بعيدا عن النخبة السياسية وأطراف الخلاف حول مسودة الدستور التي أفرزتها الجمعية التأسيسية المعنية بوضع الدستور, تبقي فئة مطحونة من المفترض أنها أكثر الفئات المستهدفة من الدستور المنتظر. الحالمة بالراحة من عناء الجدل المستمر ليل نهار, وحروب الكلام التي لا تنتهي بين كل متعصب لرأيه ومن يخالفه, هذه الفئة صوتها يتردد ليس داخل أروقة لجنة المئة, وإنما داخل عالمها الفقير تتطلع إلي عودة الروح للاقتصاد وحياة كريمة تصبو إليها في دستور مازال في رحم الجمعية يطلب الخلاص, من أجل فقراء يقرصهم الجوع ولسان حالهم يصرخ:يا لجنة الغرياني.. لن نأكل تأسيسية. في بر مصر أصحاب حرف من طائفة كل يوم برزقه, يدورون في الساقية ومع عجلة الإنتاج, فإذا توقفت متأثرة بخلافات الساسة; تعطلت حياتهم.. من ماسح الأحذية, والسباك إلي النجار إلي بائع الملابس, والقهوجي, وعامل البناءوالفكهاني.... هؤلاء هم من ذهبت إليهم الأهرام المسائي حيث يعملون وحيث يتألمون من خلافات الجمعية التأسيسية, وحيث يشكون وقف الحال. بحركات متلاحقة سريعة, ينكب علي حذاء الزبون, بالصبغة والورنيش والفرشاة, والفوطة, مرة ومرتين وثلاث مرات, فلا يتركه حتي يلمع, ثم يبتسم للأفندي ويمد يده راضيا بالجنيه ويلتفت قائلا: نفسي البلد تستقر, ويبقي فيها دستور علشان نرتاح من التعب اللي احنا فيه.. يضرب عبده الجن35 عاماصندوقه الخشبي بيديه الملطختين بالورنيش, ويصيح بلهجة ناقمة علي قلة الرزق, مفسرا علاقة صندوق الورنيش بالدستور الجديد بجملته البسيطة: دستور يعني استقرار وعمل وإنتاج وناس في جيبها فلوس, تحب مظهرها نضيف, والواحد يلمع جزمته باتنين جنيه بدل ما يدفع جنيه واحد أو يستخدم المنديل الورق, أو يمشي بترابه لما يروح. عبده يري أنه بحكم عمله ماسحا للأحذية في منطقة وسط البلد أدري واحد بالناس اللي بتحب الكلام وعايزين الجدل يستمر عشان ده أكل عيشهم, وينتقد الجن خلافات أعضاء جمعية الدستور, وإصرار كل فئة علي أن يذكرها الدستور الجديد ب الاسم, معتبرا أن ذلك سيؤجل ولادة الدستور ويباعد بينه وبين التوافق, وهذا كله يدفع ثمنه الفقراء ممن لا يعملون في وظائف ولا تؤمن لهم الحكومة رواتب شهرية, أما الذين جعلوا حياته هو وأمثاله كلها كلام في التأسيسية ليل ونهار علي حساب أرزاقهم فهم من وجهة نظره ناس لابسة بدل وعندها مكاتب وشركات, وفلوس في البنك ومش هتفرق معاهم نعيش ولا نموت. ويعتقد عبده أن هناك أولوية في تلك المرحلة الحرجة التي تحتاج فيها مصر إلي العمل ودوران عجلة الإنتاج التي لن يدفعها سوي الأيادي التي تعمل لا الألسنة التي جعلت من الجمعية التأسيسية والدستور, حسب قوله,: حدوتة مش عايزينها تخلص غير لما يخلصوا علينا, ولم يشأ عبده أن ينهي كلامه دون أن يناشد الرئيس محمد مرسي بالتدخل لإنهاء هذه الخلافات. ويؤكد كريم رجب29 عاما فيؤكد أنه كان يقضي يومه كاملا واقفا علي قدميه في محل الذهب الذي يعمل به, يستقبل المخطوبين والسيدات اللاتي يشترين المشغولات الذهبية وكان يجني من وراء لباقته مع الزبائن ومساعدته لهم إكرامية محترمة, إلي جانب الراتب الذي يتقاضاه من صاحب المحل, لكن الآن كل فين وفين لما يدخل زبون ولو اشتري حاجة ما بيدفعش بقشيش, مرجعا ذلك إلي سوء الوضع الاقتصادي في البلد ومعاناة الناس من الغلاء وقلة الدخول. ويسخر كريم من خلافات القائمين علي وضع الدستور, ويتهمهم بأنهم نجحوا في إلحاق الخسائر بأصحاب المهن الحرة والذين يكسبون قوتهم يوما بيوم, ويحملهم مسئولية ما سماه الخراب اللي في البلد والناس اللي مش لاقية تاكل, ودون أن يفقد الأمل يتمني عامل الذهب أن يقوم أي حد بيفهم في الموضوع ده بعمل الدستور عشان نعرف نعيش بدل ما التجار يفلسوا ويقفلوا المحلات ونترمي في الشارع. أما هشام محمد29 عاما, فيقول إنه لا يعمل سوي يومين أو ثلاثة أيام في الشهر كله, لأنه نجار مسلح يرتبط عمله بطائفة المعمار التي يري أنها أكثر الفئات تضررا من الأحداث التي تشهدها مصر بعد أن توقفت أعمال البناء وعزفت الشركات العقارية عن الدخول في مشروعات جديدة انتظارا للاستقرار المرهون, من وجهة نظره, بوضع دستور جديد ووضع آخر طوبة في بناء الدولة بعد ثورة25 يناير, لكن هشام يبدي أسفه الشديد مما وصفه ب الغيبوبة التي يعيشها أهل التأسيسية وعدم اهتمامهم ب الخراب اللي عايشين فيه, واللي مش هتصلحه الخلافات والمصارعة اللي بيلعبوها وخربت بيتنا. دستور مين والناس نايمين والحال واقف, هكذا عبر عم حسين محمد50 عاما عن ضيقه من الخلافات حول الدستور الجديد, ومن داخل محل التنجيد الذي يستأجره بضاحية الوراق الشعبية, يبدو حسين غاضبا إذا ما ذكر له أحد أي شيء عن السياسة وصراعاتها وخلافاتها, وبمجرد أن تسأله عن مطالبه من صناع الدستور, تحتد لهجته ويتطاير منه الرذاذ, ويستغل الفرصة للهجوم علي الإعلام واتهامه بأنه هو الذي يفتح أبواب المناقشات العقيمة ويعمق الخلافات, ويجعل الناس علي مدار الاربع وعشرين ساعة يأكلوا تأسيسية ودستور في التلفزيون والراديو وعلي صفحات الجرايد, ولم تسلم الصحافة من طلقات عم حسين, كما لم يخجل من أن من يحاوره صحفي وأحد أبناء الوسط الذي يوجه إليه الشتائم. وأثناء فرز ملابس الأطفال في المحل الذي يعمل به, يؤكد سعيد السيد حامد23 عاما أنه لا يعرف شيئا عن الجمعية التأسيسية للدستور ولا يفهم شيئا أيضا في مواد المسودة الأولية موضع الخلاف بين القوي السياسية, لكن كل ما يعرفه سعيد أن السوق لم تعد مثلما كانت من قبل, وأن حركة البيع والشراء أصبحت شبه متجمدة, لأن الناس مش معاها فلوس تشتري وبتقضي أولادها باللي موجود لحد ربنا ما يفرجها ويتمني سعيد أن يقابل المستشار حسام الغرياني رئيس الجمعية التأسيسية للدستور ليوصل إليه رسالة من مواطن بسيط: حرام عليكم انجزوا الدستور وكفاية بقي. وإلي جوار محل الملابس يطالعنا محمد طه علي26 عاماوهو يحمل صينية الشاي في طريقه إلي أحد زبائن المقهي, مستنكرا ما يحدث من خلافات ومشاجرات حول مواد الدستور, متحديا أن يكون أحد من هؤلاء المتنازعين يهتم لأمر الفقراء ومن يقاتلون كل يوم من أجل رغيف العيش, وقال: قمنا بثورة وفرحنا بالانتخابات وولما قربنا نخلص الدستور صدعونا بالخناقات وخلونا نتوه في دوامة مش عارفين أولها من آخرها ولا هتنتهي علي إيه؟. أما كرم زغلول40 عاماسباك فيري أنه ما دام أعضاء اللجنة التأسيسية لوضع الدستور غير قادرين علي الاتفاق والانتهاء من الدستور يبقي ليه ما يتغيروش ويجيبوا ناس تانيه تعرف تعمله, وينتقد امتداد خلافات الجمعية إلي خارجها, في الفضائيات والمساجد ولو فتحت الحنفية هينزل منها تأسيسية, حسب تعبيره. ويكمل زغلول قائلا: عشان كده عايزين حد يتقي الله فينا.. أنا سباك وكنت بسافر بالشهرين للعمل مع المقاولين في المشاريع الكبيرة دلوقتي مش لاقي آكل. ويقول الأسطي كريم الوحش51 عاما ميكانيكي إن جميع المهن تدور في فلك واحد ولو تعطلت إحداها تؤثر علي الباقي, وعيه يطالب بسرعة حسم الخلاف والجدل الدائرين حول مواد الدستور حتي تعود الحياة إلي طبيعتها. ويضيف إيهاب رحيم محاسب مخاطبا المعنيين بشئون التأسيسية: انزلوا الشوارع واطرقوا أبواب الفقراء وانظروا ماذا يأكلون وكيف يجوعون, وستدركون أن قصة التأسيسية لا تسد الجوع ولا تكسو الأيتام ولا تستر الأسر التي تنام في العراء وتسكن عشش الصفيح.