بالصور.. كنيسة رؤساء الملائكة تحتفل بأحد الشعانين    نشرة «المصري اليوم» الصباحية.. أسرة محمد صلاح ترفض التدخل لحل أزمته مع حسام حسن    اعتقال عشرات المؤيدين لفلسطين في عدد من الجامعات الأمريكية    الزمالك يسعى لخطف بطاقة التأهل أمام دريمز بالكونفيدرالية    عاجل.. مدحت شلبي يفجر مفاجأة عن انتقال صلاح لهذا الفريق    الفرح تحول لجنازة.. تشييع جثامين عروسين ومصور في قنا    حالة الطقس اليوم الأحد ودرجات الحرارة    الأزهر: دخول المواقع الإلكترونية المعنية بصناعة الجريمة مُحرَّم شرعاً    البنوك المصرية تستأنف عملها بعد انتهاء إجازة عيد تحرير سيناء.. وهذه مواعيدها    عيار 21 بكام.. انخفاض سعر الذهب الأحد 28 أبريل 2024    الأهرام: أولويات رئيسية تحكم مواقف وتحركات مصر بشأن حرب غزة    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأحد 28 أبريل    بطلوا تريندات وهمية.. مها الصغير ترد على شائعات انفصالها عن أحمد السقا    لا بديل آخر.. الصحة تبرر إنفاق 35 مليار جنيه على مشروع التأمين الصحي بالمرحلة الأولى    كينيا: مصرع 76 شخصًا وتشريد 17 ألف أسرة بسبب الفيضانات    محاكمة المتهمين بقضية «طالبة العريش».. اليوم    موعد مباراة إنتر ميلان وتورينو اليوم في الدوري الإيطالي والقناة الناقلة    تصفح هذه المواقع آثم.. أول تعليق من الأزهر على جريمة الDark Web    الأطباء تبحث مع منظمة الصحة العالمية مشاركة القطاع الخاص في التأمين الصحي    سيد رجب: بدأت حياتى الفنية من مسرح الشارع.. ولا أحب لقب نجم    السكك الحديد تعلن عن رحلة اليوم الواحد لقضاء شم النسيم بالإسكندرية    لتضامنهم مع غزة.. اعتقال 69 محتجاً داخل جامعة أريزونا بأمريكا    زلزال بقوة 6.1 درجة يضرب جزيرة جاوة الإندونيسية    التصريح بدفن جثة شاب صدمه قطار أثناء عبوره المزلقان بقليوب    ماكرون يعتبر الأسلحة النووية الفرنسية ضمان لبناء العلاقات مع روسيا    أتلتيكو مدريد يفوز على أتلتيك بلباو 3-1 في الدوري الإسباني    اشتباكات بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي غرب رام الله    تسليم أوراق امتحانات الثانوية والقراءات بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    فضل الصلاة على النبي.. أفضل الصيغ لها    غدا.. محاكمة عاطل متهم بإنهاء حياة عامل في الحوامدية    عضو اتحاد الصناعات يطالب بخفض أسعار السيارات بعد تراجع الدولار    حسام البدري: أنا أفضل من كولر وموسيماني.. ولم أحصل على فرصتي مع منتخب مصر    بالأسماء.. مصرع 5 أشخاص وإصابة 8 في حادث تصادم بالدقهلية    هيئة كبار العلماء السعودية تحذر الحجاج من ارتكاب هذا الفعل: فاعله مذنب (تفاصيل)    بعد التراجع الأخير.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 28 أبريل 2024 بالأسواق    هل مرض الكبد وراثي؟.. اتخذ الاحتياطات اللازمة    حسام غالي: كوبر كان يقول لنا "الأهلي يفوز بالحكام ولو دربت ضدكم (هقطعكم)"    إصابة 8 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ربع نقل بالمنيا    نصف تتويج.. عودة باريس بالتعادل لا تكفي لحسم اللقب ولكن    اليوم، أولى جلسات دعوى إلغاء ترخيص مدرسة ران الألمانية بسبب تدريس المثلية الجنسية    عمرو أديب: مصر تستفيد من وجود اللاجئين الأجانب على أرضها    غادة إبراهيم بعد توقفها 7 سنوات عن العمل: «عايشة من خير والدي» (خاص)    نيكول سابا تحيي حفلا غنائيا بنادي وادي دجلة بهذا الموعد    الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري للبيع والشراء اليوم الأحد 28 إبريل 2024 (آخر تحديث)    تحولات الطاقة: نحو مستقبل أكثر استدامة وفاعلية    متحدث الكنيسة: الصلاة في أسبوع الآلام لها خصوصية شديدة ونتخلى عن أمور دنيوية    ما حكم سجود التلاوة في أوقات النهي؟.. دار الإفتاء تجيب    الأردن تصدر طوابعًا عن أحداث محاكمة وصلب السيد المسيح    تشيلسي يفرض التعادل على أستون فيلا في البريميرليج    هل يمكن لجسمك أن يقول «لا مزيد من الحديد»؟    23 أكتوبر.. انطلاق مهرجان مالمو الدولي للعود والأغنية العربية    دهاء أنور السادات واستراتيجية التعالي.. ماذا قال عنه كيسنجر؟    السيسي لا يرحم الموتى ولا الأحياء..مشروع قانون الجبانات الجديد استنزاف ونهب للمصريين    أناقة وجمال.. إيمان عز الدين تخطف قلوب متابعيها    ما هي أبرز علامات وأعراض ضربة الشمس؟    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من الإصابة بهذا المرض    " يكلموني" لرامي جمال تتخطى النصف مليون مشاهدة    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة قصيرة: وجوه في قلب العتمة
نشر في الأهرام المسائي يوم 21 - 03 - 2013

أدار عبدالوهاب رأسه لما سمع همسا في حجرته التفت فرأي وجهها نادي في الظلمات: سعدية أعطته نظرة ودود دون كلمة اتكأ علي مرفقه الأيسر النحيل, وقعد في سريره هبطت الملاءة الوردية القديمة من أعلي صدره المضطرب إلي خصره الضامر
فرك عينيه العسليتين الغائرتين ربما راح النظر كما راحت ذكريات كثيرة وظلت أشياء قليلة من الطفولة والشباب‏!‏ قال هذا لنفسه حين حدق في الزاوية الأخري تأكد من وجودها ارتج في مكانه انزلق من فوق السرير حتي ثبتت قدماه المرتعشتان بأرض الحجرة اتجه إلي الباب الموارب وضع اصابعه علي مفتاح النور وضغطه لأسفل نظر للخلف في الركن الذي ظهرت فيه سعدية منذ قليل رأي الكليم‏,‏ وعدة الشاي‏,‏ والبوتاجاز الصغير‏,‏ والجوزة‏,‏ وصندوق الفحم كما تركها منذ قليل تحت نور لمبة النيون الأبيض‏,‏ ولا شيء آخر‏.‏
هل رأي زوجته الراحلة سعدية بالفعل في قلب الظلام‏,‏ أم كان ذلك بقايا حلم؟‏!‏ كان قد سمعها وهي تكلم شخصا ما جلس علي الكنبة في الصالة‏,‏ ليسترد أنفاسه المخنوقة‏,‏ وهو يحاول أن يعيد المشهد لقد رأي عينين فسفوريتين عينا القط الأسود الذي كان لا يفارق سعدية في أيامها الأخيرة‏,‏ وهنا علي الكنبة التي يجلس عليها الآن غير عبد الوهاب مكانه‏.‏
ماتت سعدية منذ شهرين تاركة له فراغا ما كان ليتخيل أن يعيشه‏,‏ خصوصا أنها كانت تصارع الكبد والسكر في وقت واحد كانت ترقد علي السرير طوال النهار لا تقوم إلا لتقضي حاجة‏,‏ وتأتي إحدي بنات أختها لتقضي مصالح الدار في الليل تحكي سعدية للقط آلامها لما رحلت باع القط لأنه كان يعتبره شخصا ممسوخا في صورة قط أسود‏.‏
هذه الأيام أصبح في أشد الاحتياج للساعة التي تأتي فيها ثناء جارته زوجة مستأجر أرضه تكنس له حجرات البيت تنفض ملاءة سريره تحت شمس الصباح الفاترة تنشر الكليم الذي يسهر قاعدا عليه هو وصابر وعبودة‏,‏ رفاقه العجائز‏,‏ بينهم الجوزة‏,‏ وورائهم التليفزيون الملون خافت الصوت والذكريات‏,‏ والتسبيح‏,‏ والحمد لما تنفض الجلسة لأكثر من سهرة في الأسبوع‏.‏
تدلق ثناء ماء الجوزة‏,‏ وتملأها بماء جديد‏,‏ ثم تجهز للعجوز فطوره‏,‏ وتطبخ له للغداء والعشاء يتغاضي العجوز عبدالوهاب كثيرا عن حقوق صغيرة في مقابل خدمتها‏.‏
يراقب العجوز ثناء أثناء رواحها ومجيئها داخل الغرف الثلاث الصغيرة‏,‏ والصالة المستطيلة الضيقة دون أن تلاحظ هي غالبا سرحانة في شيء لم يسع لمعرفته‏.‏
لو أراد العجوز عبدالوهاب الزواج لبحث عن أرملة أو عانس تخدمه مقابل اللقمة‏,‏ والهدمة‏,‏ وميراث في الغيط هو يحرس مالا لم يعد ماله في مقابل أن يرضي ابنا ستصل إليه كل الأشياء دون أن يعبأ ذلك الابن بأب يقضي أياما قلائل في الحياة لا يريد الولد الوحيد الذي نجا من الموت صغيرا أن يأخذ إجازة من الكفيل لسنة علي الأقل ويقعد مع أبيه لحقت به زوجته‏,‏ كلما طلب من ابنه أن تعود زوجته علي الأقل يتحجج بعملها مدرسة في إحدي المدارس الخاصة هناك‏.‏
يعرف الابن ما تفعله ثناء لأبيه فيرسل لها ولزوجها ولأولادها كسوة العام‏,‏ وهي تشبعه بالدعوات كلما أتت سيرته علي لسان الأب العجوز‏.‏
تخطو ثناء كثيرا نحو حجرة المعيشة كالضفدع بقامتها القصيرة المدكوكة في جلباب بني قديم طمست وروده وراء الوسخ يروح العجوز في النوم مرة أخري‏,‏ مغادرا ساعات الصباح إثر تكة اللسان الحديدي وهي يدخل في الكالون لما تشده ثناء وهي خارجة لتلحق بزوجها في الغيط‏.‏
نام عبدالوهاب علي الكنبة في الصالة‏,‏ واستيقظ علي صوت ثناء كان متفاجئا مثلها بالضبط‏,‏ إذ رأي كل شيء مرتبا ونظيفا سألته ثناء إن كان قد استيقظ ليلا‏,‏ وفعل ذلك فليس هناك من احتمال آخر؟‏!‏
أدرك السؤال بابتسامة مراوغة فهو لم يحدد بعد أي خطة سيتبع في الكشف عما يراه‏,‏نومه علي كنبة في الصالة دعم موقفه أمام ثناء التي لاتكتم أي شئ تراه عن زوجها‏.‏
ارتدي جلبابا نظيفا‏,‏وتوضأ‏.‏وضع عباءته الصفراء علي كتفه فقد أصبح يشعر بالبرد في الأيام الأخيرة رغم أن فصل الشتاء لايزال بعيدا عن البيوت‏.‏
لم يبح بالسر لأي من صاحبيه في هذا النهار‏.‏
ظن أن مايراه لم يتحدد بعد ولن يتكرر‏.‏
في الليلة التالية رأي سعدية بوضوح كأنما عادت ثلاثين عاما للوراء‏.‏
شقة الرأس الملونة التي يتسرب منها خيط حالك من شعر ناعم كان يصل لأعلي فخذيها‏,‏عنقها ملفوف طويل‏,‏ وخيوط رفيعة فوق جبهتها‏,‏ حتي أن العجوز لما دقق في قلب العتمة بجوار وجه زوجته رأي القط الأسود بوضوح أيضا يعرف نظرة القط المراوغة جيدا كان قد اشتري لها ذلك القط مؤخرا‏,‏فكيف يظهر معها هذا القط في صورتها الثلاثينية؟‏!‏
كان لهما منذ سنوات قط سيامي ذو فراء أبيض مرقش ببقع صفراء داكنة‏,‏رأس القط كان ضخما في أيامه الأخيرة‏,‏ وكذا جسده الذي ينسلت بسهولة من أسفل الطبلية‏,‏ ومن أسفل عقب الباب بينما هما نائمان يخرج القط السيامي ويعود في الليل بضع مرات كان العجوزعبد الوهاب يتحسس فرو القط‏.‏يشهر بليونة الأعشاب الخضراء التي يجلس عليها حين يذهب إلي غيطه المستأجر‏,‏ليشوي قليلا من كيزان الذرة أما سعدية فكانت تطعم القط‏,‏ وتناغيه مثلما كانت تناغي من قبل أطفالها الراحلين‏,‏ومحمد الذي غاب في الإمارات مات القط بعد أيام من سفر محمد تكالبت علي سعدية الوحدة فاشتري لها قطا أسود من سلالة أسيوية اختارته بنفسها‏,‏ وتعلقت بالقط الجديد أكثر من المألوف‏,‏ حتي أنه كره القط بعد أيام‏,‏ ثم أصبح يخافه حين يراه‏,‏ أو حين يكون القط موجودا معه بالغرفة وحدهما بينما سعيدية تتحامل علي قدمين مريضتين لتقضي مصالح البيت في أوقات نادرة‏,‏ حين تتركهما بنت الأخت الملولة‏.‏
مادعم إحساسه بهوية القط هو نظرته المتحدية‏,‏ حركاته المحسوبة‏,‏ مواؤه الخفيض أثناء الليل‏,‏ وكأنما يتحدث بلغة ملغزة طرده العجوز عبد الوهاب من الحجرة في الليل واضعا حشوه خشبية أسفل الباب القصير كي لايعبر القط إليهما وهما نائمان‏.‏
كان القط الأسود لحوحا في موائه الهاديء في الليل‏,‏ وكأنما يستجير ب سعدية لتعيده مرة أخري إلي مكانه علي كليم الأرضية الدافيء يصعد ويهبط علي سريرهما أثناء النوم‏.‏
قامت سعدية مرة في الليل فتحت باب الحجرة بهدوء‏.‏
كان الليل في منتصفه تظاهر عبد الوهاب بالنوم منظما خيط أنفاسه‏,‏فهو لايزوره النوم إلا بعد صلاة الفجر‏,‏ اعتدل في فراشه رمي بصره عبر شق الباب الموارب‏,‏ علي ضوء وناسة الكهرباء في الصالة رأي القط راقدا في حجر سعدية تكلمه بصوت هاديء وهي تميل علي أذنه تمسح بيديها المرتعشتين علي جسده تفارق الشهوة المرأة مع الجسد اليابس الذاهب الي الموت‏,‏ ولاتفارقها الحيلة‏,‏أو كشف الألغاز كان قد حدث نفسه بهذا وهو ينزلق من سريره بهدوء‏.‏مد أذنيه إلي ما وراء الباب سمع بعضا مما قالته سعدية للقط إنها تحكي للقط أسرارهما بينما كانا في عز شبابهما‏,‏ وتخبره بأوجاعها‏,‏ هل لهذا السبب يرافقها القط حين عادت بهيئتها في شبابها من العالم الآخر؟‏!‏
ماتت سعدية قبل أن يكشف عبد الوهاب سر القط الذي عاد إليه الآن في صورة شبح ليلي يرقد علي حجر سعدية الصامتة‏.‏
في قلب العتمة تجلس سعدية علي الكليم الذي كان منذ ساعات متكأ لعبد الوهاب وصاحبيه صابر وعبودة‏:‏ عجائز يهربون من ضجر زوجات الأبناء بالالتفاف حول الجوزة ووشيش التليفزيون‏,‏ وبعض الذكريات المعادة يتركهما عبودة ليقضي مع زوجته الجديدة ليلة جديدة‏.‏
يعرف عبد الوهاب وصابر أنه إنما يبالغ كثيرا بما يخبرهما به‏,‏ إلا أنهما من خلال كلامه يستعيدان مامضي من لذة كانت تدفيء أيامهما الباردة وظروفهما القاسية‏.‏
الآن تغيرت الدنيا صار لكل واحد من العجائز الثلاثة بيت بالطوب والخرسانة‏,‏ وأولاد يمتلكون بضعة أفدنة‏,‏ وبنات متزوجات وأخريات أرامل‏.‏ كان عبد الوهاب هو الوحيد في ثلاثتهم الذي يقعد وحيدا في داره التي بناها من طابق واحد له ابن وحيد ظل علي قيد الحياة‏,‏ تعلم وسافر وهجر
الأب إلا من مكالمة أسبوعية لاتشفي وحدته‏.‏ أما صابر فيقعد مع ابنه الأكبر في بيت العائلة‏,‏ وعبودة تزوج ووزع الميراث علي أولاده‏,‏ وكانوا قد اشترطوا عليه ذلك إن أراد الزواج‏,‏ وترك نصيبا لزوجته الجديدة‏.‏
دائما ما يكون القط مع سعدية‏.‏ لا يطلق مواء‏,‏ ولا يزعج عبد الوهاب‏.‏ فقط ينظر بوداعة كما تنظر سعدية بالضبط‏.‏ وكأنما يطمئن العجوز بوداعة العالم الآخر الذي يخاف عبد الوهاب كلما راح في النوم أن ينتقل إليه دون أن يدري‏.‏ عندما يستيقظ عبد الوهاب في الصباح يجد فطوره معدا‏.‏ تنظر ثناء وفي عينيها نظرة لؤم قائلة‏:‏
دا مقلب يا عم الحاج؟
يحلف عبد الوهاب وهو يتمطي من أثر النوم العميق أنه لم يفعل شيئا‏,‏ لكنه يستدرك خطأه بابتسامة أخري أمام المرأة متحججا بالوحدة التي يتحرك كثيرا حتي يسلي نفسه‏,‏ والمرأة تحاول أن تصدق‏,‏ بينما تسأله عفوا لماذا يظل وحيدا في بيت كبير كهذا دون ونس‏!‏
كان ينظر لها كل ليلة‏,‏ ثم ينتقل من فراشه إلي الكنبة في الصالة دون أن يجرأ علي الاقتراب من مكانها في قلب العتمة‏.‏ يشعل المصباح فتختفي‏.‏ يطفيء المصباح فتظهر وفي عينيها نظرة توسل‏,‏ لذلك كان يتركها رغم إحساسه أنها إنما تأتي لتؤنسه‏,‏ وتنقل له رسالة ما‏.‏ قلبه الضعيف الذي لم يعد يحتمل لا يتركه معها في غرفة واحدة‏.‏ يضبط منبه الساعة بجواره علي السادسة صباحا‏,‏ فإذا ما فاجأه الرنين تسلل إليه صياح الديك علي السطوح المجاورة وشقشقة عصافير تفتح عينيها للصباح‏.‏ يتحامل علي قدميه‏,‏ ويدخل حجرته‏,‏ كي لا تسأله ثناء لماذا ينام في الصالة؟‏!‏ ويزداد شكها في أي شيء‏.‏
قرر ألا يترك نفسه للقلق أكثر من ذلك‏.‏ في سهرة الليلة استبقي صابر‏:‏
خير يا عبد الوهاب؟
أنا هاقول لك علي سر بس يفضل في عبك لحد أما نعرف هانعمل إيه بالظبط؟
قال صابر مبتسما بتسليم‏:‏
وهي الأسرار عادت تنفعنا في حاجة؟‏!‏
لأ‏..‏ دا شيء خطير‏..‏ بص يا حاج‏..‏ سعدية بتزورني يوميا في الأوضة دي‏.‏
ربنا يطول في عمرك يا عبد الوهاب‏.‏
يا أخي‏..‏ مابتزورنيش في المنام‏..‏ بتقعد مكانك هنا علي الكليم ده‏,‏ وتبصلي كده من غير ما تتكلم‏.‏
أه‏(‏ تحرك صابر من مكانه مرتبكا‏,‏ وجلس فوق السرير في الجهة الأخري‏).‏ بتزورك‏!‏ سلامة نظرك‏..‏ هاء‏,‏ هاء‏..‏ ضحكتني‏,‏ وبقي هايوجعني من الضحك‏,‏ ما هو الضحك في سننا أغلي من البكاء‏.‏
عاجله عبد الوهاب بنرفزة‏:‏
يا أخي‏..‏ ما تطرطش في الكلام‏..‏ إذا كنت خايف ما اتكلمش‏.‏
وأنا أقدر أمشي من غير ما تكمل‏..‏ إحنا ها نخاف من قدر ربنا برضه‏..‏ دا إحنا ماخفنا وإحنا شباب نخاف دلوقتي‏!‏
كنا شباب‏..‏ نقدر ندافع عن نفسنا‏..‏ دلوقتي إحنا مساكين‏,‏ كل يوم بناخده من الدنيا مكسب‏.‏
قول يا عبد الوهاب‏..‏ بس علي الله ما يبقاش مقلب من مقالبك إياها‏..‏ ليكون زي موضوع الريموت كنترول‏,‏ ولا شنيف الحطب‏,‏ ولا الجميزة المسكونة ببنت ملك الجان؟ افتكر لك إيه ولا إيه‏!‏
تهطل علي رأس صابر كل المقالب التي شربها من قبل من صاحبه عبد الوهاب‏,‏ غير أن نبرة الأسي في وجه صديقه جعلته يصدق المأساة التي يعيش فيها صاحبه‏,‏ والخفة التي بدأت تتسرب إلي كلامه‏,‏ وذكره الدائم للموت الذي يزوره‏,‏ والموتي الذين يراهم في حجرته‏.‏ هم جميعا قدم في الدنيا وقدم في الآخرة‏,‏ لكن عبد الوهاب أكبرهم سنا‏,‏ وأكثرهم إنهاكا بالأمراض‏.‏ اتجه عبد الوهاب إلي مفاتيح الكهرباء‏.‏ قام صابر‏,‏ وقف بجواره‏.‏ اقفل عبد الوهاب مفتاح لمبة الحجرة‏,‏ قائلا لصاحبه‏:‏
بص كويس يا صابر‏.‏
لقطة استمرت تبزغ شيئا فشيئا في العتمة علي إثرها رطن صابر بالقلق قائلا ل عبد الوهاب‏:‏
ولع النور بسرعة‏,‏ النور‏.‏
أشعل عبد الوهاب لمبة الكهرباء‏.‏ رأي في وجه صاحبه فزعا مثلما أحس هو من قبل‏.‏ بالتأكيد رأي صابر سعدية والقط‏.‏ ازداد العجوزان التصاقا بعضهما ببعض‏.‏ نطق صابر بعد أن تخلص من طعم الليمون المفاجيء في حلقه‏:‏
لا إله إلا الله‏,‏ دا حقيقي‏.‏
وكمان بتعمل لي كل أطلبه‏,‏ يعني مثلا تحب نشرب شاي‏,‏ كوبايتين شاي يا سعدية‏.‏
كان البوتاجاز الصغير وعدة الشاي في الحجرة‏.‏ تراجع عبد الوهاب‏,‏ وسحب صابر من يده‏,‏ أطفأ النور‏,‏ وأغلق باب الحجرة‏,‏ وانتظر لدقائق‏,‏ ثم دخل الحجرة‏,‏ وفتح لمبة الكهرباء‏,‏ فإذا بكوبي الشاي علي صينية الألومنيوم يخرج من أعلاهما بخار دافئ‏.‏ ناول صابر كوب الشاي‏,‏ فتراجع صابر للوراء منزعجا‏:‏
اشرب إيه يا عبد الوهاب‏,‏ انت عاوزني أموت‏.‏
يا جدع ما يبقاش قلبك خفيف‏..‏ أنا هاشرب قدامك أهو‏.‏
في تلك الليلة لم ينم صابر لحظة واحدة حين عاد لبيته‏.‏ ظل يراقب في الظلام مفرش الخوص في حجرته ليري زوجته التي رحلت‏,‏ أو أي من إخوته‏,‏ وأخواته البنات‏,‏ لكنه لم يلمح طيفا للراحلين‏.‏ أما عبد الوهاب فتمدد في فراشه مطمئنا لأنه لم يعد يملك وحده السر‏.‏ طوال الليل كان ينظر ل سعدية باطمئنان رغم نظرة اللوم في عينيها‏.‏ رمي للقط نظرات متشفعة لعل له في قلب الراحلة خاطر‏,‏ ولم يستطع‏,‏ أيضا‏,‏ أن يذهب إليهما في قلب العتمة‏,‏ بل عاد بعد دقائق إلي نومته التي اعتادها منذ أيام في الصالة ضابطا منبه الساعة علي السادسة صباحا‏.‏
أتت ثناء في الصباح‏,‏ وهي متأكدة أنه لا يحتاج منها خدمة صغيرة‏.‏ تطمئن فقط‏,‏ ثم تذهب مع زوجها إلي الغيط‏.‏ في المساء التالي جلس صابر‏,‏ ولم يذهب مع عبودة‏,‏ أحس عبد الوهاب بأن صابر لديه شيء يريد أن يقوله‏.‏ قال صابر لما اطمأن إلي خلو المكان‏:‏
طفي الكهربا كده يا عبد الوهاب
كان العجوزان يقفان علي باب الحجرة‏,‏ يحدقان بعيون باهتة في المرأة والقط‏,‏ بعد قليل ظهر آخرون‏.‏ زوجة صابر‏,‏ وأخواه اللذان رحلا‏,‏ وأبوه وأمه‏,‏ فقال ل عبد الوهاب‏:‏
اشمعنا عندك بس بيظهروا‏,‏ شوف الحبايب‏,‏ بالأبيض والأسود‏.‏
ما هو زمنا الحلو كان أبيض وأسود‏.‏
تقدم صابر قليلا ليختبر هذا الذي يراه‏,‏ فهو لن يستطيع العودة إلي البيت وقد رأي ما رأي‏.‏ بعد قليل نادي عبد الوهاب علي صاحبه لما تأخر في العودة‏:‏
يا حاج‏,‏ يا حاج صابر‏,‏ يا صابر‏.‏
ولما لم يرد صابر أشعل عبد الوهاب مفتاح الكهرباء فلم ير لصاحبه أثرا‏.‏ كاد يتهاوي من الرعب‏.‏ كان عبد الوهاب واقفا علي مدخل الباب‏.‏ لو أن صابر عبر إلي غرفة أخري لأي شيء لأحس به عبد الوهاب‏.‏ بحث في أرجاء المنزل مغلق الأبواب دون أن يري أثرا لصاحبه‏.‏ يخشي أن يترك المنزل في هذا الوقت المتأخر‏,‏ ليبلغ أحدا من أبناء صابر أو حفدته‏.‏ زوجات الأبناء قساة القلوب سينظرون بتحد إلي شيخوخة عبد الوهاب غير آبهين بأوجاعه‏,‏ متهمين إياه بالتخلص من صاحبه‏.‏ هل هذا معقول؟‏!‏ لمن يعيش إذا فقد الصديق؟‏!‏ سيبحث عبودة عنهما‏,‏ لكن عبودة هو الآخر لا يأبه سوي لزوجته الجديدة‏.‏
اتجه عبد الوهاب إلي الغرفة مرغما‏.‏ أطفأ النور‏,‏ فبزغت عيون كثيرة وادعة في وجوه نبتت كأقمار وراء نتف شفافة من سحب الخريف‏.‏ رأي صابر فجأة صامتا وسط الصامتين‏.‏ بقدمين نحيلتين لم يجد عبد الوهاب مناصا من البحث‏.‏ خطا للأمام بعد أن شمر الجلباب حتي وسطه داخلا هو الآخر في قلب العتمة‏.‏
رابط دائم :


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.