فوق ربوة بين أشجار الزيتون التي ترامت في تلك البقعة من نواحي( غزة) تحت أشعة الشمس الذهبية التي غطت كل شيء بلونها العسجد, وذلك النسيم الذي يحفظ حياة الكون, مر بها ذلك الأثير المعبأ بالندي, ترنح مزهوا: عانقته بحرارة شديدة لم يعهدها في بشر. خرجا يتنفساه نفسا وراء الاخر من تلك الحرية المؤقتة المزعومة التي ضنت بها الأيام علي بعض طالبيها إلا من بضع لحظات, ربما تدوم هانئة كمن يسير علي شوك, فيسرع الخطا, لتقطعها أعوام نكد وغم. غاصت منتشية في حلمها الساحر, أمنيتها الوحيدة التي لا تتمني انتهاءها, تتهادي بها كأنما حملها بساط الريح في رحلة من رحلات سندباد. تصحبها زهرة لم تتفتح بعد, كل شموع الأمل مضاءة أمامها, حتي تنير كل درب, قلب هي نبضة,قارب هي شراعه, أرض كادت تجف إلا من مطره, طفلها الوحيد, يهرول بين يديها, يداعبها, تلاطفه, تناوله كرة يجري بها صغيرا لم يتجاوز السادسة من أفنان ظنتها باسقة, تورق, تنمو بين راحتيها, تبيت علي غصن زيتون في سويدائها, مرات تقذفه بالكرة, أخري تمسك بها, لتقذف بأحضانها بين يديه وصدره الصغير, حتي ابتعدت به الكرة, غاب عن ناظريها, بصوتها القادم من أحشاء الخوف نادته في لهفة شديدة: شادي, ابني, حبيبي, انت فين؟ علا صوتها, شاط عقلها, هاجت, هرولت, تسقط مغشيا عليها, مزقت صرخاتها فضاء شمسها التي لم تغب بعد, في تلك اللحظة تأججت في نفسها الهواجس والظنون, صارت بين أمرين, أحلاهما أشد مرارة, بين سندان الخوف ومطرقة الأمل, ترتجف بدموع تهطل سيلا, شلال ألم وخوف وحذر. خلف كل شجرة من أشجار زيتون تلك الربوة, ظنته مختبئا يداعبها, يلعب بأعصابها, يبحث عن موضعه في فؤادها. تساءلت في ذعر شديد, سرعان ما بكت بدموع جرت بها عروقها. نادته مره أخري: شادي, تعالي, انت فين؟ انا مليش غيرك. كأنما أرادته يعيد لها ذلك الرمق الأخير, فتات أيامها الخوالي, يكفيها يوم هو فيه بين يديها. مشت حثيثا خلف صخرة لمحت عليها دما تقطر, اقتربت وقلبها يخفق, يكاد ينخلع من مكانه, بعد لحظات ترقب وانتظار, رأته..شادي يرقد خلف تلك الصخرة ينزف دما, دنت منه, تلقفته بين يديها, ضمته إلي صدرها, توسدت صدره ذلك الحضن الدافئ, قطرات المطر التي تروي روحها عندما تبخل به عليها سماؤها, يحلق في قلبها بأجنحه العصافير, يتخذ من عيون الاخرين جدارا, تتعلق به, ستارا يحفظها, سكنا يؤويها, دربا تمشيه, خطوطا تتماوج, تتقاطع في نقطة واحدة, نهاية مطافها. لكنها ما زالت تبكي, تبكيه سيلا من دموع قرص الشمس التي مالت أشعتها الحمراء تغيب في سمائها ثم هدأت قليلا, استجمعت قواها, فالجرح ليس غائرا..مسحت دماءه, ربطت عروقه بعصابة من نطاقها سألته ما أصابه, لم يجب إلا بدموع بللت ثيابها, خففت من روعه, بعدما غسلت وجهه بدموعها..صغيرا أدرك حرصها عليه, خوفها, قلقها, إحساسها به. ابتدرها بقوله: أنا كويس, ماتخافيش يا أمي. فجأة بلا مقدمات, نهض واقفا, قذف كرته بعيدا, لحقته هذه المرة, أمسكت به, أجلسته, ناولته بعض الحلوي, ناولها إياها, ولأنه صغيرها الوحيد, أملها من حياة لا تمتلك منها سواه, لم تشأ أن تكتم فيه بهجته, مرحة, لهوه وصباه, دفعت به إلي لعبه مره أخري, سألها الكرة, ابتعد قليلا حتي تناوله إياها, تلقفتها, ألقت بها نحوه, لم يكد يحملها الهواء إليه هذه المرة, حتي قطعت طريقها رصاصة قناص ماهر, كان يرقبهما لحظة خروجهما, بيت لهما بليل الثعالب, بقلب امتلأ غدرا وخيانة, لم تأخذه بهما شفقة أو رحمة, لم يحفظ لها أمومتها التي بقيت لها من تلك الحياة, بعدما فقدت شريك دربها إلي غير رجعة. لم يرحم فيه لعبه, لهوه الصغير, مرحه, براءته, أصابه في مقتل, أصاب قلبه الصغير الذي يزن بضعة كيلوجرامات من ذهب, ليدمي قلبها وجعا, ألما يعتصره, فقدا لا عودة منه, ما ظنته يسرع إليها علي هذا النحو, ليحفر لها قبرا إلي الاخره, وهي بعد لا تزال تتنفس حياة أشبه بالموت. تمنت لو حالت بين رصاصته ووحيدها, لو أنها استطاعت تحويل طريقها عدة سنتيمترات. احتضنته حتي غطتها دماؤه, أغرقته في بحر من تأوهاتها, حاولت ابتلاع ألمها, دقات قلبها تتغلغل فيه, دقات قلبه عزفت لحنها لأخير, تودعها في صمت يطويه ليل حالك, يتركها في سماء ليلة ممطرة. رعديه تبرق, ألح عليها أفول مطبق, تتوحد مع ظلمتها, في عينيها احتضار, موت محقق, خلف اسلاك شائكة صدئة, وجدار عازل, بيتوا له بليل, أقاموه في وضح النهار. حاولت استنهاض عزيمتها, تماسكت, فسقطت, حاولت أخري, فثبتت تحمله عائدة إلي الحي. تلفه أغصان الزيتون, تحمل معه كرة الهواء, ملونة بدمائه تلك قانية الحمار, كأنما صبغها لون زهري قرمزي معطر بمسك وعنبر. تحمله لا تقوي علي الحركة خطوات, تسقط مرات علي الأرض, لكنها لا تزال قوية تمسك به, ممتزجة معه كأنهما جسد واحد, بعضة بلا حراك, بعضه الاخر ينتظر الحراك, الموت القادم إلي الشرق, يعمل فيها معوله, شجرة يعريها في خريف بلا حياء أو أمل, تعانقه حتي يخفي شعرها وجهيهما, يخفي وراء دموعها الغزيرة, لتأكل الحسرة قلبها, تدمي دموعها, تمزق ما تبقي لها من شريان فؤادها بما تبقي له من عدد محدود بنبض به. حدقت به مرات, لم تلق إلا فراغا مظلما, أشباحا غامضة, هواجس, ظنونا متفرقة, أو جاعا لا حصر لها ولا عدد, جسما مرتخيا يتدلي في انكسار, أدمت وجنتيها بأظافر من حديد, اشبعتهما عضا وركلا, ثم مالت إلي خصلات شعرها تمزقها, توزعها, تنثرها من حوله, كأنما أرادت إشعال عود ثقاب فيما تبقي لها من حياة أشبه بعد ما إن وصلت إلي باب الحارة, حتي سقطت في إغماءة, مرت عليها دقائق, حسبتها دهرا. عندما أفاقت عليه, حملقت فيه أخري, جثه هامدة تحركها, تتسمع نبضها, تتحين إفاقتها, تسأله بما تبقي لها من وعي وإدراك: شادي, كلمني, رد علي, انت نايم, قول اه؟ ثم تنظر في عيون الجميع من حولها, تلمح دموعا متحجرة, تبرق في قرص الشمس, تصرخ فيهم, تترنح, تتشنج, كلما همت بالوقوف, أمسكت طرف ثوب أحدهم, ولاتردد إلا عبارة واحدة, هي كل ما بقي لها من لهجة أو لغه: شادي ما ماتش, صدقوني. حملوه منها في صعوبة بالغة, حاولوا إقناعها أنهم حامليه إلي غرفة نومه الصغيرة, رفعوه في ثياب شهيد صغير, في مناحة غطتها زغاريد نساء فرحة, وصيحات تهليل رجاله فرحة. أهالوا عليه التراب, كاد يغطيها, حتي أعادوها خارج لحده الصغير, قصره من الجنة الذي ينتظره مع الأبرار, يسقيها شربة لاتظمأ بعدها أبدا. لكنها لم تزل علي حالها, تهيل علي رأسها التراب, تلطم خديها, تكاد تمزق ثيابها, ثم تعود ثانية لشيء من السكينة, فتملك بأسها, تطرد حزنها, ببعض أعصابها, بشيء من عافيتها, بنفس مؤمنة تصيح فيهم: شادي عايش, صدقوني, أنا شايفاه لسه هناك جنب شجرة الزيتون, بيلعب, بيضحك لي, سامعاه, حاساه, انتوا سامعينه, انتوا حاسينه زيي, ردوا علي؟ د. مجدي امام استاذ الادب العربي جامعة هرجيسا أرض الصومال رابط دائم :