كدت أقول هي إحدي وثلاثون رسالة في إحدي وثلاثين قارورة ألقاها صاحبنا في البحر... لولا أن صاحبنا كاتب وليس بحارا... متاهته شبكة الانترنت وقواريره رسائل إلكترونية يستنفذ فيها هذيان أصابعه كلما افتقد ملمس حبيبته... وبين الرسالة والأخري يكتب فصلا من روايته أو يشاهد فيلما أو يطالع كتابا أو يتوقف عند سؤال من اسئلة الكتابة والوجود أو يمشي علي إحدي جمرات هموم الحياة وأحلامها... باثا كل ذلك في إيميلاته محاولا تدعيم بنيان الحب بعد أن كاشفته حبيبته بأنه يغوي بالكتابة... تلك هي حيلة الغواية في كتاب الغواية, أحدث أعمال عزت القمحاوي بعد حدث في بلاد التراب والطين ومدينة اللذة ومواقيت البهجة والأيك في المباهج والأحزان و غرفة تري النيل و الحارس... وهي أعمال تراوحت بين القصة والرواية وأدب الترسل, اضافة إلي النصوص الابداعية, التي أقنعت بعمقها وطاقتها السردية وطرافتها الاسلوبية, علي الرغم من استعصائها علي التجنيس. في هذا الكتاب يواصل عزت القمحاوي إغواء قارئه بالمعني العميق والعميق والجميل للكلمة... حيث لا مناص من الوقوع في شراك هذه النصوص الآسرة منذ الصفحات الأولي... منذ الاصغاء إلي موسيقي الكلمات وهي تتناغم بشكل مختلف أمام المألوف... لتحيي فينا ملكة الدهشة وحاسة الاكتشاف. كأننا ننتبه لأول مرة, مثلا إلي حزننا وإلي قدرتنا علي مصارعة الحزن ببساطة, بقهوة تنضج علي مهل أو بصوت فيروز وعفاف راضي, كأنه يقول لنا حين يقول الأولي تخلصني خفتها من الثقل الأرضي, والثانية تعيد توطيني علي الأرض مسرورا بعد الطيران...( ص143) كأننا ننتبه لأول مرة, معه, إلي حقنا في اللعب, ذلك الحق المغيب بفعل الذين حولوا بصلابتهم في الباطل حق التعبير إلي مسخرة, والنقد إلي نوع من اللذة الذاتية المؤلمة التي لا تخلف وراءها سوي الإحساس بالوحدة والخواء...(ص119) كأننا ننتبه لأول مرة إلي مكر الحب والموت والشيخوخة والأحلام... إلي خصوبة اسئلة الحرمان والفقدان والغياب... إلي تفاصيل أفلام شاهدناها وكتب قرأناها فإذا هي تفاجئنا بعطاياها علي حين غرة... وإذا نحن نري للقراءة صلة باقتفاء الأثر... أثر القارئ السابق... أثر انكسار الورقة الذي يحدد أماكن توقفه عن القراءة واستئنافه لها...( ص7) وإذا نحن نقرأ كافكا وكونديرا وماركيز وبيسوا وغيرهم بعيون مختلفة, شبيهة بعيني كيليطو, مثلا, الذي يقرأ الكتب بينما يداهمها الآخرون... والذي قد تكون إحدي ميزاته ملامسات حنون للنصوص لا يعود منها بأسلاب يضعها أمام القارئ, بل يرسم له خريطة الكنز ويحفزه للذهاب بنفسه إلي هناك...( ص17). رحلة ممتعة في أغوار إنسان وفي أعماق كاتب يواجه هشاشته بالكتابة وفيها, لأنه لا يملك غيرها كي يواجه الحياة وكي يرحل في أغوار العالم من حوله... كل ذلك دون أن يجعلنا ننتبه لحظة إلي اننا نقرأ نصا مخاتلا... وعملا مغامرا فيه من أدب الرسائل حضور المرس واخمار المرس إلليه لكن اللعبة السردية تتمرد علي هذا الحيز المخصوص... وفيه من القصة القصيرة سرديتها وكثافتها, لكن انتظام النصوص في وحدة شاملة واستنادها إلي شخصيتين أساسيتين تقترب به من الرواية... وفيه من الرواية الكثير لكن شعرية بعض الصفحات, تقترب به من قصيدة النثر... وهو في آخر الأمر هذا كله أو ما شاء له قارئه أن يكون... شأنه في ذلك شأن الأعمال الابداعية الجميلة التي تتسع بها حدود الابداع وتزداد أرضه رحابة وسماؤه ارتفاعا. كتاب الغواية( دار العين للنشر173.2009 ص) واحد من أجمل الكتب التي أتيح لي الاطلاع عليها في المدة الأخيرة. وهو من الكتب التي أنصح الجميع بالانقضاض عليها ما أن يفتح معرض تونس للكتاب أبوابة في الأيام القادمة. ولعلها فرصة للاطلاع علي سائر أعمال الكاتب عزت القمحاوي... فهو من تلك الطينة النادرة من الكتاب البحارة المغامرين فعلا... الذين يسيرون علي حافة الهاوية بعيدا عن مساحات الطمأنينة والثوابت الأدبية... وهل الكاتب سوي دود علي عود؟ وهل الكتابة إلا بحر داخله مفقود والخارج منه غير مولود؟