خبر سار من نقيب الفلاحين بعد توريد 1.5 مليون طن من القمح.. وخبير زراعي يُعلق    شهداء وجرحى جراء قصف الاحتلال شقة سكنية قرب مفترق السامر بمدينة غزة    الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل 3 جنود في قصف طال قاعدة عسكرية قرب كرم أبو سالم    إعلان بانجول.. تونس تتحفظ على ما جاء في وثائق مؤتمر قمة التعاون الإسلامي بشأن القضية الفلسطينية    هل استحق الزمالك ركلة جزاء أمام سموحة؟.. جهاد جريشة يجيب    بعد خماسية إنبي.. رئيس البنك الأهلي يكشف حقيقة رحيل طارق مصطفى    حبس عاطلين بتهمة قتل عامل وإلقاءه داخل مصرف بالقليوبية    ضبط مسجل خطر حاول اختطاف طفل من أمام منزله بشبرا الخيمة    بعد إصابة 10 أشخاص.. قرارات النيابة العامة في حادث انقلاب ميكروباص بالقليوبية    "وفيها إيه يعني".. فيلم جديد يجمع غادة عادل وماجد الكدواني    مئات يحتجون في ألمانيا على عرض لمغنية الأوبرا الروسية آنا نيتريبكو    بوتين يحقق أمنية طفلة روسية ويهديها "كلب صغير"    لافروف: الغرب لا يريد إنهاء الحرب في أوكرانيا    فى ليلة شم النسيم.. إقبال كثيف على محلات بيع الفسيخ فى نبروه||صور    يمن الحماقي: لا توجد استراتيجية واضحة للصناعة في مصر.. وكل قطاع يعمل بمفرده    قبل معسكر الفراعنة.. «الجبلاية» يلبى طلبات الجهاز.. و«علام»: ندعم المنتخب للتأهيل للمونديال    المدينة الشبابية ببورسعيد تستضيف معسكر منتخب مصر الشابات لكرة اليد مواليد 2004    خالد مرتجي يرد على مريم متولي: محدش كلمك ومش هترجعوا الأهلي.. فيديو    أستاذ اقتصاد: المقاطعة لعبة المستهلك فيها ضعيف ما لم يتم حمايته    الأوقاف: التبرعات ممنوعة بالمساجد .. ورقابة على صناديق النذور | فيديو    لفتة طيبة.. طلاب هندسة أسوان يطورون مسجد الكلية بدلا من حفل التخرج    بإمكانيات خارقة حتدهشك تسريبات حول هاتف OnePlus Nord CE 4 Lite    مصرع وإصابة 6 في حادث انقلاب تروسيكل بمطروح    الإسكان: جذبنا 10 ملايين مواطن للمدن الجديدة لهذه الأسباب.. فيديو    ردا على إطلاق صواريخ.. قصف إسرائيلي ضد 3 مواقع بريف درعا السوري    سعرها صادم.. ريا أبي راشد بإطلالة جريئة في أحدث ظهور    الباشا.. صابر الرباعي يطرح برومو أغنيته الجديدة    مدير مكتبة الإسكندرية: الوثيقة لها نظام معين في العرض وليست متاحة للعامة    الميزانية السعودية تحقق بالربع الأول العام إيرادات بلغت 293.4 مليار والعجز 12.4 مليار ريال    3 قتلى و15 مصابًا جراء ضربات روسية في أوكرانيا    مصر في 24 ساعة|اعرف طقس شم النسيم وتعليق جديد من الصحة عن لقاح أسترازينيكا    رياح قوية وسقوط أمطار .. الأرصاد تكشف توقعات طقس الغد على سواحل مطروح    أمطار خفيفة على المدن الساحلية بالبحيرة    3 ظواهر تضرب البلاد خلال ساعات.. «الأرصاد» تحذر من نزول البحر    فلسطين تزين مسيرة سام مرسي قائد إيبسويتش تاون    موعد مباريات اليوم الإثنين 6 مايو 2024| إنفوجراف    طارق مجدي يدير مباراة الجيش والمصرى بالدوري    إغلاق مناجم ذهب في النيجر بعد نفوق عشرات الحيوانات جراء مخلفات آبار تعدين    وزيرة الهجرة: 1.9 مليار دولار عوائد مبادرة سيارات المصريين بالخارج    عمرو أديب: «مفيش جزء خامس من مسلسل المداح والسبب الزمالك» (فيديو)    أمين الفتوى: الله شرف مصر أن تكون سكنا وضريحا للسيدة زينب    نقابة البيطريين تحذر من تناول رأس وأحشاء الأسماك المملحة لهذا السبب    عضو الجمعية المصرية للمناعة يقدم نصائح طبية قبل شم النسيم (فيديو)    لدعم صحة القلب والتخلص من الحر.. 5 عصائر منعشة بمكونات متوفرة في مطبخك    منافسة بين آمال وأنغام وشيرين على أغنية نجاة.. ونبيل الحلفاوي يتدخل (فيديو)    فحص 482 حالة خلال قافلة طبية مجانية في الوادي الجديد    نائب سيناء: مدينة السيسي «ستكون صاعدة وواعدة» وستشهد مشاريع ضخمة    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟ دار الإفتاء تجيب    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    «العمل»: جولات تفقدية لمواقع العمل ولجنة للحماية المدنية لتطبيق اشتراطات السلامة والصحة بالإسماعيلية    ندوتان لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية بمنشآت أسوان    5 مستشفيات حكومية للشراكة مع القطاع الخاص.. لماذا الجدل؟    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    كنائس الإسكندرية تستقبل المهنئين بعيد القيامة المجيد    البابا تواضروس: فيلم السرب يسجل صفحة مهمة في تاريخ مصر    اليوم.. انطلاق مؤتمر الواعظات بأكاديمية الأوقاف    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جلسة لتحضير الأرواح في الجامعة العربية
نشر في شباب مصر يوم 07 - 05 - 2012


صدور رواية في انتظار السلحفاة لمعتصم الشاعر
عن شركة إي-كتب لندن، صدرت النسخة الإلكترونية لرواية في انتظار السلحفاة، للروائي السوداني معتصم الشاعر، الرواية تقع في 146 صفحة، لوحة الغلاف للفنان بينوا كولسينت، وهذه الرواية الثانية للمؤلف ضمن سلسلة رواياته عن الربيع العربي، السلسلة التي ابتدأها بروايته أهزوجة الرحيل التي تنبأت باللحظات الأخيرة للقذافي، والتي صدرت في العام الماضي.
الرواية تسخر من الموقف العربي تجاه قضايا الشعوب العربية المنكوبة، والتي تنادي باسم العروبة حينا وباسم الدين حينا آخر، ولكن هذه النداءات تضيع وسط السلبية الشديدة والقعود الغير مبرر، والغير مفهوم. يعتبر بطل الرواية( وهو بطل أهزوجة الرحيل- المخرج السينمائي الشاب)، القضية الفلسطينية هي القضية المعيارية التي يمكن أن تقيس بها التحرك العربي، فهي تصلح مقياسا فاعلا للعجز ولا فاعلية الحلول، ولم ينس البطل أن يسخر من نفسه، فقد روى لنا بشيء من التفصيل رحلته السياحية إلى تركيا، أثناء القصف الإسرائيلي الوحشي على غزة، وكيف كانت مشاهداته هناك للجمال في بحر مرمرة ومضيق البسفور، والآثار العثمانية، وكيف عاد إلى التاريخ في أحلام يقظة تتسم بالبطولة والسخرية، صار جنديا في جيش فتح رومللي(أروبا)، وفتح القسطنطينية مع محمد الفاتح، وأرسله محمد الفاتح إلى غزة على رأس خسة آلاف جندي، تصدت لهم مجموعة من خمسة أشخاص تقودهم ليفني، هذه المجموعة هزمتهم شر هزيمة بل إن ليفني قد وقّعت اسمها على مؤخرة القائد العظيم، وإنه لأمر مؤسف أن تكتب امرأة يهودية اسمها على مؤخرة رجل عربي.
السخرية والمفارقة أداتان أثيرتان للراوي، فيحدثنا عن جلسة طارئة في الجامعة العربية لتحضير الأروح، والروح المراد تحضيرها هي روح صلاح الدين الأيوبي. مواقف صادمة منذ الصفحات الأولى، مجموعة من المدنيين في أسر العسكر، و قد طلبوا منهم بناء مدينة ليسكنوها، فظنوا بأنهم نالوا شيئا من الحرية، والمفاجأة أن الجنود قد استخدموا المدينة في تدريب على قصف المدن إستعدادا لمعركة هرمجدون، الفاصلة بين اليهود والمسلمين، هوية الجيش مخفية، وبلاغة ذلك أن الجيوش الوطنية التي تخضع لإرادة المستبدين، مثل جيوش العدو، وأن المواطنة في ظل الدكتاتوريات هي نوع من الأسر. وفي لمحة سريعة تتحدث الرواية عن الإستبداد العثماني الذي كان السبب في الثورة العربية الكبرى، وما فعله السفاح جمال باشا بالعرب، كنوع من إسقاط التأريخ على الواقع، فهي لا تتحدث مباشرة عما يحدث في سوريا في ثوتها من أجل الحرية، ضد نظام بشار، بل يعرض لنا الرواي قصيدة كان قد كتبها في حب بشار، بعنوان بيرق العرب، وجعل بدايتها:" بشرى للعرب، من نصر قد اقترب، بسيف بشار الأبي، بيرق العرب"، هذه القصيدة تعد مؤشرا على خيبة الأمل، كما أن هنالك قصيدة أخرى عن الشيخ حسن نصر الله، ويخلص الفصل الثاني قصيدة هايكو تقول:
ثمة أشياء،
لا نراها جيدا،
إلا في الظلام.
هذه القصيدة القصيرة، تلخص ببلاغة لا حدود لها حيرتنا في كتير من الرموز السياسية والدينية والثقافية والفنية والتي لم نرها جيدا إلا في ظلام المحن.
تتعرض الرواية للغزو الأمريكي للعراق، ونفسية الجندي الغربي تجاه العرب، والأغراض الخفية وراء التدخلات الأجنبية، لتقول إنه لا بديل عن الحل العربي الشجاع والجاد والمخلص.
الرواية الجديدة، بحسب القاص والصحافي السوداني حسام الدين صالح، جاءت أكثر تماسكا من الأهزوجة، والتي كانت شديدة التكثيف لتغطيتها مساحة واسعة من الثيمات، وكانت بعض مقاطعها أقرب للشعر منها للرواية، وكانت شديدة الرمزية لدرجة تكون فيها بعيدة المنال للقارئ العادي. نص الرواية الجديدة، بحسب محرر إي كتب،( سلس وغير معقد)، وجاء الحوار حيويا في كثير من الأحيان، وطبيعيا أيضا، يقول محرر إي كتب:" لقد اختار الشاعر أن يقدم عمله كما تقدم الأشياء نفسها، وأدرج حوارات تتسم بالسطحية والسذاجة التي تتسم بها أفكارنا وتصوراتنا المعدة في قوالب جاهزة، وبذلك فإنه تحاشى كل الأدوات التي كان بوسعها أن تجعل العمل صناعيا أو مفتعلا"، وكان الحوار في الأهزوجة مثقلا بأفكار البطل حول الأشياء والأشخاص والحياة، ولم يكن يخدم درامية السرد إلا قليلا.
ما تميزت به رواية في انتظار السلحفاة، هو إستعارتها لفن الهايكو الياباني الأصل إلى عالم الرواية، حيث تكون القصيدة صدى للسرد أو كموسيقى تصويرية تلخص التجربة الشعورية في المشهد، مما يمكن أن يعتبر سبقا عالميا للرواية العربية. أيضا حملت الرواية نسخة مصغرة لها تمثلت في الفصل الأول. إستعارت الرواية من البحث العلمي وضعه قائمة بالمراجع، وهذا ليس جديدا، الجديد هو خروج الرواية بتوصية، وقد لجأ المؤلف إلى حيلة طريفة أو قل ساذجة، فأخبرنا بأن بطل الرواية قد أوصاه بأن يؤسس فرعا واقعيا لمنظمته التي أسسها في عالم الرواية، هذه المنظمة هي منظمة نداء الشعوب، والتي جاء شرح أهدافها داخل الرواية، حيث كان البطل يحكي، في الصفحات الأخيرة للرواية، لصديقه الروائي التركي أردغان آغا، الذي كان ضمن قافلة أسطول الحرية المتجهة إلى غزة، وقد استشهد أردغان آغا بنيران العدو الصهيوني. يتحدث البطل عن تحولاته في العام 2011، وتفاعله مع قضايا الشعوب، وزيارته للسوريين في تركيا، وتأسيسه لمنظمة نداء الشعوب، ليؤكد على أن العرب عندما يتغيرون سيتغير وجه الأرض، وهذه حقيقة لا ينكرها منصف، كان من الممكن أن يكون هذا الفصل ختاما للرواية، ولكن يأتي الفصل الأخير الذي يزور فيه البطل قرية خيالية بها ضريح لهولاكو، يحدثه مسئول الضريح عن الصندوق الذي أرهقه حمله، والذي أعتطه إياه امرأة عربية لا يعرف عنوانها، في لحظة غريبة ضمن أحلام يقظته، ويوصيه بأن يربط الصندوق في سلحفاة، أما هو فمن مكانه سيرسل رسالة إلى المرأة لتكون في انتظار السلحفاة، هذه النهاية الثانية جاءت لتقول بأن المبادرات الفردية لا يمكن أن تحل قضية أمة، وأن التحرك العربي يجب أن يسرع خطاه، لأن المأساة لا تحتمل الإنتظار.
الفصل الأول لرواية في انتظار السلحفاة:
اقتحموا غرفة نومنا، رجّنا الذعر رجاً، أنا وزوجتي، كانوا ستة، أجسامهم ضخمة؛ كأنما تم العثور عليهم أحياءا في مقبرة ضاربة الجذور في عمق التأريخ، أعينهم كالجمر؛ مرعبة جدا، كأن الشرارة التي توقد بها الجحيم تؤخذ منها مباشرة، على وجوههم دمامة الشر، كانوا بشعين، أكثر بشاعة من أولئك الذين كنا في أسرهم، الأشرار الذين أخذونا في حاويات جنود؛ إلى أرض مقفرة؛ موحشة جدا، أوقفونا في صفوف مستقيمة، بحسب الطول، ووقف الجنود في الجهة المقابلة لنا؛ مشهرين أسلحتهم، أيقنّا أننا سنُعدم هناك، كما أعدم إخوان لنا من قبل، كانت أسراب من الغربان تحلق فوقنا، وبعضها قد حط على رؤوسنا بالفعل، في تلك اللحظات تخيلت جثتي تأكلها الغربان، مثل الجيف التي رأيتها من قبل، إنها تبدأ أكل الجيفة من...، فهل يحدث هذا معي أيضا؟، يا للمصير الدامي! هكذا تساءلت، لا شك أن وجوه النساء كانت أكثر فظاعة من جيرنيكا، رسم عليها الخوف من لحظة سيرين فيها الموت يحصد أطفالهن، لوحات قاتلة، كان في حاويتنا رجل تم سلخ جلده قبل يومين لأنه اعترض على لمس جندي له في منطقة لا يرضى رجل أن تمتد إليها يد رجل، سلخوا جلده وجمعونا لنراه، لم يمت الرجل، لكنه في حالة مزرية، بالأمس دحرجوه في كومة من الحصى عند الظهيرة، لقد كاد الذباب أن يكون له جلدا، حتى لسعات الذباب غير موجعة بالنسبة إليه، التصق بحديد الحاوية، كانت رائحته تذكّر بالموت، وكانت معنا امرأة وضعت أثناء دخول جندي دميم إلى زنزانتها، أخذوها هي أيضا؛ بدمائها ومشيمتها، الحبل السري لم يُقطع إلا في الحاوية، قطعته عجوز بأسنانها، هنالك عجوز معمر أصيب بمقص حاد، كان يصرخ من الألم، كان يحاول أن يطوي جسمه كله على بطنه، حتى احدودب ظهره، مات في الطريق، فتاة أصابتها ذكرى اغتصابها من مائة جندي، بالجنون، كانت حالتها مأساوية، قفذت من الحاوية، في حين غفلة من الجنود الذين كانوا يغازلون فتياتنا، أما نحن فنكسنا رؤوسنا، لم يتوقفوا من أجلها، دهستها الحاوية التالية، كانت تقول أثناء طوابير عرضنا السابقة:" أريد أن أغتسل في البحر، الرائحة الكريهة لم تفارق جسدي"، لم تشهد هذا الطابور، ربما دفنتها كائنات أخرى، رأينا الغبار من بعيد، لا أعرف كيف كانت وجوه الرفاق عندما شاهدوا الغبار، ربما ظنوا أن فيلقا عربيا جاء لنجدتنا، ربما كانت وجوههم ملطخة بالفرحة والدهشة، لكنهم عرفوا أنها عاصفة ترابية، حين مرت بالقرب منا، ولا أعرف كيف كان أثر هذه الصدمة على الرفاق، لم نكن ننظر إلى بعضنا، القوانين العسكرية تمنع أن توزع نظراتك سدى عندما تكون في طابور، فقط عليك أن تحدق في وجه القائد، وعليك في ذات الوقت أن تجعل نظراتك في انسجام تام مع كبريائه، مثلما تنسجم إرادتك مع إرادته، كان القائد على منصة عالية، صمت طويلا، وبعد أن مسح شاربه، ونظر إلى كتفيه، ثم إلى حذائه، ثم إلينا، قال:
" أنتم أسرى من خاص، نعم، من نوع خاص، ولذلك أتينا بكم إلى هنا، لتبنوا لكم بيوتا في هذا المكان، لتجتمع كل عائلة وتعيش حياة عادية، وهذا الأمر لم يحدث في التأريخ، فأنتم محظوظون، لأنكم وقعتم في أيدي جنود متحضرين مثلنا، نحن لسنا كالبرابرة، الماء قريب من هنا والطين، فاجتهدوا في البناء، وليساعد بعضكم بعضا، والله ولي التوفيق، هالالويا".
اجتهدنا كأننا الجن في عهد النبي سليمان، عليه السلام، وأكملنا البناء، ونحن نردد:" هيلا هيلا هيلا بيلا هيلا هيلا هيلا هوبّْا"، ولم ننسَ المرافق العامة ودور العبادة، كلها عرشناها بما هو متاح، وكنا قد حصلنا على العيدان من غابة قريبة، رغم اعتراض بعض منظمات حقوق الشجر، بالذات منظمة حقوق شجرة الجميز، بحث الناس عن معارفهم، وسكنت كل عائلة في بيت واحد، وشعرنا بنوع من الحرية؛ على حوافها أسر مريع، لقد بنينا بيوتنا بكل فرح، البعض كان يخطط للزواج، أسر حددت مواعيد الختان، تقدم شباب لخطبة فتيات، عادت إلينا الروح، ولكن يا للحسرة!، لم نسأل أنفسنا، من قبل، لماذا أعطونا هذه الفرصة؟، وعرفنا بعد فوات الأوان، إن كل ذلك كان ضمن الاستعداد لموقعة هرمجدون الفاصلة، بين اليهود والمسلمين، لتكون مساكننا ساحة للتدرب على استخدام المدفعية الثقيلة والطائرات، واختبار فاعلية الجوع والعطش في الحروب المقدسة، كنت أنا وزوجتي ضمن الملايين القليلة الناجية من المذبحة التدريبية، ولذلك أخذونا إلى قفر آخر، وقبل أن يوقفونا في تشكيلة أشبه بخارطة العالم العربي، وضعوا في المنتصف سارية طويلة عليها علم جامعة الدول العربية، واختاروا موسيقيين من بيننا لتلحين نشيد يكون النشيد الوطني الجامع لكل العرب، واختاروا هم- للسخرية منا- القصيدة التي تقول:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا
قالوا لنا:" ربما هذا النشيد هو رغبتكم الأخيرة الدفينة، نحن نعرف رغباتكم ".
وبعد عزف النشيد، أخذوا يتدربون على الرماية، بزوايا مختلفة، كانت زوجتي بالقرب مني، قلت لها:" لابد أن نهرب"، قالت لي:" والقيود؟"، قلت:" إنها ضعيفة للغاية، إنهم يظنون أن أي قيد يكفي لتكبيلنا".
كان إطلاق النار كثيفا، ومع ذلك استطعنا أن نهرب، ممسكا بزوجتي من يدها، كانت تسقط حينا فأرفعها، وحينا تقول لي :" اذهب أنت، فأنا أشعر أن روحي تريد أن تفيض"، كنا في غاية الجوع والعطش والتعب، وكانوا يتبعوننا ويطلقون النار علينا، مررنا بكافة التضاريس، دخلنا غابة كثيفة، وأخذنا نركض، هربنا من الوحوش إلى وحوش أقل وحشية لم تركض خلفنا، وخلف الغابة كوخ لعجوز، وجدنا أنفسنا فجأة داخله، نلهث، جف حلقينا، حتى لم نقوَ على الكلام، أعطتنا العجوز قليلا من الماء، وأعطتنا قليلا من الطعام، كنا نلتهمه كالمجانين، بسرعة عجيبة، سالت دموع العجوز، سألتنا عن قصتنا فرويناها، تأسفت لحالنا، ثم أخذت تحدثنا بقصتها:
" يالها من ذكرى مؤلمة، هي التي جعلتني أكره البشر، وآتي لأسكن هنا وحيدة قرب الوحوش، الوحوش التي أشعر وأنا قربها كأنني أتمتع بحماية خاصة، كانت قصتي قبل سنوات، لا أعرف ماذا أقول، إنه...، إنه....، إنه أمر من الصعب أن تحكيه امرأة، ولكن...آه، ولكن، آآآ، في تلك الأيام كنت أخاف أن أنام، في الحقيقة، في اليقظة أستطيع أن أفعل شيئاً تجاه أفكاري، لكن النوم لا يتيح لي ذلك، لقد كنت أرهبه لكيلا أراني أرقص فوق مقلاة كبيرة مثبتة على قوائم طويلة تبدو وكأنها مسرح للمهانة، وتحتي تشتعل النار، في جو يبدو وكأنه مشهد من فيلم، حيث رجال عشيرتي بملابسهم العربية القديمة، ونسائها والجواري يغنين، وأنا أرقص عارية تماما، ويُجبر رجال عشيرتي على مشاهدتي، وكل من كان يخفض رأسه، كانوا يطلقون النار على رأسه، هكذا أراد الجنود الذين أسرونا أن يكون المشهد، يالهم من بارعين في فنون التعذيب، ويحدق فيّ جندي بغيض وهو يشرب الخمر، والفرقة العربية التي كونوها تغني:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
وتتجاوب معها أصوات الحيوانات التي جلبوها، حتى الإبل، وبعد أن أكملُ الرقص و...، يأخذني الجندي إلى غرفة من ريش الدجاج، منتنة الرائحة، بها سجادة حين أقترب منها أصاب بالفزع، كأن السجادة هي الفزع في أكثر صوره صخباً، هنالك الأشباح تعبث بي، هذه تهدهدني كي أنام وتلك تهددني كيلا أنام، وأخرى تسهر في خدمتي، هه تسقيني خمرا عجيباً من الزقوم، تسقيني حتى الثمالة، وحين أثمل تغطيني بعباءة من الأشواك وتقوم بدغدغتي كي أضحك، وحين أضحك تضع الأشباح التي تكنّ لي عداءاً أكبر، تضع على رأسي قبعة من مادة مجهولة، فأصرخ صرخة لا تقل غرابة عن تلك اللسعة الغامضة التي تسببها القبعة، وبعد أن يفعل بي الجنود ما يريدون، يأتيني منفذ الإعدامات الفردية، بخطواته الرتيبة مثل صوته يقول:
" قومي، سنقوم اليوم بإعدامك، أي ستُزفين إلى تلك العجوز الشمطاء التي تسمى الموت".
ثم يتحدث لي عن فوائد الموت بالنسبة إلى أعضاء الجسم، ويوصيني بأن أبلغ رسالته إلى زوجته بمجرد وصولي إلى السماء، ويطلب مني أن أستعجل المسيح، وأن أروي له أخباراً ملفقة عن الأوضاع في الأرض، فينزل في الحين، وأن أقول له إن منفذ الإعدامات الفردية فلان يقول لك:" لاتهتم، ففي الأرض رجال من أمثالي، لن يدعوك تنتظر طويلا"، ويضرب على صدره، ويبتسم ابتسامة غير واضحة الغرض، ويطلب مني أن أسلم المسيح شريط فيديو يبين تأمين مهبطه في دمشق، وصوراً فوتوغرافية لمجلس الأمن في نيويورك، حيث سيلقى خطابه الأول، وصورة للبيت الأبيض حيث يلتقي بالرئيس الأمريكي ووزير خارجيته، وصورة لمبنى الكنيست الإسرائيلي، حيث ستتم مباركته ثم يعود إلى أمريكا يرشح نفسه رئيساً لها، وسيفوز بالطبع بما له من شعبية عريضة، ليس بين أحباب المحبة والسلام وحسب، بل وبين الإرهابيين أيضا، يطلعني على ذلك بإيمان قاطع، ثم يمسك بيدي، تدب الهواجس على صدري كدبيب النمل، لم أره وسط الظلام، ربما علق على رقبة الليل مصباحه، والليل طويل، يخرجني إلى ساحة مرتفعة جداً، هنالك يصعد بي إلى المقصلة، ويضع الحبل الذي يتدلى من الشمس على رقبتي، بعد أن يرش على عيوني سائلاً موسعاً لحدقة العين .. وينقطع رأسي، وأرى بعيوني المفتوحة الفرقة العربية وهي تنقر الدفوف، والجواري يغنين على أنغام العود: (سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد)، وأصحو وأنا مصابة بالاختناق كالذي هوى عليه أضخم جبل في العالم، والعرق يتدفق من جسمي كأن خريفاً ما قد عرف آخر أسرار العطاء".
بعد سماع قصة العجوز الحزينة وامتلاء عيوننا بالدموع، تقول لي زوجتي:
-" لابد أن نذهب فورا، إنهم الآن يبحثون عنا، لا أريد أن يحدث لي ما حدث لها، الموت أهون من ذلك".
تودعنا العجوز، وتخبرنا عن طريق قصيرة توصلنا إلى أقرب مدينة من هنا، وتقف تنظر إلينا حتى نختفي، ونمشي مسافة، فنرى جنودا فنتختفى خلف بعض الأشجار، ونسلك طريقا أخرى، ونركض، نركض حتى نصل مكانا به جمع غفير، جلسنا بينهم، ونحن نلهث، قال لي الرجل الذي بجواري:
-" لقد جئتم في الوقت المناسب، قبل الإفتتاح بلحظات، أشكر لكما هذا الولاء لفريقكما، لقد تنازلتما حتى عن الاستحمام من أجله، رائحتكما كريهة، ولكن لا بأس إن كنتما من أنصار فريقي، لو كنتما من الخصم لفضحتكما هه هه هه هاااااااه ".
-" نعم، فعلا"، قلت متمتما وأنا مضطرب جدا، نظرت إلى نفسي، وركزت على رائحتي برهة، وخشيت أن يواصل الحديث.
كان الملعب مليئا بالماء، في البداية، رقصت الدلافين، ثم جاء الفريقان، إذا هي مباراة في كرة الماء، بدأ اللعب وسط الصفير العجيب، وتواصل في حماسة، وحين شب الحريق في البيوت المجاورة للملعب، كان الفريقان في أوج الحماسة، وتصاعد الدخان، وغطت الملعب سحابة سوداء، أخذ الكل يسعل، وكنا نرى ألسنة اللهب تتصاعد، تتصاعد مثل صيحات الجماهير، وأطلق الحكم صافرته لإنهاء الشوط الأول، وبين الشوطين، أرسل الحكم وفدا برئاسة مساعده، لمعرفة ما حدث خارج الملعب؟، ما الذي جعل الدخان يكاد يحجب الرؤية؟، وأعطى كل واحد منهم تلسكوبا فلكيا من أجل الرؤية الواضحة، وجاؤوا قبل موعد الشوط الثاني بدقيقتين، وكان الناس يحلّلون ما حدث في الشوط الأول، جاء المساعد وقال للحكم:
-" إنه حريق ".
وأعلنت مكبرات الصوت:
-" إنه حريق ".
تواصل اللعب، وسط هياج الجماهير، الجماهير التي نسيت تماما ما يحدث في الخارج، وقبل نهاية المباراة بقليل، مات الآلاف اختناقا، والذين هربوا من الملعب، كان عليهم أن يعبروا صحراء من الرماد، من أجل الوصول إلى بيوتهم، هنالك يمكنهم أن يلعنوا الذين أشعلوا الحريق وحرموهم متعة مشاهدة المباراة.
***
أيقظونا بركلتين قويتين، لي ولها، لا أعرف كيف دخلوا إلى غرفة نومنا، لطمني أحدهم في فمي، أمسك بي أحدهم بقوة، مصوبا المسدس إلى رأسي، أما الآخر فقد أخذ يوجه الضربات إلى بطني، ضربة تلو أخرى، والشخص الثالث أمسك بزوجتي، والرابع أخذ يضربها، ويسمعها عبارات قذرة، كنا في ملابس النوم، وكانت زوجتي تصرخ بشدة، وكنت أسأل ماذا حدث؟ من أنتم؟ ماذا تريدون؟، وزوجتي تسأل: ماذا فعلنا لكم؟، وكان الرجل الخامس يبحث في المكان عن شيء ما، وكان كبيرهم في المنتصف بيننا، ينظر إلينا في صمت، وبحقد، كان يعبث بمسدسه، أدخل سبابة يمناه في حلقة الزناد، وأخذ يدير المسدس، وكان صدره يزداد حجما، كأن شيئا ما بداخله كان ينمو، وحين بلغ اللحظة التي اكتمل فيها النمو، لطمني على وجهي، وقال:
-" أين الصندوق؟".
إزدادت ضربات قلبي، وشعرت بإعصار ما يضرب أعماقي وقلت:
-" لا أعرف عم تتحدث؟".
-" يبدو أنك ماكر جدا، ولكن نحن سنعرف كل شيء، فستقول لنا بسهولة".
ضربني بقبضة يده على فمي، وتدفق الدم بغزارة، وركلني أسفل الحزام، وكان الألم لا يمكن تصوره، كاد يغمى عليّ، أحسست بمرارة الألم في كل جسمي، انحنيت مغمضا عيني، وكأنني غبت عن الدنيا، بعد مدة، سمعته يسأل زوجتي، وهي تقسم له أن قصة الصندوق عبارة عن هراء، وأنني مريض نفسيا أتخيل أشياء ليست موجودة في الواقع، يبدو أن لدراسته السينما أثر في ذلك"، هكذا تحدثت جهيزة وهي تتلعثم، وظنت أنها بكلماتها هذه ستقطع قول كل خطيب، ومن أجل ذلك حصلت على مكافأة، كان الرجلان يشدان شعرها كلما أنكرت، أخيرا لطمها الرجل كما فعل بي، وقال:
-" إما أن تحدثينا وإما أن نفعل بك وبزوجك الأفاعيل، وسنجعل كل منكما يكره رؤية الآخر إلى الأبد، ربما سمعت عن ذلك الرجل الذي فعلنا به ما سنفعله بكما وعندما أطلقنا سراحه، تحول إلى وحش، كان يغرز المدية في بطن كل من يسأله عن المعتقل، يظن أن كل الناس قد رأوه، لقد عاد بنفسه إلى السجن، وأعتقد أنكما شابين، ولا يرضيكما مصير كهذا!".
كانت زوجتي تصرخ وتستغيث بي، قال لها كبيرهم:
-" سنثبت لك بعد قليل، أنك متزوجة من أنثى".
وأخذ يمرر مسدسه على صدر زوجتي، أغمضت عيني كيلا أرى، وكانت تصرخ، وأنا أحاول أن أنزع نفسي من أيدي الطاغيتين، وأخذت أبصق في وجه كبيرهم بشدة، وضعوا شريطا لاصقا على فمي، لطمني كبيرهم وقال:
-" هل تريد أن ترى ما نريد أن نقوم به أم من الأفضل أن نعصب عينيك؟".
امتلأ صدري بالغيظ، وكنت كقنبلة على وشك الانفجار، ونزعت يدي من العتاة وتقدمت نحو كبيرهم وأنا أصرخ صرخة مزقت الشريط اللاصق، أمسكوا بي، عصبوا عينيّ، لم يقوموا بشيء آخر، أخذوني إلى المعتقل، وتركوا زوجتي، أو أخذوها، لا أعرف، في الطريق ونحن في العربة، كانوا يرهبونني، سمعت أحدهم يقول:" سأقلع أظافرك"، وآخر:" سأجلسك على الكرسي الكهربائي"، وآخر:" سأجعلك تمشي في غرفة مليئة بالمسامير والزجاج المكسور"، وآخر:" سأجعل منك حساءا لكلبي"، وآخر:" سأخصيك"، وآخر:" سأغتصبك"، في تلك اللحظات تمنيت أن أموت، فتحوا العصابة التي في عيوني، وجدت نفسي أمام الضابط، ابتسم لي وقدم لي سيجارة، قلت: "لا أدخن"، سألني عن الصندوق، فذكرت له القصة، كان ينظر إلى التلفزيون وأنا أحكي له، كان البرنامج عن سباق الثيران، لا أعرف إن كان هو أيضا من هواة مصارعة الثيران أم يشاهد من أجل المتعة، أنا أيضا كنت أشاهد وأحكي له، وعندما انتهيت، قال:" لقد نشرت قصة عن فدائية عجوز، أليس كذلك؟، قلت:" نعم، كأنك تقصد أنني لفقت قصة الصندوق"، قال:" سنعرف ذلك لاحقا، والآن أحك لي قصة الفدائية العجوز، أخذت أسردها ولم ينتبه إليّ إلا حين قلت:
" ....ليلة مريعة، وحين لاحت خصلة الفجر لعينيها المحاطتين بالتجاعيد، وطبول في أعماقها أكبر من حجم الأرض بآلاف المرات، تنوح على فقد شعاع كان ينوّر عتمتها الحالكة، تأكدت الفدائية العجوز من أن القصة لمّا تنتهِ بعد، وأن عذابات ليلة البارحة ستُلبس ثوبها الأسود للصباح، وأن الرجل الذي جاءها في العصر وأخبرها بمكان تسليم السلاح، ربما كان خيالا، لقد خرجت متسللة، وأنستها فرحتها وجود مخاطرة قد تؤدي إلى الاستشهاد، كانت أمامها مشكلة التعرف على الأمكنة، ولذلك ضلت الطريق في هذه الغابة التي لم ترها قط، وانتظرت حتى الصباح لتهتدي إلى طريق، وحزرتْ أن الغابة ما زالت حبلى بالمفاجآت، المفاجآت التي اختبأت زمنا طويلا في كهف ما، لتأتي إليها دفعة واحدة، بعد أن تجاوزت السبعين من العمر، وصارت تلبس حزن الحاضر مصبوغا بسواد الموت السابع للقطة، في هذه الأيام، ازداد حزنها لأنها لم تستشهد حتى الآن، وازداد تعلقها بالموتى وأغراضهم، أغراضهم التي يسميها البروفسور استيوارت بيغوت ب(علم القمامة) .
سمعتْ عواء الذئاب وزئير الأسود، وجعلها الضجيج كمن يعيش في محطة القطار وهو مصاب بصداع مستمر، تصببت عرقا حتى بدت مثل تمثال من الشمع على مقربة من فوهة بركان، وكانت تشاهد الأشباح وهي تحوم حولها وكأنها لم ترها، ورأت الغيلان في الأشكال التي كانت تحكي عنها جدتها، ارتجفت بطريقة غير اعتيادية، وأدركت أن هذه إشارة باقتراب خطر ما، خصوصا أن فمها قد ارتخى كثيرا، وأحست بانقباض عنيف في قدمها اليسرى، وهنا فكرت في الهرب، لكن الأصوات كانت تأتي من كل مكان، وكانت الخيالات تتراقص أنّى ترسي نظراتها المهشمة بفعل الخوف الشديد، وتفكر في الحرب القادمة، وهي ترتجف، خطرت على بالها فكرة خالدة: لماذا لا تزيح عن قلبها هذه الأصباغ التي جعلته كالمهرج، وتصغي إلى جهة تكون فيها الأصوات خفيفة توحي بقلة الكائنات، اختارت الجهة التي أمامها مباشرة، كانت تمشي ثم تلتف بساق شجرة وتكتم أنفاسها وتذيب كل خلاياها في سكون عميق، وتبينت فجأة أن الليلة الموحشة كانت مقمرة، لكن القمر كان مخفيا بهياكل عظمية تطير في الهواء كالسحب الكثيفة، وحين انقشعت الهياكل، حلت الغمائم محلها فأسدت إليها معروفا، إذ غطت القمر بسرعة، كفتاة حيية حين ينكشف شيء من صدرها للرجال، التصقت بشجرة ذات أشواك سامة، وحين اقترب منها حيوان كان يشمشم في الأرض بصوت مسموع، أغلقت عينيها بقوة، وكتمت بكاءها، وكانت الأشواك تتوغل في جسمها مثلما تتوغل هي في الشجرة، وكانت تقرأ آية الكرسي، متخبطة في قراءتها مرات ومرات، وحين بلغت قوله تعالى:(ولا يؤوده حفظهما وهو العليّ العظيم)، كان الحيوان قد ذهب، ثم تحركت ومشت عدة خطوات، ولأنها لم تنظر إلى أسفل منها، سقطت في حفرة صغيرة مليئة بالمياه، فاتسخت ملابسها، وأحست بتدفق الدماء المفاجئ إلى فكها، كانت الأرض طينية، ولذلك لم يكن الخروج سهلا، وبعد عدة محاولات خرجت وهي تتلفت كطفل مطعون يتمنى أن يصادف من يسعفه، وسارت ما بين خوف يذيب جسمها وآهات التعب، وحين أشرقت الشمس وأعطى النور كل شيء شكله في العيون، وجدت نفسها في غابة محترقة، ورأت على بعد خمسين مترا منها، نهرا وجبلا خلف النهر، أكدت لها الشمس أيضا أنها تسير ناحية الشرق، لم يكن النهر عريضا، ورأت نقوشا على الصخور الملساء الكبيرة، وصورة كبيرة للشمس وقربها صورة لكلب، قالت في نفسها: هذه صورة رمزية، ترمز إلى أن الكلاب البشرية دوما ما تكون بالقرب من التنويريين طلائع التغيير، لتحجب نورهم، ثم نظرت إلى الخضرة التي تتناثر على الجبل، وكأنها تنظر إلى الأمل، الأمل الذي يجعلها لا تمل الإصلاح، وأن نباح الكلاب لا يحجب أشعة الشمس، هكذا فكرت، كانت النقوش والتماثيل في كل مكان، كأنها قرية فضح طوفان ما، كل ما كانت تخفيه رمالها، وكانت أسراب الطيور تحلق فوق الجبل، وسمعت ضحكات غريبة، وتوصلت إلى أن هنالك بشر خلف الجبل، وتوصلت إلى أنهم أناس طيبون، ورسمت لحياتهم خارطة أولية قابلة للتعديل بعد الوقوف على أرض الحقيقة، ككل الصور الذهنية القابلة للرسوخ الجبلي أوالذوبان الجليدي، من تلك الملامح التي استطاعت أن ترسمها: أن حياتهم مبنية على الرعي والزراعة ولا يعرفون الصيد، لأن تلك الضحكات الشاعرية وهذا الفن يوحي بأنهم عرفوا أسرار الحياة، ولذلك لايمكن أن يقتلوا أي شيء حتى لو كان ذلك من أجل الطعام أو الدفاع عن النفس أو استخدامه في علاج ضعف الرجال، وعندما كانت توقع هذه الفكرة، استطاعت أن ترى جميع هذه السمات في تمثالين متقابلين، من ذهب، فتاة حسناء تدير وجهها خجلا وفتى وسيم يقدم لها وردة بنفسجية، وفوقهما طائر جميل يعزف على الناي، لدرجة أنها حين أصغت للأشكال باحدى طرق التأمل الخارقة، استطاعت أن تسمع لحنا حزينا يعبر عن الحنان لدرجة تسيل الدمع، وتوصلت مبدئيا إلى أن تلك المقطوعة تسمى ب(الحب الذي يبقى مرفرفا)، وتوصلت مبدئيا إلى أنها مقطوعة شعبية لمؤلف مجهول، استطاع أن يجسد قصة حب مشهورة بين عاشقين مر حبهما بعواصف اعتراض كثيرة، حتى انتحرا في هذا النهر، وطعن كل منهما الآخر طعنة رحيمة في الأورطى، ثم سقطا في النهر، وسبب ذلك أنهما كانا يعتقدان أن أرواح العشاق لها جزءان :أرضي وسماوي، وتسهيلا لعملية الخروج الكامل للروح، اختارا هذه الطريقة المزدوجة: الطعن الرحيم/الغرق، ولذلك اكتسب هذا النهر لونه الأحمر القاني، وسمعتْ الأمواج كأنها مرثية حزينة، وتخيلت أن الأهالي قد صنعوا لهما تمثالين من الذهب تكفيرا عن الظلم الذي لحق بهما، وقادتها هذه الأحاسيس إلى الاعتقاد بأن هؤلاء القوم غاية في الرقة والتعامل الإنساني، وتخيلت أنهم حين يرونها، سيعُدون تلك اللحظة ضمن اللحظات التاريخية التي يُحتفل بها لأيام كلما قذفها نهر الزمن إلى شاطئ الحياة، ثم نظرت إلى منحوتة كبيرة جدا تجسد نشاطا اجتماعيا، اعتقدت بأنها مناسبة حصاد، رجل يضحك بشدة، امرأة ترقص وفمها مفتوح كأنها مغنية القبيلة، رجل ذو شوارب يضحك بشدة وفي يده كأس أزرق اللون، نساء يحملن على رؤوسهن آنية مستديرة وبعضهنّ منحنيات على أكوام محصول ما، صبي عار يطرد بقرة رافعا يده، البقرة ترفع ذيلها عاليا وأرجلها يمكن أن يقال عنها مبعثرة، أطفال يطيرون فوق الجميع بأجنحة بيضاء، مبتسمين بصورة تجعل الإنسان الرقيق يبكي لأنه سيتذكر فورا كل اللحظات غير السعيدة التي لم يعزفها على ربابة البهجة، امرأة بدينة بملابس بيضاء تصب الطعام، وصبي يقف بجوارها، ينظر إلى الطعام بإشفاق، في الأعلى، أي قريبا من زرقة السماء وبياض السحب التي تحيط بالشمس، رجال يذبحون الخراف وهم يبكون، وقربهم كلب ضخم، ورجال يؤدون، على الأرجح، تراتيل دينية، رجل ساجد حط على ظهره طائران ملونان، ورجال رافعي الأكف والأنظار إلى الشمس؛ لوحة موحية قادتها إلى الاعتقاد بأن هذا الشعب متعاون جدا، ومتدين لدرجة أنه لم ينسَ الله في لحظات الرخاء، ثم نظرت إلى الرجل الذي يزين اللوحة بوقفته الخالدة، واضعا يده اليسرى على خصره ويشير باليمنى إلى الناس، وتركت تفاصيل أخرى لم تشاهدها بدقة، لأن المطر قد بدأ ينزل في تلك اللحظات، وبشدة، وهي تتحرك نحو النهر، طرأت على رأسها فكرة هي أن هؤلاء القوم في غاية الأمانة، فكيف تبقى كل هذه التماثيل الذهبية والحجرية، دون حراسة، بل إن بريق الذهب قد أوحى إليها بأن هنالك عملية تنظيف تتم في فترات محددة، وفي طقوس ساحرة، تشارك فيها حتي الحيوانات، كل هذا قد شجعها لتعبر النهر الأحمر، وحين اقتربت منه، وملابسها مبتلة تماما حتى التصقت بجسمها، بطريقة تجعل من الحركة أمرا عسيرا، كانت ترتجف نتيجة البرد القارس، لكنه أفضل من برد البارحة، في وحشة الغابة، اقتربت من النهر أكثر، شمت رائحة الدم، أصيبت بالغثيان، لكنها فكرت في الأمان الذي سيوفره لها هؤلاء القوم وربما دلوها على الطريق وأعطوها راحلة، وحين التفتت إلى الخلف، رأت مجموعة من القردة تجلد نمرا، فخافت، لكنها تأكدت أنها في مكان آمن لحد ما، إلى أن تتغير زاويا رؤية الكائنات الأخرى، وحين وضعت رجلها لتتأكد من عمق النهر، أخرجتها سريعا، لأن نارا قد لسعتها وبشدة، واستغربت كيف تبقى النار متقدة برغم هذا الدم الجاري أو الماء؟، مر بالقرب منها جزع شجرة، ركبت عليه، وكانت تصرخ حين تميل الموجة إلى أسفل، الماء حار، ولذلك كانت تحافظ على رجلها حتى لا تدخل في الماء، وعليها أن تبقى بقدر الإمكان خارجا أو على الأقل في الطبقات الباردة نسبيا، وكانت تضغط بكلتا يديها على الجزع حتى عبرت النهر، وكادت تسقط في النهر لولا أنها تعلقت جيدا بالشاطئ، مسحت بيدها على شعرها، فتلون شعرها باللون الأحمر، ولكن المطر الذي ما زال يهطل، أزال الاحمرار بعض الشيء، واستدارت حول نفسها ناظرة إلى ملابسها التي اصطبغت بالدم، وأخذت تتنظف بعض الشيء، بفعل المطر، صعدت إلى الجبل، وتوقفت قليلا عند تمثال العاشقين، وأصاخت كي تسمع مقطوعة (الحب الذي يبقى مرفرفا)، واتجهت إلى لوحة الحصاد، لكن المطر ازداد شدة، ودخلت كهفا، أحست فيه بأنفاس كائن حي، بل حين مدت رجلها اليسرى أحست بجسم حيوان ما، خافت خوفا مرعدا، وكانت تنظر عبر بوابة الكهف المظلم إلى المطر في الخارج، وهمّت بالخروج حين توقف المطر، ولكن مع أول خطوة لها، سقطت على الأرض، لأن شيئا ما قد أمسك برجلها المتأخرة بقوة، وحين حاولت القيام، كان ذلك الشيء ممسكا بها بقوة، دون أن يصدر صوتا، فقاومت بشدة، وحين تمزق جلبابها، تحررت من قبضة ذلك الشيء، واستطاعت أن تهرب، وحين نظرت إلى الخلف، لم تر شيئا يتعقبها، وحين صعدت إلى قمة الجبل، رأت في السفح أناسا بدواْ لها وكأنها تعرفهم، وكانت هنالك جلبة، خافت في البداية، لكنها تذكرت استنتاجاتها، فتشجعت، ولكن من باب الاحتياط، أخذت تلتف حول الأشجار، وتختبئ خلف الصخور، لترى ماذا يحدث هناك، وحين اقتربت أكثر وكانت خلف صخرة كبيرة، رأتهم وقد ربطوا رجلا على جزع شجرة، كأنه محكوم عليه بالإعدام، وأخذ رجل سيفه وضرب عنقه، فسقط رأسه في الحال، صفق الموجودون، وزغردت النساء، واشتمّتْ العجوز رائحة كريهة، فنظرت أسفل منها فرأت قطة صفراء ميتة، وبالقرب منها هيكل عظمي لحمار وقربه هيكل عظمي لإنسان، وقرب الإنسان قاذورات بشرية كريهة الرائحة بالطبع، وخطت عدة خطوات فوصلت إلى قبور قليلة متفرقة، ومضت حتى كادت أن تقترب من مكان اجتماع الناس، ورأت امرأة تقضي حاجتها مختبئة خلف صخرة، اختبأت منها بسرعة ولم تتحرك إلاّ بعد أن غادرت راكضة نحو الجمع، أخذت تنظر إلى المشهد العجيب، الرجل يضرب بالسيف، تسقط الرأس، ثم ترتفع ثانية وتلتصق بالجسم كما كانت، يبصق الضحية في وجه الجلاد، يقطع الجلاد رأسه، سقطت الرأس، وارتفعت ثانية، ليبصق الضحية في وجه الجلاد وهكذا، حتى تلطخ وجه الجلاد كله، صرخ الجلاد صرخة مدوية، وانتحر بسيفه، حمله الناس وغادروا المكان وتركوا القتيل في أغلاله، فهُرعت إليه، فكت عنه الأغلال، اكتشفت أنه الرجل الذي زارها بالأمس وأخبرها عن مكان السلاح، قال لها:"هؤلاء قومي، مجانين، وأنا بينهم مثل طائر مكسور الجناح، عشت بينهم غريبا، تشهد هذه الصخور وهذا الجبل على اللحظات التي قضيتها وحيدا، أفكر في قومي وفي الحياة، كل زفرة تعبًر عن أسف شديد، هل رأيت تلك الغابة؟، لقد أحرقوها قبل شهر، أتعرفي لماذا؟ لايمكنك أن تتصوري، لقد أحرقوها انتقاما من العصافير، ليفجعوها في صغارها وبيوضها وأعشاشها، يبدو الكلام شاعريا، أتعرفي لماذا؟ لأنها كانت تغرد في يوم موت كلب شيخ القرية!، الكلب عندهم حيوان مقدس، أنهم يعبدون الشمس، والكلب كما تقول الأسطورة كان أكبر بكثير مما هو عليه الآن، وكان متزوجا من الشمس، وكان عليه أن يدلك رجلها في بداية كل سنة قمرية، وعليه أن يمشط شعرها الذي حين يتدلّى على قرية يكون الليل، وكانا إلهين في ذلك الزمان يعبدهما الأجداد، كان لهما بيت في الجهة الأخرى للجبل، كهف صغيرمظلم، لم يدخله أحد، خوفا من أن تحل عليه اللعنة، هنالك أنجبا القمر ثم بقية الأجرام السماوية، المهم في ذلك اليوم شرب الكلب من الكروم الذي اعتصرته الشمس في الليلة السابقة لبداية السنة القمرية، سكر الكلب ولم يدلك رجلها، فغضبت وطارت إلى السماء، ولذلك يرفع الكلب ذيله إلى السماء، يحاول إرضاءها، وفي اليوم الأول في كل سنة قمرية يقوم أهل القرية بتقديم قربان آدمي لتعود الشمس وأبنائها إلى حبيبها الذي تركته في الأرض، ليستريح من رفع زيله، كان لابد لي أن أقف ضد هذا الهراء، كنت أقول لهم :" اذا كانت للمرء حياة واحدة فلابد أن يعيش موحدا، وإلا فلا حياة له"، لم يقف بجواري أحد، حتى ابني تركني وسافر إلى سدوم، لإقامة( الوطن القومي للشواذ)، قلت له:" إذا كان اليهود قد سعوا إلى تأسيس وطن قومي يجمعهم بعد الدياسبورا، فهذا لا يعني أن تقلدوا الفكرة على هذا النحو، كما أنه لا توجد أية مقارنة بين الهيكل العظمي لامرأة لوط عليه السلام، والهيكل الذي يبحث عنه اليهود، هذه رعونة". لقد سمعتُ أن منظمات حقوق المرأة قد اعترضت على هجرة الرجال إلى سدوم، فمن حق المرأة إقامة علاقة طبيعية مع الرجل، لكن السدوميين أرادوا أن يثبتوا حسن نواياهم بالتنقيب عن الهيكل العظمي لامرأة سيدنا لوط عليه السلام، وإجراء عملية الاستنساخ عليه، وبناء تمثال لها تقديرا لجهودها في بث البهجة في أرض سدوم، وخدمة الإنسانية، وفي حالة العثور على الهيكل، فسيتم إجراء بعض العمليات على الحاسوب ووضع صورة
تقريبية لها، وتأسيس لجنة لجائزة امرأة لوط، تمنح جائزة سنوية لفتاة تشبهها. قدري أن أرى وأسمع ما لايسرني، قاومت بالحسنى لكنهم قرروا أن يسلبوني الحياة، ولايعرفون أن الموت أمنيتي الشهية، إنني هنا منذ شهر كامل، على هذا الجذع، بالأمس وأنا أعاني الجوع والعطش، مروا بي من هنا راكضين إلى ضريح رجل يعتقدون أن له علاقة طيبة بالشمس، لقد رأوه قبل أن يموت بيوم واحد يقبّل كلبا فقالوا إن الكلب حمّله رسالة عاجلة إلى الشمس، ولذلك صعدت روحه إليها، وصادف أن كسفت الشمس في يوم وفاته، فقالوا إن الرسالة التي كان يحملها مضمخة بالتوسل والعتاب، هل تعرفي لماذا كانو ذاهبين إلى ضريح الرجل؟، ليتوسط لهم عند إلهتهم الشمس لتنزل لهم قطا سماويا، ليلتهم الفئران الزرقاء التي يهابونها، يالي من ثرثار، هاهم قادمون، أهربي، إن وجدوك سيقتلونك، أو يقدمونك قربانا، قالت له:" وأنت ألا تهرب "؟، قال:" أنا؟، لابد أن ألبي النداء، سألته:" هل أنت الذي جأتني، وأخبرتني عن مكان السلاح؟"، قال:" نعم، ميل من هنا تقريبا، شرقا، مدفون أسفل شجرة مُعمَّرة فوق جبل، اذهبي، إن الذي جاء بك إليَّ، سيوصلك إلى هناك"، وسقطت عنه الرأس، صرخت وولَّتْ هاربة، لكن سرعان ما أحاط بها القوم من كل جانب، حتى الجبل رأته مزروعا بالرجال، أخذوها واتجهوا بها إلى الصحراء حيث تتجلّى الشمس في صورتها المثالية، وهنالك بنوا لها قفصا وقيّدوها، لتلقى حتفها بطريقة تراها الشمس مناسبة، كانت تقاوم الشمس بطأطأة الرأس، تحاول أن تحجب عينيها، حتى جاءها ثعبان والتف حول وجهها ليقيها حرارة الشمس، وحين تهب الرياح وتجلدها ذرات الرمل بكل قسوة كأنها ربيبة البشر، تتذكر أبناء شعبها الذين مص الاستبداد دمائهم، كان العطش شديدا، جف حلقها، وقالت في نفسها:" ليتهم تركوني في تلك الواحة التي تسكنها القردة، وبنت فيها مساكن من الطين"، وهبت العواصف الترابية وكادت أن تعميها، دفنتها الرياح حتى العنق، وأمضت ليلة كاملة تسمع فيها أصواتا مرعبة وضحكات، والرمال تصفعها بقوة حتى أصبح الصبح، وعند الظهيرة جاء الثعبان الذي كان يلتف على وجهها ليقيها حر الشمس، أدى دوره ببراعة حتى جاء العصر، كانت الفدائية العجوز قد فقدت الرغبة في النجاة، خارت آخر القوى التي كانت تملكها، وجهها الدامي قد صار ثقيلا لدرجة أنها ما عادت قادرة على احتماله، لكنها استطاعت أن ترى قافلة هناك، التفتت القافلة إليها عندما استجمعت الفدائية العجوز كل قوتها لتصرخ مستغيثة، لكن القافلة واصلت المسير، وحين ازداد الصراخ انفصلت عنهم الآذان وطارت كما الطيور، تكومت بالقرب منها، قالت بعد جهد :" لقد دفنونني هنا حية، النجدة ..."، وحين سكتت، طارت الآذان لتلحق بأصحابها، لكنها استجمعت قواها وقالت:" أرجو ..." توقفت الآذان عن الطيران نحو أصحابها، سمعت منها "أرجو"، وحين تأخرت عن النطق بما ترجوه، تقدمت قليلا، مما زاد في المسافة التي بينهم، وحين قالت:" ..أن توصلوا السلاح إلى أهلي"، توقفت الآذان حتي أكملت ما تريد قوله، وحين صمتت، طارت الآذان إلى أصحابها بسرعة جنونية حتي لحقت بالقافلة ولم يحدث أي تبدل في الآذان، عادت كل أذنين إلى صاحبهما بالضبط، وكان حادي الإبل يشدو، وهبت رياح عنيفة، وكانت النهاية".
***
قال لي الضابط:" إن هذه العجوز موجودة في الواقع، لقد مات ابنها تحت التعذيب في معتقلاتنا، ولذلك أخذت تؤسس تنظيما سريا يجمع كل الحاقدين على الأمن، وبالتالي القيام بعمل مسلح ضدنا، لقد كتب الخبراء عن قصتك ألف صفحة، وجدوا فيها إشارات إلى الوسائل التي ذكرها جين شارب في كتابه (من الدكتاتورية إلى الديمقراطية)، هذا في الجزء الأول، وفي الجزء الثاني إشارات واضحة تحرض على المقاومة المسلحة ضد طؤيقتنا في إدارة حياتكم، والتي تصفونها بالإحتلال، وهي كلمة حاقدة على الديمقراطية وعلى حكومتنا الرشيدة التي ضربت أروع الأمثلة في احترام حقوق الإنسان، هنالك جهات طلبت منا تسليمك لأنك من الأقلام التي تروج للإرهاب، وبما أنك عرفت كيف تصل إلى هذه العجوز، وتكتب قصتها، فمن الأفضل أن تخبرنا ببقية أفراد التنظيم، وهل صاحبة الصندوق معهم أم لا، أنت تقود تنظيما عالميا للإرهاب، وتظن أننا من الغباء بحيث نتيح لك المنابر الإعلامية لمراسلة أفراد التنظيم، بحجة أنك تكتب قصصا قصيرة، إن قصتك أيها الذكي تحمل نعيا لامرأة مطلوبة للعدالة، تسمي نفسها أم الشهيد، كل هذه الأشياء ستحدثنا عنها بعد أن تشرب معنا الشاي، تحبه بالكعك أم بالبقلاوة؟، يا جاويش! ".
-" أفندم ".
ظل صامدا
مصارع الثيران
لكنه سقط


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.