التاريخ والسينما جدل قديم سال له ومازال الكثير من المداد علي الورق بالكثير من الآراء والعديد من وجهات النظر, لكن الجانب الذي لم يتطرق إليه الكثيرون هو قدرة المنتصرين علي إعادة كتابة التاريخ من وجهة نظرهم الخاصة وأخفاء الكثير من الحقائق التي تخص الطرف الآخر.فكل من يعرف ما قدمته السينما الأمريكية في العديد من الأفلام بعد الحرب العالمية الثانية عن جنود النازي واليابانيين ووحشيتهم( وهو أمر قد يكون صحيحا في بعض جوانبه) يعرف أيضا أن السينما الأمريكية لم تقدم الكثير من الأفلام عما أرتكبه الجيش الأمريكي( أو جيوش الحلفاء بشكل عام) من وحشية خلال فترة الحرب, فلم تقدم السينما الأمريكية الكثير من الأفلام عن قصف مدينة دوسلدورف الألمانية قصفا متواصلا لمدة خمسة أيام صباحاومساء من قبل الطائرات الأمريكية لتهدم المدينة علي من فيها( لدرجة أن شهود العيان يذكرون أن مياه النهر كانت تغلي من حرارة القنابل). جاء القصف الأمريكي بدون مبرر فقد كانت الحرب علي وشك الانتهاء وكان الألمان محاصرين ولم يكن بمدينة دوسلدورف الألمانية أي وحدات عسكرية, فلقد كانت المدينة مركزا صناعيا بعيدا عن خواطر الحرب, ولعل هذا هو السبب الأساسي للقصف الجوي؟؟؟ فلقد سعي الأمريكيون الي تحطيم قاعدة الصناعة الألمانية المتمثلة في مدن المانيا الصناعية للقضاء علي التفوق والتقدم الصناعي الألماني الذي أدرك الأمريكيون أن خسارتها في الحرب أمر وشيك وأرادوا تحطيم صناعتها وتقدمها, فلم يكتفوا بنهايتها العسكرية. كذلك الحال مع غزو برلين الذي شهد حالات اغتصاب متعددة للسيدات الألمان من قبل جنود الحلفاء( وبالتحديد من قبل الجنود السوفيت) ولكن لم تذكر تلك الوقائع إلا من خلال أفلام المانية, وفي وقت متأخر بعد توحيد الألمانيتين وسقوط الاتحاد السوفيتي بل أن جريمة كل الحروب المتمثلة في إلقاء القنبلة النووية علي مدينتي هيروشيما ونجازاكي لم تقدمها السينما الأمريكية بشكل موضوعي في أي من افلامها والتي تذخر بصور وحشية الجنود اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية. لاتنحصر إعادة كتابة التاريخ في السينما بشكل متحيز علي المنتصرين عسكريا, بل هي خاصية ملازمة للأقوياء, ونقصد هنا الأقوياء اقتصاديا وسينمائيا, فلقد شهدت فيلما تسجيليا عن ذكريات الاحتلال الفرنسي لفيتنام حيث يذكر جندي سابق بالجيش الفرنسي أنه بعد هزيمة فرنسا تم أسرهم من قبل الجيش الفيتنامي وقيادتهم في الشارع أمام الشعب الفيتنامي في استعراض وصفة بالمجزرة حيث بصق الجمهور الفيتنامي عليهم وألقوا عليهم بالقاذورات...لكنه لم يتذكر الفظائع التي إرتكبها الفرنسيون في فيتنام والتي أقل مايمكن أن توصف به هو لفظ جرائم ضد الإنسانية. لعل الدور الذي لعبته السينما الأمريكية( سينما المهزوم) في تقديم الشعب الفيتنامي( المنتصر) في صورة وحوش كاسرة والجنود الأمريكيين في صورة الضحايا لخير دليل علي الدور التي تلعبه السينما في تزوير حقائق التاريخ, بل إن أفلاما جيدة ومعادية لفكرة الحرب( نهاية العالم الآن صائد الغزلان) لم تخل من هذا الموقف من الفيتناميين. وهناك قصة شهيرة تحكي عن القائد السوفيتي السابق خير وتشوف عندما كان يضع أكليلا من الزهور علي قبر الجندي المجهول في بولندا تقدمت منه امرأة بولندية من أصل الماني صارخة في وجهه بعصبية لأن الجنود السوفيت قتلوا ابنها داخل دبابته بصاروخ عندما كانت القوات الألمانية في ستالينجراد, فكان رد خير وتشوف عليها وماذا كان يفعل ابنك بدبابته علي أرض وطننا؟ بالطبع لم يكن في نزهة,هذا هو المنطق( منطق الأم) الذي تستخدمه سينما هوليوود في الكثير من الأمور عند تناول التاريخ العدواني للولايات المتحدةالأمريكية أو عند تناول تاريخ الخصوم, ولعل الصور المشوهة لزعماء الثورة في أمريكا اللاتينية( من بانشوفيلا وزاباتا وحتي تشي جيفارا وفيدل كاسترو) لخير دليل علي دور هوليوود في تزييف التاريخ. علي العكس من هذا فأنه عندما يحاول البعض بعث صورة حقيقية لما حدث في أرض الواقع حتي لو كان شخصا من نفس المعسكر( نفس البلدان المنتصرة والقوية) فإن أفلامه تلقي الكثير من النقد وقد يصل الأمر إلي حد مقاطعتها بل ومنعها, هذا ماحدث مع الكثير من الأفلام الفرنسية التي كانت تناقش الدور القذر للعسكريين في الحروب الاستعمارية وبالذات في الجزائر, ولقد ظننا أن تلك الحقبة قد انتهت بلا رجعة من علي خريطة العالم المتقدم ولكن هاهي تطل برأسها علينا من جديد من خلال مهرجان كان السينمائي. فمع فيلم رشيد بوشاريب( الخارجون علي القانون) المعروض في المسابقة الرسمية لمهرجان كان عن فترة بداية النضال من أجل التحرير الذي بدأ علي الأراضي الفرنسية من قبل الجزائريين بدأت عودة الاعتراضات الغوغائية علي رسالة الفيلم السياسية من قبل اليمين المتطرف في صورة تهديدات ومظاهرات وتحولت كان الي ثكنة عسكرية, ولم يكن العالم الغربي قد شهد مثل تلك الاعتراضات علي فيلم سينمائي منذ المظاهرات أبان فيلم سيكورسيزي الشهير الإغواء الأخير للمسيح1990 والتي تضمنت العديد من التفجيرات المحدودة. رشيد بوشاريب هو المخرج الفرنسي من أصل جزائري الذي سبق له أن قدم من خلال مهرجان كان وعبر فيلمه( السكان الأصليون) رؤيته علي الدور الذي لعبه العرب في تحرير فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية من الاحتلال الألماني وهو الدور الذي تم التعتيم عليه في كل أفلام السينما الفرنسية عن المقاومة والنضال من أجل التحرير, وهاهو يفتح باب الحرب الفرنسية الجزائرية ولكن من الواضح أنه مازال هناك من يظنون أنهم من الممكن أن تغلق أبواب الحقيقة كما كان في السابق. ولكن ان كان مازال هناك البعض من هذا التيار المساند لفكرة كتابة التاريخ في السينما من قبل المعتدين من أهل الشمال ومعاقبة الكثيرين من الشجعان الذين يضعون حرية التعبير وحرية السينما كهدف أساسي أمام أعينهم لعل مهرجان كان وإدارته خير تجسيد حي لهذا التيار, حيث لم ترهبهم صيحات التطرف القومي ولا المخاوف من الترهيب والإرهاب وعرضوا الفيلم. لعلنا نري تيارا قويا مماثلا لهذا في قلب الثقافة والفن العربي الذي مازال يعاني من دعاوي الترهيب والقمع في الكثير من البلدان. [email protected]