«ارجعوا إلي دواويني واقرأوها بصفاء لتكتشفوا أنني عشقت الشعر كما لم أعشق شيئا آخر، وخفت عليه كميراث لا أملكه حين تصبح أيام الانسان في الحياة معدودات يصاب بنوع من حدة الرؤية ليكتشف أطنان الهيافة واكداس الأوقات المهدرة التي تفيض من حوله ولم يكن يراها أو كان يراها لمجرد فكرة يضعها في جدول ما سوف تتخلص منه الامة في غد لا يأتي علي الاطلاق، وتكتشف أنك ساهمت في ذلك بقوة لانك لم تقف في مواجهته لمنعه أو فضحه وإنما حولته الي كلمات اختصرت الحقائق وتخلصت منها. تكون سعيداً بقيادة سياسية وفرت عليك دماء وحربا كنا سنهزم فيها لا شك حيث ستدوس اظلاف الثيران علي كل ما لك من مشاعر وأمنيات وفكر وسوف تري ان الثيران هي التي تجتث رقاب البشر، وأي بشر، كل من تمرد وتمسك بكل ما عشنا من أجله وسميناه الوطن. لتغوص مصر بل عالمنا الذي ورثناه وندعي اننا ساهمنا في استمراره في مستنقع زيتي كريه اسود لا ينظفه مياه بحور الارض. الفردية تقتل الحل فلا نري مخرجاً صحيح اننا موهوبون، لا أري كاتباً في مصر أو سياسياً أو عاملاً او «صايعاً» ليس موهوبا ، الجميع لديهم رؤي تصلح العالم بأكمله، لكن الجميع يخشي ضياع فرديته وذوبانها في الآخرين، من هنا لم تنجح الاحزاب في بلادنا تجمعنا علي هدف تفرقنا مذعورين من فكرة ان نصدق أننا نشارك الآخرين - مشاركة فعلية - في همومهم وقد يؤثر هذا علي بريق همومنا الخاصة التي كوناها نقطة نقطة واعتبرنا أنها سماتنا وأسماؤنا وعناوين مستقراتنا في زحام هذا الوطن. الفن بين المباشرة والغموض لن نصنع فنا عظيماً لاننا باحثون دائماً عن الرواج وإلا فمن يدفع ويمول ومن سيسمح لك بالعمل؟ في كل الحالات حتي في حالتي كشاعر فإن السهل لدي يسوّق الصعب. للنقاد دائماً مقولة حين يجدون انفسهم في مواجهة شعري وضرورة ذكره: ان شعر الابنودي سواء في قممه او سفوحه فهم يعتبرون ان الجانب الذي يبدو سهلاً والذي ارتبط به الناس هو سفوح، مع أنه ميراثي الذي أعتبر نفسي وهبته كمحظوظ : تجربة «حراجي القط»، أو «أحمد سماعين»، أو «وجوه علي الشط» أو «الموت علي الاسفلت» أو «الاستعمار العربي». ويقصدون بالقمم قصائد مثل (الكتابة) و(تفاحة آدم) و(الأحزان العادية) وقصائد ديوان (الفصول) و (لامبو) والحقيقة ان الفصول هو عصارة كل ما فات وهو يبدو شعراً خالصاً لأنه يتبع النسق الأوروبي ولكنأهم ما به قادم من نفس البيئة والتجربة ورحلة الحياة من المنبع للمصب هؤلاء الذين يحذقون ويعزقون بحثا عن الغموض والغرابة لن تجدهم بعد موتهم بعام بل هم ليسوا موجودين الآن لانهم يفصلون بين الرأي والممارسة أما نحن فنخلق صيغة شعرية لا تخون الشعر ولا تبخل ان تمد شريان نبض الحياة - بذلك - فقط يصبح الشاعر موجوداً، لا بتقليد العظماء، ولا لمخاطبة الجدران والغرف المغلقة، كل الآداب التي اجتذبتنا وارضعتنا رواية كانت او قصة او قصيدة او لوحة او قطعة موسيقية.. إلخ هي التي مدت حبال الود العبقرية لقلوبنا قبل عقولنا فعرفنا اصحابهم واعتبرناهم اهالينا. رغم أننا لم نرهم ولا كشفت صورهم عما يحملون داخلهم من نعم وأنعام!! ليس معني ذلك اني ادعو لمباشرة مارستها احياناً من كتابة الاغنيات وهي فن جماهيري لا يحتمل التعالي الا علي سبيل السرقة كما في بعض نصوصنا التي تسللنا إليها بالشعر، فالاغنية تكتبها وأنت تعرف أنها ليست ملكك تماماً مشاركا فيها من أول الملحن والمطرب حتي أبعد بيت في البلاد. احياناً في ظروف سياسية خاصة يصبح عدم المقاومة بالشعر من اجل الوطن جريمة، ساعتها الفن ابو الشعر لو حاول ان يعوقني عن ممارسة وجودي رفضا وقبولاً. وأعود وأقول : «ارجعوا إلي دواويني واقرأوها بصفاء لتكتشفوا أنني عشقت الشعر كما لم اعشق شيئا آخر، وخفت عليه كميراث لا أملكه ولكن كواحد في كتيبة مبدعيه من الشعراء الحقيقيين، ودعوني أقولها: إنني شاعر لم أقرأ بعد، اهتم الكثيرون بما أفعل وراحوا يفسرون مواقفي كما يحبون واهتموا باغنياتي وحواراتي وحياتي، ودائما كنت هدفا لهذه اللعبة كأنهم - جميعاً - يهربون من شعري وكأنني عفريت، مخالفين تماماً عقيدة الشعب المصري والعربي الادبية والشعرية الذين سعوا الي شعري فصرت واحداً من أكثر الشعرآء توزيعا وإقبالاً علي ما اقول بقممي وسفوحي فلا وقت لدي الناس للقياس بمسطرة قد تخون ارقامها وتقسيماتها حقيقة المطارح لان المطارح لا تقاس بالمتر والسنتي، هناك اشياء كثيرة لا تري في المطارح بخلاف الطول والعرض. صفة أخري شديدة الاهمية تبدو واضحة لكل الناس الا من أعمتهم أقاويل وأكاذيب من اتفق البعض علي انهم شعراء ولم يناقشوا لهم ذري ولا سفوحا، اما خوفاً من طول اللسان الذي لا يملك البعض غيره او لان الجميع استقر وأقر واتفق ان يسموا تلك الصنعة شعرا وصاحبها شاعراً دون النزول بالمطرقة علي رؤوسهم. وهؤلاء الذين عاشوا علي الكذب «ثوريون» أضروا اكثر مما نفعوا، عاشوا علي النميمة والشماتة قال تعالي: «إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها». ولكني أعرف اني عشت شوكة نغصت علي البعض متعة الاستمتاع بمجد كاذب وشهرة فجة وكتابات لم تعرف الحقيقة يوما الطريق إليها. لقد تحملت ما لم يتحمله مبدع لكني كنت قويا بما اصدق وكانت ثقتي في الغد أقرب لهبل الدراويش كان إيماني بالشعر وبدوري دائماً «مطلقاً ولم أكن في حاجة» إلي الكذب وتشويه الآخرين لابدو وضاء الجبين متفرد الصفات ولم تهزمني موهبتي وانما كانت دائماً تسير الي جانبي وبيننا تواضع المحبين. عرفت جيد الشعراء من خبثائهم، وأحببت فؤاد حداد وجاهين ومحمود درويش وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل، هذا الي جانب هؤلاء الغرباء الذين تعشقنا شعرهم بريخت ونبروده ولوركا وسان جون بيرس وجاك بيرفيرا ولقد وقفت الي جوار الشباب بقدر استطاعتي وأحببت البعض من ذوي الموجات الحديثة الجادة كابراهيم داود ولكني لم أنسق يوماً إلا خلف رؤاي الخاصة بعد ان أفلتُ من المنظمة القديمة التي تصيدتني اول ما هبطت علي ارض القاهرة. وإلي اللقاء مع الجزء الثاني الأحد القادم.