الدولار خلال إجازة شم النسيم.. أسعار العملات في البنك الأهلي والمركزي وموقف السوق السوداء    أسعار اللحوم اليوم الأحد 5 مايو 2024.. كم سعر كيلو اللحمة في مصر    الأرصاد تحذر من انخفاض درجات الحرارة وتساقط الأمطار على هذه المناطق (تفاصيل)    مصر للبيع.. بلومبرج تحقق في تقريرها عن الاقتصاد المصري    حملة ترامب واللجنة الوطنية للحزب الجمهوري تجمعان تبرعات تزيد عن 76 مليون دولار في أبريل    مصر على موعد مع ظاهرة فلكية نادرة خلال ساعات.. تعرف عليها    روسيا تصدر مذكرة اعتقال للرئيس الأوكراني زيلينسكي    أول تعليق من مدرب سيدات طائرة الزمالك بعد التتويج ببطولة إفريقيا أمام الأهلي    نجم الأهلي السابق يوجه طلبًا إلى كولر قبل مواجهة الترجي    قصواء الخلالي: العرجاني رجل يخدم بلده.. وقرار العفو عنه صدر في عهد مبارك    بورصة الدواجن اليوم.. أسعار الفراخ والبيض اليوم الأحد 5 مايو 2024 بعد الارتفاع    هل ينخفض الدولار إلى 40 جنيها الفترة المقبلة؟    حزب العدل يشارك في قداس عيد القيامة بالكاتدرائية المرقسية    علي معلول: تشرفت بارتداء شارة قيادة أعظم نادي في الكون    العمايرة: لا توجد حالات مماثلة لحالة الشيبي والشحات.. والقضية هطول    بعد معركة قضائية، والد جيجي وبيلا حديد يعلن إفلاسه    تشييع جثمان شاب سقط من أعلي سقالة أثناء عمله (صور)    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. الأحد 5 مايو    كريم فهمي: لم نتدخل أنا وزوجتي في طلاق أحمد فهمي وهنا الزاهد    تامر عاشور يغني "قلبك يا حول الله" لبهاء سلطان وتفاعل كبير من الجمهور الكويتي (صور)    حسام عاشور: رفضت عرض الزمالك خوفا من جمهور الأهلي    ضياء رشوان: بعد فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها لا يتبقى أمام نتنياهو إلا العودة بالأسرى    عمرو أديب ل التجار: يا تبيع النهاردة وتنزل السعر يا تقعد وتستنى لما ينزل لوحده    الزراعة تعلن تجديد اعتماد المعمل المرجعي للرقابة على الإنتاج الداجني    حسب نتائج الدور الأول.. حتحوت يكشف سيناريوهات التأهل للبطولات الأفريقية    كاتب صحفي: نتوقع هجرة إجبارية للفلسطينيين بعد انتهاء حرب غزة    احتجاج مناهض للحرب في غزة وسط أجواء حفل التخرج بجامعة ميشيجان الأمريكية    مصرع شاب غرقا أثناء الاستحمام بترعة في الغربية    إصابة 8 مواطنين في حريق منزل بسوهاج    رئيس قضايا الدولة من الكاتدرائية: مصر تظل رمزا للنسيج الواحد بمسلميها ومسيحييها    اليوم.. قطع المياه عن 5 مناطق في أسوان    الآلاف من الأقباط يؤدون قداس عيد الميلاد بالدقهلية    محافظ الغربية يشهد قداس عيد القيامة بكنيسة مار جرجس في طنطا    البابا تواضروس يصلي قداس عيد القيامة في الكاتدرائية بالعباسية    مكياج هادئ.. زوجة ميسي تخطف الأنظار بإطلالة كلاسيكية أنيقة    دار الإفتاء تنهي عن كثرة الحلف أثناء البيع والشراء    حكم زيارة أهل البقيع بعد أداء مناسك الحج.. دار الإفتاء ترد    صناعة الدواء: النواقص بالسوق المحلي 7% فقط    أبو العينين وحسام موافي| فيديو الحقيقة الكاملة.. علاقة محبة وامتنان وتقدير.. وكيل النواب يسهب في مدح طبيب "جبر الخواطر".. والعالم يرد الحسنى بالحسنى    عاجل.. مفاجأة كبرى عن هروب نجم الأهلي    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    عبارات تهنئة بمناسبة عيد شم النسيم 2024    تساحي هنجبي: القوات الإسرائيلية كانت قريبة جدا من القضاء على زعيم حماس    محافظ القليوبية يشهد قداس عيد القيامة المجيد بكنيسة السيدة العذراء ببنها    نميرة نجم: حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها غير موجود لأنها دولة احتلال    سعاد صالح: لم أندم على فتوى خرجت مني.. وانتقادات السوشيال ميديا لا تهمني    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    صيام شم النسيم في عام 2024: بين التزام الدين وتقاطع الأعياد الدينية    بعد الوحدة.. كم هاتريك أحرزه رونالدو في الدوري السعودي حتى الآن؟    عوض تاج الدين: تأجير المستشفيات الحكومية يدرس بعناية والأولوية لخدمة المواطن    لطلاب الثانوية العامة 2024.. خطوات للوصول لأعلى مستويات التركيز أثناء المذاكرة    محافظ بني سويف يشهد مراسم قداس عيد القيامة المجيد بمطرانية ببا    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    نجل «موظف ماسبيرو» يكشف حقيقة «محاولة والده التخلص من حياته» بإلقاء نفسه من أعلى المبنى    شديد الحرارة ورياح وأمطار .. "الأرصاد" تعلن تفاصيل طقس شم النسيم وعيد القيامة    المنيا تستعد لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    مهران يكشف أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي في التأمين    من القطب الشمالي إلى أوروبا .. اتساع النطاق البري لإنفلونزا الطيور عالميًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الآخبار
آه.. من المفارق
نشر في الأخبار يوم 08 - 05 - 2012

لا أذكر المفارق التي عبرتها إلا وتأخذني رعدة، إذ تعني عندي مفارقة من نحب ونهوي..
ليس مثل آْلمَفَارق شيء يحفزني ويدفعني إلي الإمعان، يمضي الطريق مستقيماً، لكن إلي حين، لابد أن يصل إلي نقطة يلتقي فيها بطريق آخر، أو أكثر، كل طريق يؤدي إلي آخر وإلا لما كان اسمه طريقا، المعلوم، المرئي، يؤدي إلي المجهول غير المعروف لمن يمشي فيه، كل طريق مجهول حتي بالنسبة لمن اعتاده وأدرك معالمه، من يمضي عبره أول مرة غير عالم بما سينظره أو ينتظره، ومن خبره لا يدري أي مفاجاة ستقع له، ربما يلتقي من ابتعد عنه زمنا أو من لا يرغب، وربما وقع له مالا يحب ومالا يتوقع. لذلك أقول بغموض كل طريق حتي لمن يعيش فيه ويألف، الغريب أن المعاني الواردة في سائر المعاجم تدل علي ما أقول، الطريق يعني من يحاول معرفة الغيب عبر ضرب الأحجار، الطارق من يأتي بغتة في الليل، من يفاجئ القوم، سواء كانوا أهله أو غرباء عنه، إذن.. الطريق في معني العموم هو المجهول، غير المعلوم، سواء بالملامح أو بما سيجري فيه خلال المضي عبره، لذلك كان الخروج إلي شارع قصر الشوق نذيرا بالمخاطر في سنواتي الأولي.
حتي السادسة لم أكن أجتاز النصف الثاني من الدرب حيث نسكن، عادة يطلق اسم الدرب علي طريق غير متسع يصل شارعين ببعضهما. يبدو أن هذا كان قائما في الماضي السابق علي خطوي فوق أرضه المرصوفة بالحجارة الصقيلة نهاية الأربعينيات عندما سمح لي بالنزول للعب مع أبناء الجيران شرط ألا أجتاز فرن الحاج ناصيف. تقع عند المفرق، بالنسبة للداخل أو الخارج، المدخل يفضي إلي شارع قصر الشوق، علي ناصية مسجد سيدي مرزوق الأحمدي، تلميذ سيدي أحمد البدوي دفين طنطا، أول الدرب إلي اليمين منزل أسرة الشيخ شمس الدين وهم رؤوس الطريقة الأحمدية. وكلهم بيض البشرة. ضخام الأجسام. أصحاب لطف وطيب معشر.
يمضي الدرب حتي منزل علي الجرجاوي المحامي الشرعي. الذي مات محترقا ورأيت جثمانه محمولا علي نقالة، مغطي بملاءة سرير، ينقل إلي عربة سوداء الطلاء لا أعرف كيف دخلت الدرب واستدارت حتي أصبحت مقدمتها إلي الخارج. عند هذا البيت يتفرع منقسما إلي ما يشبه الدلتا، الأيسر إلي حيث المسافرخانة المهجورة وقتئذ. الأيمن يؤدي إلي بيتنا حيث نقيم فوق السطح. مرتفع نسبيا، أعلي المنازل ومن فوقه يتسع الأفق في كل الجهات. حتي الفرن ممكن، لكن اجتيازه إلي ما يليه بمفردي يعني امكانية الضياع، أما الخروج إلي الشارع المؤدي إلي آخر أفسح وأعرض، شارع حبس الرحبة، وهذا يعني بلوغ الخضم، حيث الطرق مفتوحة علي بعضها، مؤدية إلي المجهول. يسلكها من تخصص في سرقة الأطفال، أو أصطحابهم إلي الخرابات والأماكن المهجورة للاعتداء عليهم ، لذلك كانت الجملة التي تتكرر دائما علي الأسماع.
»أوعي حد يقولك تعال أوديك لأبوك.. أو يقول لك: أجيب لك حلاوة..«
الفرن حدد أول المفارق لي، حتي دخولي المدرسة الابتدائية لم أجتزه إلا بصحبة أبي، عنده أتوقف، لذلك يمثل أمامي الحاج ناصيف بنظارته الطبية ربما أول نظارة اراها، كان بقايا بنيان قوي، يميل قليلا إلي الأمام، لذلك لا أراه إلا محدقا إلي بعيد، أورث ضخامة التكوين إلي ابنيه أحمد، ومختار، الأول هو الأكبر، تفرغ للفرن، صوته مرافق لملامحه وجلبابه الذي لا آراه إلا في لون واحد، البني الفاتح، زعيقه يسمع طوال النهار، كثير الدعابة، الثاني مختار، كان أقصر وأكثر امتلاء، امتهن أعمالا أخري غير الفرن، رأيته في سنوات تالية مرتديا حلة العاملين في السكك الحديدية، ثم عاد إلي الجلباب، وعندما عملت بالصحافة في نهاية الستينيات أقبل عليّ محييا، قال إنه علي صلة. كان يعمل في توزيع المرتجع، لذلك كان يردد علي مسمع من الجيران ورواد المقاهي أنه يعمل بالصحافة، كان هادئا، دمثاً، يمشي متمايلاً، يقبل عليّ إذا رآني بعد انتقالنا إلي حي آخر، لكن في السنوات الأخيرة من عقد الثامن كان يمر إلي جواري فلا يتعرف عليّ، وإذا أقدمت وصافحته يحدق إليّ بعينين خلتا من أي انطباع أو تعبير. بالطبع خلال طفولتي لم أتحدث إليه ولا إلي أخيه أو أبيه، فقط إلي العمال عندما ترسلني أمي لاطلب الفران الذي سينقل طاولات العجين، أو طلباً لصاجات الكعك والبسكويت والغريبة قبل حلول عيد الفطر، والتي يطول انتظارها لشحها وقلة عددها، كان الزحام يبلغ ذروته خلال الأيام الأخيرة، وقد يضطر البعض إلي تمضية الليل انتظارا لصاج أو اثنين، يضطر الحاج إلي التدخل بنفسه، يقف مرتديا جلبابه الفسيح والعباءة علي كتفه صيفا أو شتاءً، مصرا علي التزام الكافة بالدور، وفيما يلوح لي الآن، كان صارما، مدققا، هذا الحاج الذي لم أتحدث إليه قط. ستطالعني ملامحه، وسأصفه مرات، وأذكره شفاهة وكتابة، يطل عليّ خلال ترحالي، يرد عليّ هو وأبناه والعمال، سواء الواقف منهم أمام الفتحة المؤدية إلي بيت النار، أو الذين تخصصوا في حمل الالواح وتوصيلها إلي البيوت، ثم العودة بالأرغفة الناضجة. المقببة. اللدنة، الفواحة بعبير القمح المخبوز، مرصوصة فوق الأقفاص المسطحة المنسوجة من جريد النخيل، جال معي الحاج في أماكن لم يبلغها قط، وأطل عبر لحيظات لم تخطر لي ولا له، بعد غياب عن الدنيا، هكذا نظل حاضرين،مماثلين عند من لم نعرفهم. يحدق فينا من لم نخاطبهم قط، ولم نحاورهم، يشكلون عنصرا هاما في خلفيتنا غير المرئية، اللا مدركة، لكل منا أفقه الغامض، ربما يحدد مساره أو يبطن قراراته، أثق ان مثول الحاج عندي لعب دورا ما، ربما في أوقات حاسمة، لكن.. متي، كيف، لا أدري ولن أعرف أبدا.. لا يتوقف الأمر عنده كإنسان، أو عند ولديه، إنما يندمج بالفرن، عندما يقال اللفظ علي مسمعي يتقدم علي الفور اثنان، فرن الحاج، وفرن خالي في صحن البيت بجهينة، الأول في قلب الدرب، في منتصفه تماما، فراغه فسيح، محتوياته شتي، الخباز يقف في حفرة شبه مستديرة، حتي يحاذي بصره الفوهة، يري تطور نضج الخبز واكتماله، عندئذ يسحبه بالطراحة الخشبية ذات اليد الطويلة، يمكنها أن تدفع بعشرة أو تأتي بهم من أصداء اللهب.
الصاجات
.. المهارة في رصهم فيما يشبه الخط المستقيم مع الاحتفاظ بمسافات متساوية، سواء عند الدفع بالعجين المتخمر، أو سحب الأرغفة المتوهجة، من الفرن تعبق رائحة خاصة تسري علي مهل فتغمر الدرب كله، ربما تتجاوزه إلي خارجه، لا يطرقني الجوع إلا وتهف عليّ تلك الرائحة، وإذا ما غبت عن الديار تقوي عليّ جالبة كل مذاقات الخبز الذي أعتدته وصار جزءا من نسيجي، وقد تحدثت مفصلا عن ذلك في »مقاربة الابد«، فليطالعه الراغب في الاستزاده، أما فرن الخال فكانت تقضي حاجة البيت، يبدأ خبيز العيش الشمسي قبل شروق الشمس أما الفايش فبعد صلاة الفجر مباشرة، ولابد أن تعجنه وتعده وتزج به إلي اللهب هذا أيضا ألمحت إليه وفصلت في مواضع شتي من دفتري الذي خصصته لرشحات الحمراء، أما رائحة الفانيليا الذكية فتعني اقتراب العيد، لكم انتظرت امام الفرن حتي أحصل علي الصاجات الفارغة التي ترص عليها أمي الكعك والبسكويت والغريبة، وبسبب الزحام كنت أحملها فوق رأسي وأسلمها للحاج. ليس مرة واحدة كما يفعل عويس الذي كان يمشي علي أطراف أصابع قدميه وفوق رأسه قطعة دائرية من قماش فوقها عشرة أو خمس عشرة، مرصوصة بحذق. طبعا لا يمكنني مجاراته ولا حتي في ثلاثة صاجات، إنما كنت أضع واحدا فقط وأحرص علي إتزانه، وأعود إلي غيره. لم تكن المسافة بعيدة، لا نقصد الفرن من حارات أخري، إنها في دربنا، عندما اجتزت المدخل إلي الشارع، ورأيت فرنا في درب الرشيدي قرب حارة الروم الجوانية تطلعت إليها بدهشة، بوابتها أحدث، كذلك بناؤها لكنني استدعيت فرن الحاج علي الفور، إنها الأمثل عندي وما عداها زيف، يتداخل عندي بث البشر والحجر والفراغ أيضا. يمثل الحاج أمامي، كذلك أبناه، وبنفس الحضور تهب رائحة الخبيز، وفواح الفانيليا، وتتلألأ في بصر مخيلتي وهج نيران الفرن، عندما اشتد سعيي وعلمت إن الحاج افتتح فرنا آليا يخبز الأرغفة التي تباع في الدكاكين، وأمام المقاهي والمحلات، مررت أمامها بقصر الشوق، لم تواتني الرغبة حتي لأدخلها، لم تعن أي شئ بالنسبة لي، الفرن تلك الكامنة في الدرب، بالضبط قرب المفرق الأول الذي يمثل نقطة عبور قصوي عندي ومازال، حتي التحاقي بالمدرسة كان مسموحا لي اللعب حتي حد الفرن لا غير، رغم فضولي لم أحاول التجاوز رغم إغراء كاميليا ابنة الجيران لي، وإلحاحها كي أصحبها حتي محمد الخضري في أول مرة تلتف فيها بالملاءة وتمضي لتشتري ما يلزم أمها صاحبة المذياع الوحيد، بعد دخولي مدرسة عبدالرحمن كتخدا، في أول عطلة صيفية قبل قيام الثورة، نزلت الدرب، لم يكن ثمة حرج في اجتياز الفرن، أنني أمضي إلي المدرسة بمفردي، لكن الذهاب إليها - كذلك العودة- شيء واللعب أمر مغاير، إلي المدرسة أمضي إلي نقطة محددة، وأعود إلي مثلها، لو تجاوزت الوقت المحدد فإن القلق سرعان ما يسري ويقلقل، ولأن أبي في الشغل وأمي بمفردها، وحتي ذلك الحين لم تكن تخرج إلا برفقة الوالد قبل أن يحل الوقت الذي تخرج فيه بمفردها لشراء الحاجات وقضاء المصالح. وفي نهاية الستينيات كانت هي التي تسعي مصطحبة أخي علي إلي الأطباء، كنت حريصا إلا أسبب لها خشية، لذلك لم ألب قط دعوات صحبي إلي لعب الكرة في الساحة الفسيحة نسبيا بجوار المدرسة، أو ركوب العجل بالايجار، وحتي الآن لا أتقن امتطاءه ولا أهوي الكرة، كنت أسرع إلي البيت، وأحكي لها عن أمور لم تقع في المدرسة محورها معارك بين مدرستنا ومدارس أخري، وانفاق مكتشفة تحت الأرض، تصغي أثناء غسلها الثياب في الطشت، أو قليها الباذانجان والبطاطس في الزيت المغلي فوق نار الموقد.
في الإجازة الصيفية الأولي نزلت الحارة للعب، أجتزت الفرن، مسافة قصيرة لكنها فاصلة، إذ تعني خروجي من دائرة الرؤية المباشرة للأهل، عبور الناصية أمام الفرن يعني التواري، الابتعاد عن بصر أمي أو أبي إذا ما أطل احدهما من النافذة، كثيرا ما ارتفع صوت أحدهما داعيا لي إلي الطلوع، حان وقت الغداء، يكفي اللعب، مع عبور هذه المسافة القصيرة جدا. مقدارها خطوات ثلاث بدأ خروجي إلي الدنيا بمفردي، دنوت من المفارق..
ناصية
بلوغ المفارق يعني الحيرة، إذا كنت تعرف لزم الحال واستقر الأمر، إذا كنت جاهلا بالقصد تنشأ الحيرة، هنا يلزم الاستفسار ممن يُلم بالطرق ومساراتها، حتي الآن لا أبلغ مفرقا أجهله إلا وتعتادني الخشية الأولي الحيرة عينها والتوجس من المجهول. هذا ما صار عندي وقت بلوغي مدخل الدرب، أبطأت الخطي، إلي يميني مسجد سيدي مرزوق، إلي يساري كان عبدالحميد المبيض، دائما أمامه كومة من الجير الحي، يصب عليه الماء فيلتهب مرسلا الدخان الكثيف للحظات ثم يهدأ، يصير مطواعا، إبنه زميلي في المدرسة. لم يكمل، ارتدي الجلباب وساق العربة التي يجرها حمار »مسن« حل مكان أبيه الذي مرض فجأة ولزم، بان الكبر بسرعة علي الابن، عندما بلغت الأربعين كان يبدو نحيفاً، مقدد الجلد، كأنه منقوع في الجير، لسنوات أصافحه وأسأله عن الأحوال فيحمد الله كثيرا، فيما تلا ذلك صار يحملق إليّ مقطب وبعد لحظات ربما يتذكرني أو يستمر في صمته، حتي ركن إلي ذهوله وسرحته بعيدا عني رغم إشارتي إليه أو وقوفي مصافحا، لم أقدر علي تجاهله، ذلك أنه مَعْلم مني، من حميمي، يمت إلي الموضع الأثير، كل ناصية ركن لأنها بداية ونهاية، نهاية طريق ومفتتح آخر، لكم رقرقني بلوغ المفارق وحيرني وأحيانا أثار مخاوفي، غير أن تلك تبعث عندي الهفوف وتؤكد الاستحالة، هذا الموضع رصيد ومأوي ومنطلق، رصيد يحوي ما تبقي مني وعندي، ومأوي من الكدورات التي تجتاحني أحيانا وتهددني بالانقطاع عما كان مني، امتدادها مواز لسريان شرايين قلبي، فقط.. المسجد العتيق والمدخل المحصور بينه وبين مبني من طابق واحد، في مواجهته مبيض النحاس، موقف بائع الفول. منها ينبعث صوت الشيخ محمد رفعت، إن في تلاوته القرآن، أو رفعه الأذان قبل الغروب الرمضاني، ما من عنصر، أو شئ يقربني من مدي أكاد أبصر فيه مسري الوقت الذي لا يتوقف عن الرحيل مثل الشيخ محمد رفعت، صوته الرخيم، الهميس، يكفيني ما تبقي منه، قال والدي يوما إن ما نسمعه مجرد اشارة إلي معجزة تجسدت في حضوره بسبب رداءة التسجيلات، غير انني أؤكد كفايتي بما وصلني منه، ما يخص الناصية منه غزير، بعد انطلاق المدفع نصيح مهللين، سرعان ما نتفرق عائدين إلي بيوت الأهل لتناول الإفطار. من خلالها أصغي إلي أم كلثوم. عند اجتيازها في السابعة والنصف أو حول ذلك.
»يا صباح الخير يالي معانا..«
»الورد جميل..«
أما ليلي مراد فمنها البهجة، وإشراقة التفتح والحض علي السعي، وبث الحيوية تجاه المحبوب، لعقبة لا يمكنني تحديد بدايتها أو تعيينها ظلت سعاد هي المحور ومصدر الهبوب، حتي الآن- لا اعرف إذا كانت ماتزال ساعية أو أنها اختتمت دائرتها الخاصة، في مرحلة معينة بدأت تنتبه، تخصني بالنظر عند تقاطع مساراتنا في الطريق فأولي البصر بعيدا، في صباح باكر كنت خارجا من الدرب عندما فوجئت بها آتية، أين ذهبت في هذا التوقيت المبكر، من أين تعود؟، كأن الأمر جري ليحدث هذا الانفراد الذي لم يستغرق إلا تقاطعنا، محاذاة كل منا للآخر، تطلعها الجسور صوبي، خطوها المصمم، نظرتها المتجهة تماما صوبي غير أنني لم أنطق، بل ليدركني الخجل بعد حوالي خمسة وخمسين عاما الآن إذ أقول إنني حدت ببصري بعيدا، كأني خشيت الوصل حتي بالكلمة، فمن أي طبيعة جبلت، وكيف أرحل بدون أن أعرف نفسي، أن أستوعب دوافعي؟.. أهو الخجل المقيم الذي جبلت عليه؟، ربما، غير أنني لا يمكن أن أقطع، ننز الناصية بأشواقي الهائمة، وتطلعاتي إلي من لم يتصل به الود، منها كان خروجي إلي العالم الفسيح، كان بلوغ ميدان الحسين أول سعيي يفوق وصولي الآن منفردا إلي أشد مناطق العالم نأيا وبعدا سحيقا في الأمازون أو أحدي القطبين؟، منها خرجت صباح الرابع من أكتوبر محاطا بالحراس المسلحين، أمام مسجد سيدي مرزوق عربة ملاكي رمادية قديمة الطراز، جلس الضابط المرتدي ملابس مدنية في المقعد الأمامي بجوار السائق، دفع بي المخبران إلي المنتصف، أحاطاي من يمين وشمال، وكان الخاطر عندي: هل سأري الناصية وما اعتدته مرة أخري؟
هذه الناصية منتهي ومنطلق ومرتقب، فوق جدار المسجد لافتة تحمل اسم الشارع، زرقاء والحروف بيضاء، كتبها أحمد هواويني الخطاط الشهير في بداية القرن، منحه الملك فؤاد رتبة الباكوية، خطه الجميل وحّد المدينة وأضفي عليها خصوصية، عندما جئت بصحبة نجيب محفوظ في السادسة صباحا وقف متأملا، تطلع إليها، كانت معلقة بمسمار واحد، في تلك الأيام اختفت لافتات، سرقت »زقاق المدق« وظهر بعضها في معارض التحف العتيقة، لو مددت يدي لحصلت عليها، لأقتنيتها، لنقلت الشارع الذي خضته طفلا إلي دار إقامتي، غير أنني أحجمت فلم اعتد مد اليد إلي ما يخص آخرين، أعرفهم أو أجهلهم.
ثلاثة مفارق، الأول يصعد يسارا إلي مدرسة عبدالرحمن كتخدا، الثاني يمضي يسارا إلي مدرسة جمال الدين الإستادار ليتصل بشارع الجمالية حتي باب النصر المؤدي إلي المقابر وحارة الحسينية ثم الخلاء، الثالث يستمر إلي حارة الوطاويط، ويمكن من خلاله الوصول إلي ميدان بيت القاضي وخان الخليلي، هذا الجزء اسمه شارع بيت المال، أما امتداده فمما حيرني، شارع حبس الرحبة، كثيرا ما تساءلت، كيف رحبة وكيف حبسها؟ مع بدء اهتمامي بما وراء ما نشاهده ونعانيه رحت أفسر، في البداية قلت بوجود سجن، غير أنني لم أعثر علي أي ذكر له في المراجع المتاحة ومنها خطط المقريزي الذي خصص فصلا للسجون، مواقعها وأوصافها وبعض مما جري فيها، وجدت تفسيرا آخر، إذ اقتنعت أنه يعني نهاية رحبة العيد، المتصلة بالقصر الشرقي الكبير في الزمن الفاطمي، لم يتبق إلا اسمها مكتوبا علي لافتة زرقاء معلقة إلي ممر قصير جدا يصل سكة التمبكشية بشارع المعز، حبس الرحبة يعني نهايتها، حدها، هكذا استوعبت وفسرت.
من ديوان الشعر العربي
إن الزَّمان الذي مازال يضحكنا
أنس بقربكم قد عاد يبكينا
ابن زيدون


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.