رئيس جامعة المنيا يشهد حفل ختام الأنشطة الطلابية لكلية التربية الرياضية    غدا.. نقابة الأطباء البيطريين تحتفل بيوم الطبيب بدار الأوبرا المصرية    ماذا قالت إسبانيا بعد قرار إسرائيل تجاه قنصليتها في القدس المحتلة؟    القاهرة الإخبارية: خسائر قطاع غزة تقارب 33 مليار دولار وتهدم 87 ألف وحدة سكنية    وزير الدفاع اللبناني: الدفاع عن الأرض سيبقى خيار الدولة اللبنانية    بوليتيكو: معظم دول الاتحاد الأوروبي لن تقدم على المساس بأصول روسيا المجمدة    الشناوي يثير الجدل قبل نهائي أفريقيا: معندناش مشاكل والصحافة المصرية تصنعها    نجم مانشستر يونايتد يعلن موقفه النهائي من الانتقال إلى السعودية    لاعب ليفربول السابق: صلاح قادر على تكرار إنجاز رونالدو    قرار عاجل من جوميز قبل مواجهة الاتحاد السكندري في الدوري    طلاب الدبلومات الفنية يؤدون امتحاني اللغة العربية والتربية الدينية غدا بدمياط    شقيقة فتاة التجمع: النيابة أحالت القضية لمحكمة الجنايات.. والقرار دليل على إدانة السائق    هل انتهت الموجة الحارة؟.. مفاجآت سارة من الأرصاد للمصريين    الجمعة أم السبت.. متى وقفة عيد الأضحى 2024 وأول أيام العيد الكبير؟    الفيلم المصرى رفعت عيني للسما يحصل على جائزة أفضل فيلم تسجيلي بمهرجان كان بدورته 77    أبرز رسائل التهنئة بعيد الأضحى 2024    متي يحل علينا وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024؟    المفتي يرد على مزاعم عدم وجود شواهد أثرية تؤكد وجود الرسل    هيئة الرعاية الصحية تشارك في مبادرة الاتحاد الأوروبي بشأن الأمن الصحي    الأهلى يكشف حقيقة حضور إنفانتينو نهائى أفريقيا أمام الترجى بالقاهرة    مجلس الشيوخ يناقش أموال الوقف ونقص الأئمة والخطباء ومقيمي الشعائر.. الأحد    أبرزها قانون المنشآت الصحية.. تعرف على ما ناقشه «النواب» خلال أسبوع    أوقاف القليوبية تنظم قافلة دعوية كبرى وأخرى للواعظات بالخانكة    التموين تستعد لعيد الأضحى بضخ كميات من اللحوم والضأن بتخفيضات 30%    مصرع وإصابة 3 أشخاص في الشرقية    بوليتيكو: واشنطن تدرس القيام بدور بارز في غزة بعد الحرب    محافظ أسيوط يتابع مستجدات ملف التصالح في مخالفات البناء    وفاة شقيقة الفنانة لبنى عبد العزيز وتشييع جثمانها اليوم    عائشة بن أحمد تكشف سبب هروبها من الزواج    بطولة عمرو يوسف.. فيلم شقو يقفز بإيراداته إلى 72.7 مليون جنيه    هل تراجعت جماهيرية غادة عبدالرازق في شباك تذاكر السينما؟.. شباك التذاكر يجيب    رئيس جامعة المنيا يشهد حفل ختام أنشطة كلية التربية الرياضية    التنمية الصناعية تبحث مطالب مستثمري العاشر من رمضان    قافلة الواعظات بالقليوبية: ديننا الحنيف قائم على التيسير ورفع الحرج    بالفيديو.. متصل: حلفت بالله كذبا للنجاة من مصيبة؟.. وأمين الفتوى يرد    3 وزراء يجتمعون لاستعراض استراتيجيات التوسع في شمول العمالة غير المنتظمة    مدير جمعية الإغاثة الطبية بغزة: لا توجد مستشفيات تعمل فى شمال القطاع    وزير الري: إفريقيا قدمت رؤية مشتركة لتحقيق مستقبل آمن للمياه    الجيش الأمريكي يعتزم إجراء جزء من تدريبات واسعة النطاق في اليابان لأول مرة    الشرطة الإسبانية تعلن جنسيات ضحايا حادث انهيار مبنى في مايوركا    لمدة 4 ساعات.. قطع المياه عن منطقة هضبة الأهرام مساء اليوم    الإفتاء: الترجي والحلف بالنبي وآل البيت والكعبة جائز شرعًا في هذه الحالة    وزارة الداخلية تواصل فعاليات مبادرة "كلنا واحد.. معك في كل مكان" وتوجه قافلة إنسانية وطبية بجنوب سيناء    تعشق البطيخ؟- احذر تناوله في هذا الوقت    أبرزها التشكيك في الأديان.. «الأزهر العالمي للفلك» و«الثقافي القبطي» يناقشان مجموعة من القضايا    الأكاديمية العسكرية المصرية تنظم زيارة لطلبة الكلية البحرية لمستشفى أهل مصر لعلاج الحروق    تعرف على مباريات اليوم في أمم إفريقيا للساق الواحدة بالقاهرة    الإسكان: تشغيل 50 كم من مشروع ازدواج طريق سيوة - مطروح    رئيس الأركان يتفقد أحد الأنشطة التدريبية بالقوات البحرية    انطلاق امتحانات الدبلومات الفنية غدا.. وكيل تعليم الوادى الجديد يوجه بتوفير أجواء مناسبة للطلاب    أخبار الأهلي : دفعة ثلاثية لكولر قبل مواجهة الترجي بالنهائي الأفريقي    "صحة مطروح" تدفع بقافلة طبية مجانية لخدمة أهالي قريتي الظافر وأبو ميلاد    الصحة العالمية: شركات التبغ تستهدف جيلا جديدا بهذه الحيل    «العدل الدولية» تحاصر الاحتلال الإسرائيلي اليوم.. 3 سيناريوهات متوقعة    حظك اليوم برج العقرب 24_5_2024 مهنيا وعاطفيا..تصل لمناصب عليا    مدرب الزمالك السابق.. يكشف نقاط القوة والضعف لدى الأهلي والترجي التونسي قبل نهائي دوري أبطال إفريقيا    مقتل مُدرس على يد زوج إحدى طالباته بالمنوفية    إصابة 5 أشخاص إثر حادث اصطدام سيارة بسور محطة مترو فيصل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
رؤية خاصة جدا


جمال الغيطانى
«أحمد الله أنني في هذه المرحلة المتقدمة من العمر أعيش هذه الحفاوة التي تتجاوز أي تقدير عرفته في مساري..»
بدأت كتابة يوميات الأخبار في عام خمسة وثمانين من القرن الماضي، كان ذلك بمبادرة من النبيل الرائع سعيد سنبل، وهذه اليوميات أعتبرها سجلا دقيقا لحياتي الداخلية عبر ثلاثة عقود كاملة، في البداية كنت أكتب عن محمد وماجدة، بل إنني أوردت حوارات كاملة جرت معهما عندما كانا في طور الطفولة، مع التقدم في الزمن أصبح لكل منهما حياته الخاصة، وأدركت أنني يجب أن أحترم ما يخصهما، لم أعد أشير إليهما الا فيما ندر، السبت الماضي أتممت عامي السبعين، وأهم ما جري فيه بعد صدور روايتي «حكايات هائمة» عن دار نهضة مصر، وبدء نشر المرحلة الثانية منها «حكايات قاهرية» في أخبار اليوم كل يوم سبت، وصدور المشروع الروائي الطويل المستمر «دفاتر التدوين» عن الهيئة العامة للكتاب في مجلدين، كذلك مجموعات القصص القصيرة بدءا من أوراق شاب عانس منذ الف عام، ايضا عدد اخبار الادب الذي كان مفاجأة كاملة لي أعتبره وثيقة ليس بالنسبة لي وانما بالنسبة للصحافة الثقافية، هكذا يكون عيد ميلاد أديب فرصة لتقييم تجربته ومساره وإضاءته ونقده ايضا، ذكرني عدد أخبار الادب المخصص لما قدمته وليس لشخصي الذي أعده الزملاء الاعزاء وفي مقدمتهم طارق الطاهر ومحمد شعير بالعدد الذي أصدره الاستاذ رجاء النقاش من مجلة الهلال عن نجيب محفوظ عام 1970، أصبح مرجعا رئيسيا لأي مهتم بنجيب محفوظ حتي الآن، الحدث الآخر الاحتفال المهيب الدافئ الذي دعا إليه الاستاذ ياسر رزق وصندوق التنمية الثقافية ممثلا في المهندس محمد ابوسعدة، برعاية وزير الثقافة، وشرفني الصديق الكبير المهندس ابراهيم محلب بالحضور، سعي إلي بيت السحيمي مشيا علي قدميه من باب الفتوح حتي الدرب الأصفر «حوالي نصف كليو متر»، اصدقاء أعزاء توافدوا كل منهم يمثل معني في رحلتي عبر الحياة، تذكرت بالحنين من غابوا وأفتقدهم جدا، محمد البساطي، ابراهيم اصلان، ابراهيم منصور، الابنودي، كل منهم كان بالنسبة لي ملاذا، الغريب أن الصديق ابراهيم داوود حدثني في اليوم التالي عن افتقاد هؤلاء بحنوهم وصدقهم وأصالة مواهبهم، افتقدت نجيب محفوظ وامين الخولي ومحمد عودة والسيدة شفيقة جبر التي أدين لها، كثيرون مروا بذاكرتي غير أن الغياب أحيانا يكون أقوي من الحضور، المفاجأة في اخبار الادب مقالان، الاول كتبته ماجدة ابنتي، والآخر محمد ابني، حانت اللحظة التي يكتبان فيها عني، أري نفسي من خلالهما، ولكم تأثرت أما وثيقة أخبار اليوم التي وقعها زملاء العمر والرحلة فحدث فريد لعله الاول من نوعه، وللوثيقة حديث خاص فمازلت أحاول أن أستوعب، أحمد الله أنني عشت هذه الحفاوة في نقطة متقدمة من سعيي، شكرا لأخبار اليوم ولوزارة الثقافة ولكل من عرفني عبر النص وليس من خلال الشخص، في اليوميات أنقل عن أخبار الأدب ما كتبه محمد وماكتبته ماجي.
جيمي
شعور بالرهبة والارتباك انتابني عندما قررت ان اضع بين يدي القارئ هذه الكلمات المتواضعة بمناسبة اقتراب ابي من اكمال عقده السابع من العمر، فما ربطني بوالدي دائما ما كنت انظر اليه باعتباره غير مألوف ويخرج بعيدا عن نطاق علاقة الابوة ليستقر بثبات في خانة الصداقة الحقيقية، فلازلت اذكر كيف تفتح وعيي علي ما يرويه لي من خلاصة تجربته الحياتية المثيرة خاصة في سنوات عمله كمراسل حربي، فكنت دائما ما انتظر سماع انتصارات ابراهيم الرفاعي وصمود ابراهيم عبد التواب وقيادة عبد المنعم خليل وخبرة عبد المنعم واصل وجسارة زرد وذكاء فؤاد حسين ودقة ابوغزالة، مما خلق رابطا عضويا بين تكويني وبين الجيش المصري صاحبني إلي اليوم، وربط بيني وبين العديدين من رموزه وأبنائه. ومن الغريب ان والدي المغرق في عالم الفنون والآداب ، انطلق متعمقا نحو سبر اغوار علم الفلك المعاصر بمستجداته والغازه التي تطرح اسئلة وجودية فلسفية في جوهرها.
لا اذكر ابدا اني تحرجت يوما من مفاتحة والدي عن امر الم بي او استغرقني في التفكير ، فعلي العكس كثيرا ما كان هو الاكثر جرأة مني علي ممارسة الحياة بروح المستكشف ، علي النقيض من ميلي الغريزي إلي الانضباط وحياة الضبط والربط، فكان هو ولا يزال القوة الدافعة نحو الحركة والاستكشاف للعالم بثقافاته وفنونه، ولعل ما ادين به دائما لوالدي ذلك الدفق المستمر من العلم والمعرفة علي مدار عقود عمري التي قاربت علي الأربعة، فيسرت لي ، رغم دراستي العلمية، التشرف بالالتحاق بالسلك الدبلوماسي المصري.
ولعل ما يهمني اوصله إلي القاريء ان جمال الغيطاني الذي احكي عنه في البعد الخاص ، هو ذلك الغيطاني الذي يطل علي القاريء في البعد العام، تطابق احيانا ما استفز وعيي المحدود في ايام نشأتي الأولي، حالة صعيدية من التمسك بالقيم والمبادئ التي طالما آمن ولا زال يؤمن بها ، في القلب منها تقديس قيمة الالتزام بالعمل مهما كان بسيطا أو هاما فالإتقان والالتزام ركن أصيل من تكوين جمال الغيطاني، والانصهار روحا وجسدا في الشأن العام الأمر الذي يميز جيله في غالبيته ..جيل الستينات.
لا زلت اذكر كيف كنت اشعر في مقتبل عمري بالغيرة من الأدب الذي يستحوذ علي عالم ابي بشكل مطلق، الأمر الذي دفع بي صبيا صغيرا لانتهاج مسار بعيدا كل البعد عن كل ما هو ادبي ، مستغلا في ذلك دأبي العلمي وحسن استيعابي لعلوم الرياضيات فدرست الهندسة بعد تعذر التحاقي بالكلية البحرية العسكرية لعيب في نظري ، بل وحرصت علي تجنب الولوج لعالم الصوفية علي سبيل المثال كنوع من الاعتراض، الا أن الغريب ان ما صار علي مدار السنوات اللاحقة هو رجوعي باختياري للعالم الذي احبه والدي دون أي تدخل منه سواء من قريب او من بعيد، فبدأت في سؤاله عن الصوفية بعد ان وجدت في فلسفتها سماحة روحية تسع اختلافات الخلق، فبدأت نظرتي تتغير لعالم والدي الذي جذبني هذه المرة ، ومنها تعلقت بالقاهرة القديمة التي حفرت في وجدانه روحها ، وتعمق جذري بأصلي في صعيد مصر بلدنا جهينة سوهاج ، التي سننتهي اليها يوما ما. ومع مرور الوقت، بدا يتكشف لي مدي معاناة جمال الغيطاني نتيجة ما يدور في داخله من تساؤلات كونية ، و مشاغل إنسانية ، يقع صراع الإنسان مع الوقت والوجود في القلب منها ،
مما لا شك فيه أن «جيمي» وهو الاسم الذي شببت عليه مناديا ابي مما كان يثير الكثير من الدهشة لدي البعض، يلخص طبيعة العلاقة التي ربطتني بجمال الغيطاني الأب، هي علاقة صداقة وأستاذية بشكل غير نمطي او مألوف يتجاوز بكثير الابوة التقليدية ورابطة البنوة.
إن قيمة العمل عند جمال الغيطاني مقدسة ، وهو أسير الاعتياد، يشكل له التغير مسألة غير مريحة في مجملها ، ولعل السبب في ذلك طبيعة الحياة المزدوجة التي فرضت نفسها عليه وجعلته في حالة صراع ابدي مع فكرة الزمن، فهو في الصباح يسعي إلي رزقه صحفيا، وفي المساء مبدع إنساني، فآماله ورغبته في العطاء الادبي تتجاوز بمراحل بعيدة محدودية الوقت المتاح و القدرة البشرية علي التحمل، ولعل مشهد اصراره علي اكمال محاضرته في نادي الجلاء علي الرغم من بوادر الازمة القلبية التي اصابته ، أبلغ تعبير عن قيمة الالتزام والعمل لديه.
وعلي العكس من المعتاد مع الشباب، أجدني دائما ما أتهرب من أبي الذي يلح في إعطائي ما تيسر له من نقود، فهو زاهد فيها، كلما تحصل علي أي منها يطاردني كي يمنحني ما تيسر ، وهو أمر جعلني دائما أتعجب لهذا الرجل الزاهد زهد الرهبان في متع الحياة ولا يري أي متعة فيها إلا في القراءة والموسيقي والأدب. ومما لا شك فيه لدي انه لو لم تجمعه الأقدار بوالدتي لما تيسر له الزواج، فهما مكملان لبعضهما في شكل يدعو للايمان بالأقدار، فعلي الرغم من تميزها الصحفي المهني والذي كان من الممكن ان يثير غيرة أي رجل تقليدي، أجده داعما بكل قوة لوالدتي مهنيا ومعنويا بشكل يثير الإعجاب.
وبدون شك فاني مدين بتكويني لأبي دينا عظيما، فقد عشت معه بوجداني طفلا ذكريات حرب الاستنزاف مع رفاق السلاح ورموز العسكرية المصرية، فحفرت في نفسي زياراتي لسيادة الفريق فوزي و أبوة سيادة الفريق عبد المنعم خليل الروحية علامات شكلت وستظل هي ثوابت حياتي، فلا زلت استرجع كيف امضي الوالد سنوات في نزاع قضائي مع احد المؤرخين الراحلين ، دفاعا عن حرب الاستنزاف، فعندما تسأل جمال الغيطاني ما هو المشهد الأعظم في حياتك يجيب دون تردد مشهد ارتفاع العلم المصري علي خط بارليف صباح الأحد 7 اكتوبر 1973.
لعلني اشكر الزمن علي ما أتاحه لي بمروره من فرصة، انقل فيها ما اشعر به من دين تجاه أبي وهو يقترب من عامه السبعين، فخورا بإبداعه وثقافته وسيرته وطهارة يده وصداقته داعيا له بدوام الابداع والصحة والسداد.
كل سنة وحضرتك طيب يا جيمي .
محمد الغيطاني
فَص البرتقالة
انتهينا منذ قليل من الغداء... موعد الغداء هو تمام الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر -الغداء هو وقت التجمع لنا، والذي يكون عقب عودة جيمي من العمل. غالباً ما تدور احاديث الغداء حول مجريات البلد وهي نقاشات غالبا، ايضا، ماتنتهي إلي عدم اتفاق أي طرف علي رؤية الآخر للقضية موضع النقاش- وهذا يثير سعادة وفخر الأب والأم فها هم: الأبناء وقد بدأوا يستخدمون اجنحتهم (الفكرية) للتحليق بعيداً عن محيط سماء الأب والأم. بالنسبة لجيمي ولماجدة الكبيرة - حيث انه انا ماجدة الصغيرة- هذا هو قمة الانتصار: ان يسير الأبناء علي خطي نفسهما وليس تبعاً لاداء والديهما.
المهم، اعود إلي لحظة ما بعد الغداء حيث يذهب الجميع إلي قيلولته -أو الإغماءة وهو الإسم الحركي لها في بيتنا ويصف بدقة حالة كل منا عقب تناول طعام أمي الشهي ذي الرائحة المحبة- رائحة حب الطاهي لآكلي طعامه، تلك الرائحة التي تمتزج برائحة كُتب بيتنا، فإذا كان للأزمنة رائحة وللأماكن ايضاً فهذا المزيج من الروائح لن تجده إلا في هذا البيت.. في لحظة القيلولة الكل في امان هي لحظة التقاط النفس بين ما كان وما سيكون في اليوم.. لاشيء يهم فالكل في البيت هنا آمن، ممتليء، ونائم..
«إمسك ياحبوب...» يصلني صوته بنبرته المقبلة المرحة وانا لم أزل بين الغفوة واليقظة. إذن فقد استيقظ جيمي من قيلولته وسرعان ما سيبدأ البيت في استعادة نشاطه.
اعلم ما يريده جيمي حتي قبل ان انظر اليه بينما انا ممددة علي اريكتي الصغيرة: «ياجميل ايدي وجعتني اتفضل ياحبوب» انظر إليه مبتسمة: «ربنا يخليك ليا ياجيمي انا هقوم اجيب كمان شوية..».. لايتكلم ولكن يظل ممداً يديه بفص برتقالة من برتقالته: برتقالة ما بعد القيلولة.
«اصل دي بالذات حلوة اوي»:.. آخذها أخيرا بينما يملس بيديه علي رأسي: «ماتنسيش كوباية الماية وقعدتنا قبل ماتنامي.. ربنا ما يقطعلنا عادة ياحبوبة. يقولها جيمي . بينما اراه بجلبابه الصوف وعباءته «المغربية» السوداء يتجه إلي الناحية الأخري من المنزل: إلي المكتبة. إذن انها السابعة، فجيمي يبدأ «قعدة المكتبة» في السابعة بالتمام.. لحظات واسمع صدي موسيقي المكتبة تصلني هنا.. اليوم «التيمة» مغربي. فأنا خبيرة الآن في تمييز التواشيح المغربية والموسيقي الصيني وطبعاً، التركي، موسيقاه المفضلة، وإن بدأت ايضاً موسيقي الجاز والبلوز تحديداً في الاستحواذ علي اهتمامه . جيمي لايكتب إلا علي انغام الموسيقي.
يظل جيمي يكتب ويقرأ حتي الواحدة صباحاً.. ساعات عمل جيمي بعد القيلولة مقدسة.. لاينقطع عنها ابداً.. امر علي المكتبة.. ها هو، واقلامه، الأربعة مرصوصة بعناية علي المكتب، فلكل قلم لون ودور، ها هو يملأ «الورق الفلوسكاب» بخطه الصغير المُنمنم.. خط جيمي كالرسم، كالنحت.. لم ارثه عنه للأسف.. هو يجلس علي مكتبه بدأب الطالب المجتهد بلا سأم أو ملل.. حتي اقسي انواع المرض واكثرها فتكاً لم تغير نظامه فكان الجلوس علي فراش المستشفي للعمل والحفاظ علي النظام، ضارباً بأوامر الأطباء ورجائنا له بالراحة عرض الحائط.
بعد انتهاء ساعات الكتابة يدخل غرفة النوم ليجدني قد وضعت كوب الماء بجانب الفراش وجلست منتظراه. يمدد جسده علي الفراش ثم يشبك يديه ذات الصوابع السمراء الرشيقة وينظر لي: «هاه ياجميل ازاي كان يومك النهاردة؟».. ايا ما كان يشغلني كنت احكيه لجيمي..ايا ما كان.
تلك هي ملامح «يومياتي» مع جيمي..لم تتغير ابداً حتي جاء ميعاد مغادرتي لبيت «العز» عام 2006 ثم للدراسة والزواج عام 2008..
منذ اعوامي المبكرة وقد بات واضحاً انني مشروع استنساخ جيمي في العديد من الطباع. فنحن ابناء البرج الواحد، برج الثور، اصحاب الطابع الواحد: احنا صعايدة لاننسي الثأر ابداً ممن مس بنا ضرر إلا من نحبه: فإذا احببنا اخلصنا واغدقنا وسامحنا بلاحدود .
وهذا هو ابي.. فمهما ابدي من غضب فهو في أغلب الحال مسامح حتي قبل أن تنتهي عاصفة «جنونه الغيطانية» كما يصفها هو.
لايأخذ الأمر أكثر من كلمة حلوة لتصفية الاجواء ثم يكون الصفح. اعرف جيمي ودواخله كأنني انظر لنفسي في المرآة..
فما يراه البعض عنفا، وتهورا أو استعداداً وسعياً وراء الخسارة اراه انا ثمناً بسيطاً مقابل الإتساق مع الذات والدفاع كما هو فعلاً يؤمن به.
فكثيراً، كثيراً ماظلم أبي في العمل العام وكنت اعاني من ألم تعجز الكلمات عن وصفه عند رؤيتي لأقلام واشخاص تقذفه بأبشع واحط أنواع النقد (السباب؟) نتيجة لمواقفه العامة.. وكم كنت أتمني ان اشرح لكل قلم ان الموضوع ببساطة ان جيمي فقط يُدافع عما يؤمن به حتي وإن كان هو آخر من في خط الدفاع.. فالمهم هو الإتساق مع الذات لا أدري، مازلت لا اتقبل فكرة ان العمل العام له ثمن وهذا جزء طبيعي منه.
وليس هذا كل ثمن إخلاصه وتفانيه. فإخلاصه لعمله وكتابته بتلك الصورة المقدسة كان ثمنه غيرتي!!!!
نعم! غيرتي.. فما إن اجتزت مرحلة الطفولة حتي بدأت في الإبتعاد عن «المكتبة» بعد ان كانت مكاني المفضل في المنزل... كنت عنيدة.. جداً.. كنت غبية جداً.. فقد قررت التعبير عن حبي له بغضبي من كل ما كان يأخذ وقته.. فعند بلوغي المرحلة الثانوية ابتعدت عن القراءة تماماً..
ادركت غبائي عندما خطت قدمي خارج «بيت العز» لأول مرة بغرض السفر للدراسة.. فقط آنذاك شعرت بحجم خسارتي التي احاول ان اتداركها حتي هذه اللحظة.
لماذا ندرك اخطاءنا بعد ان تتباعد طُرقنا كيف كنت أرفض وانا في حضن المكتبة ان اقرأ كل ما كان ينصحني جيمي بقراءته لماذا لم اشاركه كل جولاته في مصر القديمة. تُري كيف كنت سأصبح إذا رافقته في خطواته ولم ادع العند يتملكني؟ حتماً كنت صرت أكثر عمقاً واتساقاً مع الذات.. كنت صرت شخصاً غير الشخص.
ولكن...
اياً ما كان يدور كانت ابداً لاتتغير عاداتنا :
«فص البرتقالة وكوب الماء».. وما كان يحدث بين الإثنين لايهم ابداً ... فهنا الود كله.. يلخصان كل شيء.. ففي الحقيقة احاديثي مع جيمي لم تنقطع ابداً حتي في عز ايام «قلة عقلي» هذه التي تحملها ابي بحب وصبر لا أعتقد انني قد أملكه مع ابني وقد صرت أماً..
ما بين البرتقالة وكوب الماء لايهم لأن ما هو ظاهر في علاقتي بجيمي هو مجرد قشور لما هو مسكوت عنه.. فأحاديثي معه تلك هي احاديث صامتة اجريها بداخلي كل يوم بالساعات... هي صامتة لكنني اعلم جيداً انه يسمعني... الآن وقد صرت اماً اتعجب كيف كان الفهم الخاطيء من جانبي؟ كيف يوماً فهمت مثابرته وإصراره علي ادخالي عالمه بهذا الشكل؟.
كيف لم يكفني غمر الحب والحنان والعطاء بلا حدود، حتي آخر قطرة ممكنة؟، كيف لم أع انذاك ان شعوري بالقوة والثقة في قدرتي علي تحدي هذا العالم هي فقط نابعة من وجود جيمي في «ضهري» حتي آخر نفس مهما كلفه الأمر..
الآن وقد صرت أماً استوعب اسئلته الصغيرة لي وقد كانت تبدو عامة وموجزة ولكن الآن اعلم علم اليقين انها كانت تعبر عن قلقه العميق ولهفته في رؤيتي سعيدة.. في رغبته التأكد انني قد وجدت طريقي..
كثيرا ما أشعر انني خذلته -كان من الممكن أن آخذ منه الكثير والكثير ولكن لم أفعل..
ولكن لم يتأخر الوقت ! فإذا كان جيمي يشعر بأنه في حالة صراع مع الزمن ليخرج كل ما بداخله من ابداع، وهو الكثير، الكثير جداً، فانا أسابق الزمن واصارع ما فات لأستعيد منه كل ماتركته، انا اتحدي المستقبل لكي اري في عين جيمي وماجدة الكبيرة نظرة فخر بما انجزته واطمئنان انني ممسكة بطريقي جيدا، طريق الدكتوراة ذي آلاف الأميال وسيحدث.. سأكون الأم والباحثة التي تستحق ان تكون ابنته.
وحياة دماغنا الصعيدي ياجيمي هارفع راسك.. دائماً.. كل سنة وانت صاحبي، في ضهري، ودائما تقرأني بدون الحاجة لكلامي..
ماجدة (أمك الصغيرة) نيويورك
مايو 2015
.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.