علي النواصي يتفرق الإنسان وربما يتجمع، لكنه لا يستمر كما هو، عرفت النواصي قائمة ومولية ومعلقة. النواصي، آه منها، من بلوغها، من استعادتها، من ورودها عليّ فجأة أو حتي بمقدمات أعرفها وكثير منها يغمض عليّ ويدق أمره عندي، هذا حالي، هذا رأيي، بعضها ألمحه فأسجد، وأبلغ أخري فأفرق، وتدركني واحدة فأتشتت ويصير جمعي صعباً، بل مستحيلاً، هكذا أنا محصلة وصول وقيام لكن كله عند النواصي، إنها للجمع، للتفرقة، للتلاقي، للانطلاق إلي هناك أو هناك، الملح عليّ منها يتصل بثوابتي الأولي، بمعالم وجدي وعبوري السريع، المرتجف، غير الواثق فمازلت طفلاً بعد يجهل ما عداه، ما لا يعرفه، النواصي فراغ وإتمام للمألوف، لكنها أيضاً إقبال وإقدام علي المجهول، أول ما رسخ عندي منها الناصية التي لا يمكن دخول درب الطبلاوي بدون عبورها، وتكونها واجهة سيدي مرزوق الأحمدي، مؤسس الطريقة الأحمدية، مسجد ضخم يكون الجانب الأيسر من السالك إلي داخل الدرب حيث قصر المسافرخانة، والفرع التالي لما يلي فرن الحاج ناصيف وفيه طالت إقامتنا زمناً ليس بالهين، الناصية لا تتكون كهدف في حد ذاتها، لكنها تظهر من تعامد عدد من العناصر وتعامد أبنية وامتزاج ظلال، هكذا كان في مدخل الدرب الذي يتقدمه بروز الركن الأيسر من الضريح الذي يحوي مدافن الشيوخ من سلالة سيدي مرزوق الأحمدي ومن خلفائه أسرة الشيخ شمس الدين والشيخ محمود، وبيتهم مجاور للمسجد القديم، بادي الحزن الشفيف ولكنه موجد خصوصية الدرب فلولا المئذنة التي أستقبلها بوجهي عند خروجي صباحاً لكان الدرب شبيهاً بأي درب في الجمالية أو غيرها، لكن صعود المئذنة هنا، في هذا التوقيت وتلك الزاوية بالتحديد أضفت علي الطريق الضيق معني ورؤي، أتمهل لأستوعبها، من الطراز العثماني بقمتها الحادة لكن النصف الأول منها قاهري، مثمن الأضلاع، يعلوه شرفة دائرية محمولة علي مقرنصات، رغم صمتي البادي فإنني لم أكف عن الحديث إليها قط والتلقي منها، في الصباح الباكر أنطلق إلي داخلي بصوت غير مسموع التحية »صباح الخير..« وأسمع منطوق الجماد مستفسراً عني، عن أحوالي، ربما عن أمر بالتحديد لم أطلع عليه أحدا، مئذنة سيدي مرزوق، لم أطلع درجها ولم ألمس قاعدتها كما جري لي ذلك مع مئذنة المنصور قلاوون وبرقوق في النحاسين وخانقاه فرج ابنه في صحراء المماليك، غير إنني لم أكف عن استعادتها حتي في أسفاري، أقربها وأبتعد عنها وأحياناً أحلق حولها أو أعلو حتي تصير كلها علي مبعدة تحتي، صارت جزءاً من مفرداتي التي أتحدث إليها وأمكث بجوارها، مثل واجهة السلطان حسن وقوس الإيوان الشرقي، والطبق المنجم في كرسي المصحف الذي اختفي وقرن الوعل في واجهة ابن الفارض، ومآذن العمري بسوهاج ومسجد قوص وغيرها الكثير لعلي أذكره وأفصله، لعل حواري مع الحجر فاق جدلي مع البشر، ما لم أنطق به أكثر، وما لزمت الصمت عنده أوفر، لذلك كان حواري المتصل مع الحجر والشجر والجسور كبيرة وصغيرة والوقوف علي الشطآن المهجورة ليلاً، أمعن في السماء المشتعلة بالنيران النائية العابرة والمجموعات الغامضة، تري ماذا هناك؟ لا أعرف ولن أعرف لكنني لن أكف عن التطلع والسؤال لعل إجابة تأتيني يوماً، من عجائب ما يتصل بجامع سيدي مرزوق أنني صحبت الوالد لصلاة الجمعة، كان محباً لصحبتنا، يأخذنا معه إلي مقهي الكلوب العصري وإلي الصاوي الترزي البلدي وكان له دكان إلي يمين الداخل من ناحية مولانا الحسين إلي صميم الخان، لعله من القلة الدالة التي تبقت في القاهرة قبل تواريها واختفائها تماماً، ترتفع الأرضية بمقدار يكاد يبلغ نصف المتر، الفرش من الشيلان المنسوجة من الحرير أو الصوف، المقعد والمسند من الوسائد متوسطة الحجم، يجلس إليها صاحب الدكان إلي اليمين غالباً، يسند ظهره إلي أخري، الدكان به أماكن للضيوف، الكل جالس يواجه بعضه بعضاً، الترتيب طبقاً للأهمية بالنسبة لصاحب المحل، الحاج الصاوي نحيل، يرتدي نظارة طبية، إطارها من سلك فضي تأكسد مع الوقت، تميل إلي طرف الأنف إذ يغرس الإبرة الرفيعة في أطراف الجلباب أو القميص لترسيم زخرف ينتظم عبر أنامله، يخرج مباشرة من أفكاره ورؤاه الداخلية، المستشار خلف الحسيني كان من رواده، ليس هو فقط إنما قضاة آخرون وحكمدار الجيزة من إحدي عائلات بلدنا وتاجر عطور، وموظف كبير بوزارة ما، كانوا يتحلقون حول فراغ المحل، صينية الشاي من مقهي الفيشاوي القريب، للأكواب شكل خاص لم أعرفه في أي مكان آخر، كوب صغير من زجاج رقيق عليه دائرة ذهبية قرب الفوهة، ثمة شيء أنثوي في التكوين ربما النطق العامي كلمة »كباية«، اختفت بعد هدم المقهي عام تسعة وستين، ورحل الحاج فهمي رحمه الله كان من المعالم، لم أجدها إلا في بغداد عندما زرتها عام أربعة وسبعين في مقهي القرنفلي أول شارع السعدون فيما يلي المكتبات، كنت منفرداً أدخن النرجيلة ثرية التنباك، رفعت الكوب نحيل الخصر، أدرته، ابتسمت، جاء العجوز الكروي الذي يوزع الفحم المتقد، بدا متعجباً، ظن أنني أتحدث إلي الكوب، إنني أنطق ألفاظاً غامضة، الحق أنني كنت أفعل أكثر مما ظن بي، كنت أترقرق وأحاول النفاذ عبر ما يفصلني إلي ذلك الزمن القصي من صباي، لأول مرة أعرف نواصي الزمن وليس المكان فقط، نفثت الدخان العميق، النفاذ، تطلعت إلي أغصان الشجرة في وسط المقهي، هنا الوضع مختلف عن مصر، المقاعد لا تتواجه، إنما يتجاور القوم فوق الدكك البيضاء المستطيلة، الفيشاوي تحتفظ ببعض الدكك لكن شتان، دكك الأورفللي من خشب خفيف، لم يُحفر عليها تاريخ معين أو اسم يقف أمامه القوم بمهابة مثل »الفيشاوي«، الكوب رغم ضآلته يحملني إلي وقت لم يعد ماثلاً، كيف جاء هذا التصميم إلي بغداد؟، لم أجده في أي مقهي آخر، فقط الأورفللي، رغم أنني شغفت بمقاهي البصرة خاصة مقهي التجار الذي رأيت فيه أكواباً تقارب ما علق عندي، يطلق علي كل منها هناك »الاستكان«، طلبت من صاحب مقهي التجار أن أشتري واحد فارغ أحمله معي، لكنه رفض وكأنني طلبت أمراً صعبا مناله، كان حكمدار الجيزة يوزع الشاي، يمسك البراد المقبض محاط بقطعة قماش من القطن الشاهي النظيف، القطن يمتص الحرارة أما الحرير فموصل جيد لها، لا أحد يصب الشاي غيره، مهما طال انتظارهم، هذه أمور لا تحتاج إلي تنبيه من صاحب المكان الحاج عثمان الهادئ، الطيب، بعد أن يتناول الحكمدار أول رشفة، يومئ إلي الجميع، المذاق تمام والسكر موزون، يبدأ صب أول كوب خاص بالمستشار خلف، الوالد هو الثاني، الكل يقفون صفاً واحدا في صلاة الفجر، صلاة الفجر بالتحديد التي لم يتخلف عنها أحدهم حتي في أيام الصقيع، غير أن ثمة ناصية ظهرت في الستينيات، إنه مرض الحكمدار، تغير غامض جري في الدم، أذكر حجرته النظيفة في مستشفي الشرطة بالجزيرة، رقدته المستسلمة وذلك الرضا في عينيه، ومخاطبته لأبي »يا عم أحمد..« لم يكن يتحدث إليه هكذا، فقط »أحمد«، بقي عندي خروجنا من المسجد واتجاهنا مباشرة إلي الحاج عثمان الصاوي، خلع الأحذية، جلوسنا جميعاً متربعين بين الحين والآخر أتطلع إلي أبي، كذا أخي اسماعيل خشية أن يكون أحدنا قد ارتكب خطأ ما، إلا أن ملامح الوالد الراضية، المستكينة، القامعة لألم خفي لا نعرف منبعه ومآله والوسيلة إلي إقصائه مطمئناً وتبث سكينة في أرواحنا، وأوقن وقتئذ في هذا الوقت المبكر أنني مجرد مراقب، مراقب عبر تلك الناصية غير المرئية، يمتد مسجد سيدي مرزوق الأحمدي مسافة فسيحة ما بين درب الطبلاوي ودرب المسمط، الباب الرئيسي بجوار درب الطبلاوي، علي شارع الجمالية وقبل العمارة الحديثة التي يوجد تحتها صيدلية فايز، ثم مخزن عم حسن محترف المزادات النادرة، يمكن أن تجد فيه محرك طائرة سقطت في العشرينيات في مكان ما أو مدخنة قاطرة كانت تسعي في الهند، مدخل المخزن لا يوحي أبداً بما يحويه، بفراغه الممتد، إلي جواره سلالم سبع تؤدي إلي مسجد درب المسمط، إلي داخل الدرب الموازي للطبلاوي، هنا المدخل الآخر لسراي المسافرخانة، إنه الرئيسي طبقاً للتصميم الأصلي، لكن مهابة المدخل الخلفي من ناحية درب الطبلاوي ألغي وظيفة الأول مما جعل شهبندر التجار في القاهرة يستبدل الثاني بالأول وتزداد عنايته به حتي أصبح درب الطبلاوي مقصداً وعلامة، بعد ثورة يوليو بشهور حضرت في بيت الشيخ محمود شمس الدين حفلاً سياسياً جاء ليخطب فيه حسين الشافعي وكمال الدين حسين وحسن ابراهيم الذي كان يسبق اسمه رتبة مختلفة »قائد الجناح«، كلهم أعضاء مجلس قيادة ثورة، لم يتبق وقت تدويني هذا إلا خالد محيي الدين وهو ممن أحببتهم وأنزلتهم موقعاً عالياً، لا أري من هذا الحفل إلا البكباشي سيد زكي، كان مديراً لمكتب حسين الشافعي، وبسبب هذه الرتبة والمكانة ظل ينتخب عضواً في البرلمان عن الجمالية، رأيته عن قرب بعد عملي مع المهندس فخري في الجمعية التعاونية بخان الخليلي وجري ذلك صباحاً في ربع السلحدار وهذا من الأماكن الراسخة عندي، كله نواصي، ليس من الخارج فقط، إنما من الداخل، وله عندي مسار وعمران. عندما دخلت مسجد سيدي مرزوق أخذني حصر، أين هذا الفراغ وذاك الضوء الرمادي من جلاء الحسين ونوره، جلسنا قرب الشيخ محمود وأشقائه، أحدهم زميلي بالمدرسة، حياني بإيماءة، عندما صعد الشيخ مصطفي دكة القراءة سمعت همهمات، كان لوالدي هوي وشغف بمشاهير القراء، يتبعهم، يمضي إلي المساجد التي اتخذوها مقاراً لهم، المقرئ الذي لم يخلق الله مثله، الشيخ محمد رفعت، مكانه مسجد مصطفي فاضل قرب باب الخلق، عرض عليه الشيخ محفوظ أحد أعيان أسيوط ما يريد في مقابل أن يقرأ بمسجد مولانا الحسين، أو الإمام الشافعي أو أم هاشم »السيدة زينب« لكنه اعتذر برقة، إنه يفضل الانزواء، ولولا إقدام رجل من أعيان اليهود علي التسجيل خلسة لما عرفنا صوته، قال أبي بعد سرحة صامتة إن ما نسمعه مجرد إشارة إلي معجزة لا مثيل لها، لكن يكفي أن تبقي منه إشارة فربما يجيء يوم لا يتحمل الناس فيه طلاوته وجماله، كنت أتطلع إلي الفراغ وأكاد أري يوماً يمكن للبشر استعادة أصوات من ذهبوا، أليس الصوت موجات من المادة والمادة لا تفني ولا تستحدث، كان الشيخ مهيباً وقواه في عزها، كثيراً ما قلت لأبي مشاغباً: إنني لا أحب الشيخ مصطفي، ماذا تجد فيه، أنظر إلي الشيخ عبدالباسط، إلي الشيخ البهتيمي، يتطلع إليّ، ليس لائماً أو عاتباً إنما ساجياً وكأنه يقول لنفسه: العيال كبرت وأصبح لها رأي. في هذه الجمعة أدركت ما يعنيه أبي، المعراج إلي علو وسفل، الوقوف عند النواصي التي لابد من الوقوف عندها في الحروف والألفاظ، أي قدرة هذا، صوته ليس في جمال الشيخ رفعت أو رقة المنشاوي، لكنه مستوعب للمعني، أحد الأجانب تعلم العربية من أدائه، من إحساسه باللفظ، كانت جمعة فريدة، خاصة تجاوب الخلق معه، تبدل جامع سيدي مرزوق فيما تلا ذلك، لم يعد ذلك الخاوي المقفر، الذي لا يقصده إلا أتباع الشيخ وأفراد الطريقة الحامدية، كثيراً ما تبدأ أحوالي قبل أن يتيسر استعادتي لما عانيته تلك الظهيرة مثل تبسبسي وتذربتي قبل إشراف الناصية عليّ أو إشرافي عليها، إلي أن جري ذلك الأمر العجيب، كنت في حلب وآه من الشهباء وما جري لها وقت تدويني هذا من خراب مروع، في الزيارة الثانية صحبني صديق ملم إلي بيت قديم، علق في مدخله عود قديم شأن كل البيوت الحلبية، بدأ يخرج لي نفائس، شرائط مسجلا عليها قراءات كلها لشيوخ مصريين، من علي محمود إلي الطبلاوي، لكن ما توقفت عنده وحملقت إليه مأخوذاً، ذلك الشريط المكتوب عليه »الجمعة مارس 4591.. قراءة نادرة للشيخ مصطفي اسماعيل«، أصغيت لأول مرة تصبح آهات المستعمين وصيحاتهم في أهمية القارئ، اجتهدت في التقاط ما ينم عن وجودنا، كان أبي كتوماً، متحفظاً وحتي الآن أسمع مصغياً بدون إشارة، فقط أتمايل أو تتقلص ملامحي، رحت محاولاً الإمساك بالفراغ، نحن هنا، أنا هنا.. ياه، من؟