واحد وثلاثون عاما مضت علي رحيل عميد اللحن العربي والشرقي الأصيل الذي أثراها بأجمل وأبدع الألحان التي مازالت تتربع علي عرش موسيقانا, واستطاع بها أن يتعدي الحدود الجغرافية إلي اتساع الرقعة التي شملت جميع أنحاء العالم. ولم تقتصر فقط علي المجتمعات الشرقية; فأعماله الإبداعية تحظي علي إعجاب وقبول في جميع الأروقة فقد سمع موسيقاه الغربيون وتمايلوا وتراقصوا علي تلك الألحان الثرية, ومنحوه جائزة اليونسكو العالمية, هذا بالإضافة الي تنوع ألحانه الغزيرة والمتعددة الأنماط التي تخاطب النفس البشرية وتحرك ما بداخلها من سكون ليصبح المستمع لفن هذا العبقري عبارة عن شحنة انفعالات نفسية وعاطفية متأججة. إنه( رياض السنباطي) صاحب الموهبة الفطرية التي ظهرت في سن مبكرة حيث تفتحت عيناه علي والده المقرئ الذي اعتاد عزف آلة العود والغناء الأصيل والتواشيح الدينية في الأفراح والمناسبات, مما جعل الطفل ينتمي إلي عالم الفن ويرتبط به عن طريق والده الذي علمه تراث موسيقي محمد عثمان وعبده الحامولي وسيد درويش. وبعد إصابة الصغير بمرض في عينه وهو في التاسعة صعب عليه الاستمرار في دراسته مما دفع والده لتعليمه أصول وقواعد الموسيقي بمقاماتها وايقاعاتها, وأبرز تفوقه وبراعته بسرعة مذهلة, إلي أن أصبح هو نجم الفرقة وأطلق عليه بلبل المنصورة بعدها قرر والده الاستقرار في القاهرة لايجاد فرصة لإثبات ذاته, وتقدم السنباطي للالتحاق بمعهد الموسيقي العربية ولكن فوجئت اللجنة بمستواه الفني الذي يفوق مستوي الطلاب بمراحل فأصدروا قرارا بإلحاقه كأستاذ لآلة العود بالمعهد وليس طالبا, ومن هنا بدأ يبرز اسمه ويلمع في الحفلات الفنية والندوات, وتوالت نجاحاته ومنها انطلق إلي التلحين حيث تعاون مع العديد من المطربين واتسمت ألحانه بالتميز والأصالة مع استخدام المقامات والإيقاعات الشرقية الصميمة والتي حققت شهرة لأصحابها كأغنية لعبة الأيام للسيدة وردة الجزائرية. أما لقاؤه بكوكب الشرق فكان مع أغنية علي بلد المحبوبعام1936 حيث اقترن اسمه باسمها, ثم لحن لها في أواخر الثلاثينات وبداية الأربعينات مجموعة من الأغنيات القصيرة والتي تتسم بالحداثة في الأسلوب والغناء والتلحين فهي ذات إيقاع مميز ورشيق وتسبقها مقدمة موسيقية تصور الفرح ولهفة الاشتياق ولاقت نجاحا جماهيريا واسع الانتشار إلي الحد الذي جعل تلك الأغنيات تذاع لعشرات السنين منها:ح أقابله بكرة و افرح يا قلبي كما قدم لها يا ليلة العيد التي حفرت في قلوبنا وكأنها تراث وجداني, كما بدأ ارتباطهما بالقصائد الشعرية التي نظمها العديد من الشعراء وعلي قمتهم فارس الكلمة الرومانسية(أحمد رامي) والذي كون معهما ثالوثا فنيا لا نظير له لعقود قدموا فيها علي سبيل المثال:رباعيات الخيام,سهران لوحدي,يا ظالمني وغيرها,أيضا قصائد أمير الشعراء( أحمد شوقي) ك نهج البردة, ولد الهديوسلوا قلبي.ومن أعظم إبداعاته كانت الأطلال أشعار إبراهيم ناجي والتي يعتبرها النقاد تاج الأغنية العربية وأفضل أغنية عربية في القرن العشرين. فهو صاحب أهم وأكبر رصيد لحني لأم كلثوم قدم خلاله ما يقرب من تسعين أغنية وقصيدة لحنية. ومن أشهر مؤلفاته الموسيقية التي لا تقترن بالغناء فكانت في قالب اللونجا السريع وأطلق عليها لونجا رياض وما زالت تقدم في الفرق الموسيقية المختلفة ولها نجاح مذهل إلي اليوم. أيضا ألف مجموعة تقاسيم لآلة العود منها تقاسيم نهاوند وتقاسيم بياتي وأسلوبه اللحني في هذه المقطوعات يعتمد علي البراعة والمهارة الأدائية الفائقة للعازف التكنيك مع الاحتفاظ بجمال وعذوبة الجملة اللحنية. فألحانه تتسم بالجمل اللحنية الطويلة والإيقاعات الشرقية الأصيلة فهو ينتمي للشرقية في كل ألحانه وابتعد فيها عن الروح الغربية, ووضع مقدمات موسيقية طويلة كافتتاحية استباقية للأغنية يستهل من خلالها قواعد أسلوبه الشخصي وانفعالاته وأحاسيسه مما ساعد علي ارتباطه بالجمهور. وقد حصل السنباطي علي عدة تكريمات وجوائز في حياته ولكني أعتقد أن أفضل تكريم هو خلود هذا التراث الفني العظيم وبقاؤه في ذاكرة الأمة علي مر التاريخ.