وقابلتني الراحلة «نوال المحلاوي» فقلت لها إنني اخترت له موضوعًا مختلفًا بعنوان «أزمة المثقفين» فنظرت إليّ في دهشة قائلة : كيف تعتبر أن «أزمة المثقفين» ليست موضوعًا سياسيًا مع أنك طالب علوم سياسية؟. لقد ظللت دائمًا أتمثل الفترة الليبرالية في تاريخ «مصر» وتشدني أسماء زعمائه السياسيين وهم يتشحون بالأوسمة ويضعون «الطرابيش» علي رءوسهم بعد أن أصبحنا الآن شعبًا بلا غطاء رأس ولا حتي زيِ وطني معروف، واختفي العلم الأخضر ذو الهلال والنجوم الثلاث ودخلنا في مرحلة جديدة ناصرناها جميعًا وباركنا خطواتها للخلاص من مفاسد القصر الملكي وأخطاء «فاروق»، ومازلت أتذكر يوم أن قامت ثورة 23 يوليو أنني كنت فرحًا لسبب غير معلوم ولكنه انعكاس لمشاعر والدي ومن حوله، فقد كانت لديه رحمه الله عادة اصطحابي معه طفلاً وغلامًا لحضور «المجالس العرفية» التي يشارك في التحكيم فيها، فتولدت لديَّ متعة الاستماع إلي «الحكائين» ورواة القصص من وجهات نظرٍ مختلفة وأظن أنني مدين لهذه الفترة من عمري بالكثير ولكثرة ما تابعت من أحداث وما استمعت إليه من وقائع تولد لدي حزن غامض وأصبح يساورني هاجس القلق من كل ماهو قادم وأصابني ذلك بمسحة من الحذر المتشائم والعمل دائمًا وفقًا للسيناريو الأسوأ، وعكفت علي القراءة بنهم في مكتبة البلدية بمدينة «دمنهور» وتجولت طويلاً بين صفحات كتب «طه حسين» و»العقاد» و»الحكيم» و»سلامة موسي» وقبلهم «المنفلوطي» و»جبران خليل جبران»، وشعرت دائمًا بثراء الخيال لأننا كنَّا نعتمد علي «الراديو» و»الصحيفة» ولم يكن «التليفزيون» قد ظهر بعد وبذلك كان يطلق المرء العنان لتصوراته لما يقرأ وما يسمع، وتمكنت مني مشاعر جياشة تجاه الزمان والمكان وعايشت الحياة السياسية وتطورات «العصر الناصري» منذ أن سمعت عن زيارة «النحاس باشا» لقريتنا في افتتاح «المستشفي الكبير» مرورًا بزيارة «إبراهيم فرج» الوزير الوفدي لافتتاح الوحدة الصحية بعد انتخابات 1950 التي فاز فيها «الوفد» وعاد بها حزب الأغلبية إلي الحكم، كما مازلت أتذكر أيضًا صدور قانون «الإصلاح الزراعي» في 9 سبتمبر 1952 حيث جاء إلي «تفتيش المغازي باشا» وفد رفيع يترأسه الوزيران «عبد الرزاق صدقي» وزير الزراعة والشيخ «أحمد حسن الباقوري» وزير الأوقاف احتفالاً بتوزيع الأرض علي الفلاحين، ويومها قال «الباقوري» نصًا: (لم يكن «المغازي» إقطاعيًا بمعني كلمة «إقطاع» ولكنه عصامي كوَّن نفسه بنفسه وكان بارًا بمن حوله) وانقسمت أراضي التفتيش بين قسمين «أرض الإصلاح» وهي ما جري الاستيلاء عليه وتوزيعه علي صغار المزارعين، و«أرض المصلحة» وهي ما تبقي للباشا السابق وأسرته، وما أكثر ما استمتعت من ثرثرة ممتدة لأبي رحمه الله ورفاقه وهم يتحدثون في مقارنةٍ ساذجة بين «ثورة نجيب» و»هوجة عرابي» مع حديثٍ مستفيض عن «الإنجليز» و»الجلاء» بعدما جري في منطقة «القنال» مع تعلق باقٍ باسم «النحاس» باشا ودوره خصوصًا أنه ألغي «اتفاقية 1936» من أجل «مصر» مثلما كان قد وقعها من قبل أيضًا من أجل «مصر»، وكانت شخصية «النحاس» تحظي بدورٍ أبوي طيب أحب فيه الناس تلقائيته، ولكن شخصية الثائر الصاعد «جمال عبد الناصر» كانت قد بدأت تطغي علي ما قبلها وتجعل الماضي شبحًا بعيدًا، ونسي الناس مآثر الأسرة العلوية من «محمد علي» إلي «إسماعيل» إلي «عباس حلمي» مرورًا بالأمراء الإصلاحيين من أمثال «عمر طوسون» و»عباس حليم» و»يوسف كمال» وغيرهم، ولكن «الثورة المصرية» جاءت بزخمٍ شديد وفرضت واقعًا مختلفًا ومزاجًا وطنيًا عامًا لم يكن موجودًا من قبل حيث كان «عبد الناصر» حفيًا بالعلم والتعليم ولقد قلدني وزيره «كمال الدين حسين» ميدالية برونزية وراتبا شهريا قدره ثلاثة جنيهات مكافأة تشجيعية علي امتداد فترة دراستي الثانوية حيث دخلت القسم العلمي وتخصصت في «علم الفيزياء» داخل شعبة العلوم، وكان من زملاء الدراسة في مدينة «دمنهور» العالم الكبير «أحمد زويل» والشاعر المرموق «فاروق جويدة» وغيرهما عشراتٌ ممن أصبحوا علماء وأدباء ومفكرين، ولكنني أعترف بأن فترة الدراسة الجامعية كانت هي الأكثر خصوبة والأشد تأثيرًا في تكوين شخصيتي، ففيها اختلطت بمختلف التيارات الفكرية والسياسية والثقافية وعرفت الطريق إلي الصحف القومية ومعايشة كبار الكتَّاب ومتابعة أعمالهم، ولازلت أذكر أنني ذهبت ذات يوم إلي «مؤسسة الأهرام» في مطلع ستينيات القرن الماضي لأدعو الأستاذ «هيكل» باسم «اتحاد طلاب كلية الاقتصاد» الذي أترأسه لإلقاء محاضرة وإجراء حوار وقابلتني الراحلة «نوال المحلاوي» سكرتيرته وقالت لي إن الأستاذ لا يتحدث في السياسة خارج مقالاته، فقلت لها إنني اخترت له موضوعًا مختلفًا بعنوان «أزمة المثقفين» فنظرت إليّ في دهشة قائلة (كيف تعتبر أن «أزمة المثقفين» ليست موضوعًا سياسيًا مع أنك طالب علوم سياسية؟) واعتذرت يومها وأدركت لحظتها الأهمية الكبري للأستاذ «هيكل» في ذلك العصر وهيبة «الأهرام» وصلته بالحكم وزعيم البلاد «جمال عبد الناصر»، وكان المناخ في النصف الثاني من القرن الماضي مزدحمًا بالأحداث الكبري والتحديات الداخلية والخارجية نتيجة الصدام المستمر للنظام الناصري مع أعدائه دوليًا وإقليميًا وداخليًا، ومازلت أذكر أن أمين عام «الاتحاد الاشتراكي العربي» «علي صبري» نائب رئيس الجمهورية كان قد عقد لقاءً موسعًا مع شباب المنظمة في أحد معسكرات التثقيف وسألته يومها سؤالاً مباشرًا عن قضية الحرية في الدول النامية، ولقد لفت السؤال الأنظار لأنه كان يتعرض لقضية حساسة في المساحة المسكوت عنها نتيجة التركيز علي قضية التحرر الوطني قبل مسألة «حرية المواطن»، ولابد أن أعترف بإيحابيات واضحة لعصر «عبد الناصر» ويكفي أن نتذكر أن ابنته زميلة الدراسة «هدي» كانت تأتي إلي الكلية بحارس واحد موجودا بعيدًا عنها للملاحظة والمتابعة ولكنها لم تكن تحصل علي أية مميزات تختلف بها عن زميلاتها حتي إننا لم نتعرف عليها تحديدًا إلا بعد أسابيع من بدء العام الدراسي نتيجة اندماجها العادي بيننا، وأتذكر يوم أن أعطاني أستاذي الراحل «د.عبد الملك عودة» رسالةً أسلمها إلي ابنة الرئيس يطلب فيها رفع القيود عنه في أسفاره إلي الخارج خصوصًا أنه شقيق الراحل «عبد القادر عودة» الذي جري إعدامه ضمن قيادات «جماعة الإخوان» بعد حادث المنشية 1954، وإن كانت أصداء إعدام الشابين الصغيرين «خميس» و»البقري» في ساحة العمل بشركة «كفر الدوار» بعد مظاهرةٍ عادية للاحتجاج علي رئيس مجلس الإدارة بعد الثورة بأسابيع قليلة ناقوسًا يدق بصداه في أعماق كل من تسول له نفسه الوقوف في وجه الثورة حتي ولو كان حسن النية! ولا شك أن التدريب السياسي الذي اكتسبناه في «منظمة الشباب» بغض النظر عن بعض سلبياتها قد وضع جيلي علي طريق الاهتمام بما يدور حوله وأظهر البعد القومي لمصر العربية، ولذلك كان أول بلدِ أزوره في حياتي وأنا أركب الطائرة لأول مرة هو «الجزائر» الذي ذهبت إليه موفدًا من المنظمة للالتقاء بشبيبة «جبهة التحرير الجزائرية» وحضور الاحتفال بنقل «رفات» الأمير «عبد القادر الجزائري» إلي بلده، ويومها قابلت الرئيس «بومدين» بعد شهورٍ قليلة من إطاحته «بأحمد بن بيلا» حيث كانت المشاعر قد بدأت تتغيَّر قليلاً بين البلدين العربيين الكبيرين «مصر» و»الجزائر».. إنني أقصد بهذه الصفحات المطوية من تاريخي الشخصي أن أقدِّم صورة نابضة لفترةٍ هامة من تاريخ الوطن بكل ما لها وأيضًا بكل ما عليها.