا تمييز أو تفرقة، وقد افتتحها البابا الراحل «شنودة الثالث» بعد ذلك، كما استقبلته ذات يوم في مطار «فيينا» حيث استقل السيارة إلي العاصمة المجرية «بودابست» التي دعته ليحضر العيد الألفي لإنشاء أول «دير» علي أرضها ولقد استقبله في ذلك اليوم رئيس «جمهورية المجر» علي الحدود البرية لبلاده مع النمسا، ولم تخل سنوات «فيينا» من ألم أيضاً فقد كنت في زيارة «للقاهرة» أنا وزوجتي لاستقبال أول حفيد لي واسمه «سليم» ولكن أمي رحلت عن عالمنا في أثناء الزيارة بعد مرض قصير وعدت إلي «فيينا» بعدها بشعور مختلف فيه حزن لا ينتهي، وبعد انتهاء خدمتي في «فيينا» وعودتي رحل أبي منسحبًا من الحياة في هدوء وقد كان رجلاً طيباً سمحاً لم يكره أحداً في حياته!