وتبقي الكارثة والمأساة المتمثلتان في نظرة البعض (ومنهم إدارة الرئيس باراك أوباما وأذنابه في الإعلام الأمريكي) للإخوان المسلمين كحزب سياسي يمكن أن ينضوي في الحياة السياسية لمجتمع عصري نشرت جريدة نيويورك تايمز مؤخرا ما إعتبره كثيرون ملخصا لرأي ورؤية المجلة وإدارة الرئيس باراك أوباما ومعظم مراكز البحوث في الولاياتالمتحدة. وأنا غير مهتم بالرد علي ما كتبته نيويورك تايمز. فأنا ككاتب تكلم في معظم مراكز البحوث الأمريكيةالمهمة وزار وتحدث أمام لجنة الحريات الدينية بالكونجرس ومحاضر زار البيت الأبيض الأمريكي ووزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي ونشرت لي عدة مقالات وكتب في الولاياتالمتحدة عن سياسات وثقافات دول ومجتمعات الشرق الأوسط أعرف كيف تكون حملة صحفية كتلك التي شنتها مؤخرا النيويورك تايمز وأعلم أن الحوار معها لن يكون مجديا. ولكنني أكتب للرأي العام العالمي الذي أتفهم أن الصورة أمامه قد تكون بحاجة لإيضاح. وأبدأ بالحديث عما حدث في مصر يوم 30 يونيه 2013. هل كان خروج أكثر من ثلاثين مليون مصري لميادين وشوارع عدد كبير من المدن المصرية «ثورة» أم شيئا غير الثورة ؟ إن أرجح تعريف للثورة هو قيام أعداد كبيرة جدا من الشعب بمواقف علي أرض الواقع تتسبب في إحداث تغيير أو تغيرات كبيرة في الواقع. ويوم 30 يونيه 2013 خرج أكثر بكثير من نصف عدد المصريين الذين لهم حق الإنتخاب وقرابة ثلاثة أضعاف الذين إنتخبوا الرئيس الذي كانت حشود 30 يونيه 2013 تطالب بعزله - خرج هؤلاء وفي معظم مدن مصر الكبري يعبرون عن إصرارهم أن يخلع محمد مرسي (الرئيس الإخواني) من منصبه. وقد أدي هذا التصرف الجماهيري لحدث وأثر كبيرين جدا تجسدا في إنهاء أول حكم للإخوان المسلمين في تاريخ مصر بعد 369 يوما من وصولهم للحكم. فإن لم تكن تلك «ثورة» فماذا تكون ؟ وكثيرون خارج مصر لا يعرفون أن حشود 30 يونيه 2013 جاءت بعد أن رفض الرئيس الإخواني ثلاثة طلبات تقدمت بها المعارضة الشعبية وهي أن يجري إستفتاء شعبيا علي بقائه او تركه الحكم أو أن يجري إنتخابات رئاسية مبكرة أو يستقيل. وكثيرون خارج مصر لا يعرفون أن المصريين جمعوا قبل 30 يونيه 2013 أكثر من 22 مليون توقيع يطالب أصحابها الرئيس الإخواني بترك منصبه. وكثيرون خارج مصر لا يفكرون في السيناريو التالي : قام المصريون بعد رفض الرئيس الإخواني للطلبات الثلاثة المذكورة وبعد توقيع أكثر من 20 مليون مصري ومصرية علي عريضة تطالب بعزل الرئيس الإخواني... بعد ذلك خرج أكثر من ثلاثين مليون مصري ومصرية يوم 30 يونيه 2013 لميادين وشوارع معظم المدن المصرية للمطالبة بتنحي محمد مرسي الرئيس الإخواني وبعد خروجهم هذا لم يقرر الجيش المصري الوقوف مع هذه الحشود المصرية : فماذا كان سيحدث ؟ الواقع المصري ومعرفة عقلية وثقافة ومنهج وتاريخ أي فصيل سياسي إسلامي تؤكد أن مواجهة كبري كانت ستحدث في ميادين وشوارع مصر بين مواطنين سلميين يطالبون الرئيس الإخواني بالإستقالة ومؤيدين إسلاميين لهذا الرئيس تقوم ذهنيتهم علي ركائز منها القتال... ويقيني أنه لو لم يقرر جيش مصر مناصرة ثورة 30 يونيه 2013 لشهدت مدن مصر مذابحا يفتك فيها مناصرو الرئيس الإخواني بمعارضيه لا لسبب إلا لكونها مواجهة قتالية بين أغلبية سلمية وأقلية دموية يقول لنا تاريخ المجتمعات الإسلامية والواقع الراهن في العراقوسوريا واليمن وليبيا كم هم قتلة ودمويون وكم أنهم لا علاقة لهم بكل قيم الإنسانية المعاصرة مثل التعددية والغيرية (قبول الآخر) والنسبية وحرية الإعتقاد ونظم الدولة الحديثة وحقوق المرأة... إلخ. وتبقي الكارثة والمأساة المتمثلتان في نظرة البعض (ومنهم إدارة الرئيس باراك أوباما وأذنابه في الإعلام الأمريكي) للإخوان المسلمين كحزب سياسي يمكن أن ينضوي في الحياة السياسية لمجتمع عصري. فهي نظرة تعكس عدم فهم الإسلام السياسي. كما تعكس خطيئة أخري هي إعتقاد البعض أن هناك فروقا وإختلافات إستراتيجية بين تيارات الإسلام السياسي. فالدارس المتعمق للتاريخ السياسي للمجتمعات الإسلامية ومن إطلع علي أدبيات تيارات الإسلام السياسي لا يستطيع إلا أن يصل لنتيجتين شديدتي الوضوح : الأولي هي أن تيارات الإسلام السياسي المتعددة ما هي الا فروع وأوراق شجرة جذعها هي الفكر الذي يمثله الإخوان المسلمون. والنتيجة الثانية هي أن الأهداف الإستراتيجية لكل تيارات الإسلام السياسي هي نفس الأهداف وهي تقويض نظم الدولة الحديثة وإستبدالها بنظم الخلافة الإسلامية التي أثبت علي عبدالرازق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» (سنة 1925) أنه محض وهم... فكيف يوجد نظام سياسي في ظل غياب نظام لتولي الحكم وفي ظل غياب مماثل لآليات الحكم. فكما يدلنا التاريخ فإن الطرق التي أختير بها الحكام الأربعة الأوائل المعروفين بالخلفاء الراشدين مختلفة كما أن إختيار الحاكم في الدولتين الأموية والعباسية كان «ملكا عائليا». وكل حاكم خلال حقبات الخلفاء الأربع الأول وأمراء بني أمية وأمراء بني العباس حكم بشكل مختلف وبدون نظام حكم واضح. ولا يوجد دارس متعمق في التاريخ السياسي للمجتمعات الإسلامية ولأدبيات تيارات الإسلام السياسي المعاصرة يستطيع أن يقول أن أي تيار من هذه التيارات سيحافظ (ان وصل للحكم) علي أطر وأسس الدولة الحديثة. ويكفي أن نلقي نظرة علي تاريخ الدولة السعودية الأولي والدولة السعودية الثانية والدولة السعودية الثالثة ودولة طالبان في أفغانستان ودولة المحاكم الإسلامية في الصومال ومناطق نفوذ وهيمنة بوكو-حرام في نيجيريا وواقع المناطق الواقعة تحت سيطرة الإسلاميين في العراقوسوريا واليمن وليبيا لندرك حجم التناقض بين أية دولة يسيرها مؤمنون بالإسلام السياسي وبين نظم الدولة والتشريعات وحقوق الإنسان وحقوق المرأة الحديثة. ومن العبث أن نصدق أن الإخوان المسلمين (مثلا) يؤمنون بنظم الدولة الحديثة والقواعد الدستورية والقانونية المعاصرة وحقوق الإنسان لمجرد أنهم يؤكدون ذلك ! كما أنه سيكون من العبث الميلودرامي أن نصدق أن الإخوان المسلمين (مثلا) قد نبذو العنف والقتل وإغتيال خصومهم لمجرد أنهم يؤكدون ذلك : فتاريخهم منذ إغتيالهم لرئيس وزراء مصر في سنتي 1945 و1948 وعشرات الإغتيالات الأخري بعد ذلك وأهمها إغتيال الرئيس السادات يوم 6 أكتوبر 1981 وما يحدث في مصر اليوم من إغتيالات ليس وراءها إلا الإخوان - هذا التاريخ والواقع الآني يؤكدان أن الإخوان المسلمين لم ينبذو العنف والقتل وإنما عهدوا به لتيارات منبثقة عنهم. فلا شك أن القاعدة وحماس (مثلا) هما إبنان أو بنتان لتنظيم وفكر الإخوان المسلمين. ولا شك أيضا أن داعش والنصرة في سورياوالعراق هما إبنان أو بنتان للوهابية المتمردة علي الدولة السعودية التي يقودها منذ عشرين سنة (من الناحية العملية) ملك ذو رؤية إصلاحية (نسبيا) لا يمكن ان يتماهي معها وهابيو الخارج في سورياوالعراق وغيرهما.