ذات يوم كنت أحضر فيلما تسجيليا, كانت قدم فيه شخصية نسائية تدعي أنها الابنة غير الشرعية للفنان الراحل نجيب الريحاني. ظلت تلك الشخصية تتحدث طوال الفيلم عن ذكريات والدتها مع الفنان الراحل نجيب الريحاني وكيف كان يأتي لزيارتهم في أوروبا وغيرها من التفاصيل. كنت أشاهد الفيلم في مكان به عامل لصيانته و حراسته للمقر جذبه الفيلم فأخذ يشاهده معنا للنهاية, ثم جاء وقت النقاش و أخذت الآراء تتصارع و الأصوات تعلو, فانسحبت في هدوء ليلقاني العامل, في الخارج و يقول لي في حكمة البسطاء ' أكيد يا أستاذ دي مش بنته' فنظرت له بدهشة فاستطرد ردا علي نظراتي تلك قائلا ( اللي يخلي واحدة ست زي دي تدفع فلوس و تعمل فيلما تقول فيه أنها بنت نجيب الريحاني أكيد لأنها مقدرتش تثبت قدام المحكمة أنه أبوها' خرجت ضاحكا علي بساطة وسذاجة هذا العامل البسيط الذي تصور أن السيدة في الفيلم هي من صنع هذا الفيلم لتدعي ما ليس فيها و ربما لتطالب بما لا يحق لها. و لكني أثناء عودتي للمنزل تذكرت كلمات هذا الشخص البسيط و وجدت فيها تلخيص وافيا شافيا لتقييم تلك النوعية من السينما التسجيلية التي تدعي أنها تنقل الحقيقة أو تقدم الواقع ولكنها في حقيقة الأمر تقدم حقيقة مزيفة وواقعا منقوصا. فقد ظن هذا الشخص البسيط أن الفيلم الذي رآه هو فيلم مدفوع الثمن قامت السيدة التي تظهر فيه بإنتاجه لتروج لوجهة نظرها و ليس فيلما من صنع مخرج الفيلم.... لماذا ؟ لأنه لم يري في الفيلم سوي وجهة نظر السيدة المدعية عبر سردها لقصة بنوتها لنجيب الريحاني وقد ترك المخرج و جهة نظرها تسود و تسيطر ولم يقم بدوره بأي محاولة للبحث و التحقيق في الوقائع التاريخية التي تذكرها و التحقق منها أو القيام بعرض كافة وجهات النظر المؤيدة و المعارضة... فجاء الفيلم و كأن السيدة هي من صنعت الفيلم و ليس المخرج. بالطبع هذا ليس متعمدا, و لكن النواقص التي صاحبت صناعة الفيلم و منهج بحثه للقضية المطروحة أدي إلي تلك النتيجة, التي لخصها هذا العامل البسيط في تصوره أن الفيلم صنعته السيدة بنقودها( أو بنفسها) وليس المخرج. هذا العيب القاتل والخطير الذي يسيطر علي السينما التسجيلية المصرية هو ما يجعلها سينما قاصرة وغير معبرة عن الواقع, بل قد تكون مزيفة له. شعرت بنفس القصور عند مشاهدتي لفيلم المخرجة اللامعة تهاني راشد الأخير' جيران', وهي صاحبة فيلم' البنات دول' والذي عرض في مهرجان كان السينمائي و قد كانت لي عليه نفس الملاحظات. ففي فيلمها السابق' البنات دول' قدمت المخرجة نموذج لأطفال الشوارع( من البنات), أو بالأحري تعرضت للبنات اللاتي يقطن الشوارع في مصر( حتي لو كن في سن المراهقة), وبالرغم من جراءة الموضوع وبغض النظر علي الصيحات الأخلاقية التي صاحبت ظهور الفيلم وعرضه في مهرجان كان السينمائي, من فريق( سمعة مصر) صاحب السيمفونية المعروفة التي نسمعها كل مرة مع كل من يحاول إظهار الواقع الخفي لمصر في الفترة الحالية, ونتائج الاضطراب الاجتماعي الحادث فيه إلا أني كانت لدي نظرة نقدية لتلك النوعية من السينما التسجيلية. فتهاني راشد تذهب للواقع المراد تصويره مصطحبة كاميرا التصوير, منظمة لقاءات( معظمها تقريبا) مع من يقطنون الحيز الجغرافي الذي تصور فيه( المكان) وتترك لهم حرية أن يتحدثوا عن نفسهم وحياتهم دون أدني تدخل منها, ظنا منها أنها بذلك تقدم الحقيقة بشكل محايد دون أي تدخل يوجه الأحداث في اتجاه وجهة نظرها. المشكلة أن البنات اللاتي ظهرن في الفيلم جئن بصورة سلبية, مجسدين الفكر المسبق لدي المتفرج الذي يري أن ما وصلن إليه هو نتيجة لأخطائن التي ارتكبن, بل أن هناك البعض ظن أن ما يشاهدونه من ويلات هو عقاب إلهي عما اقترفن من ذنوب الحمل سفاحا المخدرات... الخ). ولماذا يتولد هذا الإحساس لدي المشاهد, لأن السيدة تهاني لم تهتم بالموضوع كظاهرة بل اهتمت بمظاهر تلك الظاهرة المتمثلة في البنات اللاتي قامت بتصويرهن. فهي لم تقم بأي بحث خارج عين الكاميرا عن وضع الأسر التي تهرب بناتها للشارع, و هل يكفي الفقر فقط لهروب الأبناء؟ بل أن اختيارها للبنات فقط كعنصر من تلك الظاهرة( بالرغم من أن الفيلم يشير إلي أن الجنسين يقطنان الشارع) بدا و كأن الاختيار من البداية كان لإدانة بنات الشوارع( وهذا بالطبع ما لا تقصده). التصور بأن ترك الكاميرا تلتقط ما يحدث أمامها دون تدخل يذكر, أو ترك أصحاب الواقع الاجتماعي المراد دراسته يتكلمون أمام الكاميرا دون توجيهم هو نقل الواقع بحيادية( و هو أسلوب مشابه لتيار السينما المباشرة التي كان عميدها التسجيلي الفرنسي الشهير جان روش) هو ضرب من الخيال. لأن المخرجة هي من تختار الواقع المحدد( صورت بنات الشوارع في المهندسين مثلا ولم تصورهم في السيدة زينب) وقد تكون بنات الشوارع في هذا المكان المعين لا يمتهن مهنة مثلا وفي المكان الآخر يعملن في جمع القمامة, وبالتالي تلقي الضوء علي الاستغلال الاقتصادي الذي يعاني منه فصيل منهن.... لا يظهر ولا يوضح كل هذا عندما لا تتناول الموضوع كظاهرة. كما أنها تقوم بمونتاج الفيلم و تحديد حجم اللقطات واختيار زوايا التصوير وكل تلك عوامل تدخل منها في مسار العمل والذي لا يجعل منه عملا محايدا بأي شكل من الأشكال. جاء تقديم بنات الشوارع في فيلم' البنات دول' و كأننا نري فيلما عن البقر الذي يعيش في شوارع الهند ويمشي في الطرقات دون أن يتعرض له أحد, أو القرود التي تعيش بين البشر في العديد من ولايات الهند, دون أن نعلم مدي قدسية تلك الحيوانات في الديانات الهندية( أو لا نعرف بشكل كاف) فجاء الأمر و كأننا أمام كائنات غريبة نتعاطف معها... نكرهها ولكن الأمر يقتصر علي من نشاهدهم أمامنا علي الشاشة دون أن نعرف الكثير عن الظاهرة في مصر و أسبابها وما تفعله الجمعيات الأهلية لمساعدة تلك البنات, فقط نستمتع بالاستعراض التي تقدمه لنا المخرجة و غرابته. في فيلمها جيران قامت بنفس الشيء ولكن النتيجة كانت أكثر وقعا علي المشاهد. فهي حضرت اجتماعا عقده السفير الأمريكي لجيرانه في حي جاردن سيتي الذي تغلقه تقريبا الاستحكامات الأمنية, قامت بتصويره, و جاءت لها فكرة صنع فيلم عن هذا الحي ومن يقطنونه والذين يعتبرون وفقا لعنوان الفيلم' جيران' وقامت السيدة تهاني بإجراء لقاءات مع من يقطنون هذا الحي( أو كانوا يقطنونه) من سكان قصور وبدرومات وتركت لكل فرد يسرد حكاياته كما يشاء دون أن تتدخل في سرد كل منهم للتاريخ من وجهة نظره) التي يحق له أن يعبر عنها كما يشاء), وبالطبع بما أن معظم السكان في السابق كانوا من نخبة ما قبل الثورة من الأثرياء جاءت وجهة نظرهم معادية للثورة و عبد الناصر و هو ما أثار حفيظة الكثيرين, بالرغم من ظهور شخصيات أشادت بالثورة وبعبد الناصر. لكن المشكلة أن المخرجة استمرت في منهجها السابق فلم تقم بأي بحث تاريخي جاد سواء عم يقال من الضيوف, أو عن التغيرات الفعلية التي شهدها الحي منذ أن أنشأوه في عهد الخديو إسماعيل كما يذكر في الفيلم. فنحن لا نعرف شيئا عن الحي إلا عبر شهادات من يظهرون في الفيلم, وبالطبع هذا ليس كافي لا معبر عما يحدث وعما حدث, فمن كان يسكن قصور جاردن سيتي وقت أنشاؤه في عهد الخديوي إسماعيل ؟ لا نعرف. من قطنه بعد أن جاءت الثورة و(صادرت القصور)؟ كيف ظهرت الطبقة المتوسطة الجديدة في الحي( محمود أمين العالم وعلاء الأسواني النموذجان الذان يقدمهما الفيلم) هل هم من أنصار الثورة أم من الطبقة الجديدة التي سادت المجتمع في ذلك الوقت ؟ البنوك التي احتلت الحي في السبعينيات هل هي نتاج لقرار الحكومة أم لبيع تلك القصور من قبل أصحابها من بعد عودتها إليهم؟ و حتي عندما ذكرت الفندق الضخم الذي أتم تشيده مكان قصر فخم تم هدمه( أظهر الفيلم صور القصر) لم تحدثنا عن القصر ولا عن نمطه المعماري, والأخطر أنها لم تذكر لنا أي شيء عن المخالفات و آليات الفساد التي سمحت بهدم القصر وبناء الفندق علي أرضه بالرغم من وجود قانون يمنع هذا, وقد سجن محافظ الجيزة السابق لمخالفته لهذا القانون. كما أن ظهور عادل السيوي الفنان التشكيلي الشهير ليحدثنا عن ذكرياته في المدرسة الوحيدة الحكومية الموجودة في الحي( الإبراهيمية) لم تبذل المخرجة أي مجهود بحثي حول ما إذا كان مبني هذه المدرسة هو مبني لمدرسة منذ وجوده أم هو قصر من القصور تحول لمدرسة( ومن بناه ومن تبرع بالأرض, أو هو قصر من السابقين سينما تهاني راشد بالرغم من جديتها الشديدة ومحاولتها سبر أغوار موضوعات لم يتطرق إليها الكثيرون ألا أنها تنهج منهجا تظنه هو قمة الحياد في نقل الواقع, لكنه يؤدي في الحقيقة إلي إخفاء الكثير من عنصر الواقع( حتي لو بشكل غير متعمد الواقع أو الحقيقة لا يظهر فقط أمام الكاميرا بل يجب البحث عنه بالتحقيق و الدراسة, فليست الحقيقة هي ما تنقله الكاميرا فقط. وليس الواقع هو صورا من الواقع. [email protected]