جاء من المنصورة مسقط رأسه إلي كلية الآداب جامعة القاهرة, لكن الحنين إلي المدينة الصغيرة دفعه إلي الرحيل إلي بنها ليعيش ويستقر فيها ويصبح أحد أشهر أساتذة الأنثروبولوجي في مصر. رغم أنه يعيش بعيدا عن القاهرة وضوضائها, وزحامها لكنه لم ينفصل عن مفردات حياتها الثقافية والاجتماعية. وحين يحضر إليها بين الحين والآخر للمشاركة في ندوة أو مؤتمر, غالبا ما تشكل هذه المشاركة إضافة مهمة, لأنه كما يقرأ الواقع.. يطل علي المستقبل ولا ينسي الابحار في التاريخ لاستخلاص دروسه. سألت الدكتور محمد حافظ دياب أستاذ الأنثروبولوجي بجامعة بنها عما نعيشه الآن.. وإلي أين يقودنا.. هكذا كان مدخل الحوار.. وهكذا كانت رؤيته للمستقبل وشهادته علي الحاضر:* دكتور لنبدأ من التحليل الاجتماعي للواقع السياسي؟ ** أتصور أن ما حدث في مصر منذ ثلاثين عاما هو حالة من الأريفة بمعني تحكم المواصفات الريفية الفجة في القضايا السياسية الكبيرة, وترجمة هذا عبارات كانت ترد علي لسان الرئيس الراحل أنور السادات مثل كبير العائلة, لأن ظاهرة العائلة لا توجد في مصر إلا في القرية, وفي الحضر توجد الأسرة, بينما في البدو توجد القبيلة. * وإلي ماذا أدي هذا؟ ** أدي إلي أريفة السياسة, ولم تلبث أن سلمت نفسها إلي أريفة العمران البشري, فتحولت المدن إلي ثكنات ريفية, وان اتخذت شكلا عمرانيا حضريا, وحدث لها حزام من البؤس, يعني أنا منذ ثلاثين عاما كنت أراهن الروائيين المصريين أن يكتبوا لنا عن القاهرة بعنوان قصة مدينتين علي غرار رؤية تشارلز ديكنز عن صخب لندن أيام الثورة الصناعية. * وماذا حدث للقاهرة؟ ** أصبحت الآن ثلاث مدن, مدينة النخبة فيها المنتجعات السكنية تحوي ملاعب جولف ومؤسسات خدمية خاصة جدا لهذه النخبة, وهناك أيضا القاهرة العادية أي نصف البلد, وهناك أيضا قاهرة عشوائية, تبدأ من مساكن المقابر, ولا تنتهي بنحو380 عشوائية منتشرة حول المدينة. أيضا أريفة السياسة والعمران أدت إلي نوع من أريفة الفكر المصري, وحدث له نوع من المسخ, لم نعد نشعر بالقضايا الكبري سواء علي مستوي التلقي, أو مستوي الإنتاج. وأريفة الفكر أدت إلي أريفة النهر, فلم يعد هو ذلك الإله الأفعي الذي تحدث عنه الروائي السوداني الطيب صالح في رائعته موسم الهجرة إلي الشمال حتي النيل يتعرض للتهزيء. * المدن الثلاث داخل المدينة الواحدة انعكاس لحالة من الفصل والتقسيم إلي ثلاثة مجتمعات داخل مدينة واحدة؟ ** لا.. انعكاس لحالة التشظي الحادثة علي كل المستويات, السياسية, الاجتماعية, الاقتصادية, والثقافية, ثلاثية أصبحت موجودة قد لا تبين بوضوح لكن من يدقق سيجد هذه الحالة من التشظي. * وكيف تقرأ حالة المجتمع؟ ** لا أقول الصبر, ولا أقول التحايل, وإنما المجتمع المصري في حالة انتظار بها قلق وتأهب واستنفار, لكي تتم مكوناته وخيالاته للقادم القريب. * تحدثت عن أريفة السياسة والعمران والنيل والفكر, ماذا عن أريفة الدين.. وأقصد ظاهرتي الحجاب والنقاب؟ ** طبعا.. حالة غيبوبة تعيشها المرأة المصرية, لاشك أن هناك استثناء, فبعض من يرتدين الحجاب ينطلقن ارتباطا بحالة فكرية معينة, المجمل لا يتعامل معه كرداء ديني ولا كصفة اجتماعية, وإنما تحولت إلي حالة خنوع سببه أن الموقف من المرأة أصبح سلبيا, ومتهافتا وخصوصا بالنسبة للمرأة الفقيرة التي لا تجد إلا جلبابها وحجابها لكي تلوذ به. * بما أنك تحدثت عن أريفة النيل, كنت في مؤتمر أدبي وتحدثت عن التجاهل الكبير لثقافة النيل.. هل يمكن أن يصبح إعادة بناء هذه الثقافة هي أحد مداخلنا للمستقبل؟ ** الأدب المصري القديم كله كان يتحلق حول النهر, لأن من النهر تبدأ الخصوبة, وفي البر الغربي تبدأ الحياة الأخري, والفيضان كان يترك اثاره علينا جميعا.. فنحن أبناء ثقافة النهر ويجب أن نعود إليها. * ومعركتنا مع التنوير؟ ** التنوير مشروع مرتزق, ومن يدعون إليه مرتزقة. * لماذا؟ ** لأن التنوير يعني اخراج الفكر من سياقاته التاريخية والاجتماعية وتقديمه معلقا في الهواء مثل التسامح والحرية والديمقراطية, وهذا كلام جميل, لكن أي مفهوم في العالم إذا
لم يتم تعريفه من خلال جذره الفلسفي وأرضيته الاجتماعية فإن هذا التعريف محكوم عليه بالبوار, ثم إن أي مفهوم عندما يتزاهي ويظهر, فهذا يعني أنه يريد أن يطفئ مفهوما آخر. حين تقول التنوير, يبقي الظلامية, لكن التنوير لا يقدم المسافة كلها, لأنه يقدم المسألة كقضية فكرية, بينما الحقيقة أن ما نواجهه معارك اجتماعية حقيقية, هذه دعوة لتصحيح ما قد يظن البعض أنها قد تكون هاديات مثل فكر التنوير والحداثة وكلها خردوات مغشوشة. * هل هذا يعني إعادة تعريف الأولويات؟ ** لو دخلنا في إعادة تعريف الأولويات لن ننتهي, القضية الآن هي قضية خبز, وكوب ماء نظيف, وهواء غير ملوث, وطعام غير مسرطن. * أليس التحدي هو العقول؟ ** هذه مسألة أساسية, فعلا هي قضية عقل في مبتدئها وخبرها, لكن إذا قصرته عليه فلن يتحرك الأمر كثيرا. * إذا كنا ننظر للمستقبل فالأكيد أيضا أننا بحاجة إلي رؤية عريضة للواقع.. كيف ترسم ملامحه؟ ** الأيام المصرية حبلي بالأحداث, والآفاق ملبدة بالنذر, وتتشابك قضايا ومشكلات متعددة مثل اختزال دور الدولة, وتعاظم الفساد, والجرأة علي المال العام, وتآكل مشروع الوحدة الوطنية الذي تأسس في إطار الحركة الدستورية المعادية للاستعمار, وعدم القدرة علي إنتاج توافقات حول الحدود الدنيا في علاقاتنا بذواتنا, وتاريخنا, إلي جانب الاخفاق في تجديد وتفعيل شكل النظام السياسي الملائم, والعجز عن إدارة التنوع والتعددية بأطيافها, وتآكل حجم ووزن ودور الأحزاب السياسية, والخلل في أنظمة التعليم والإعلام والثقافة.. إلخ.. وكلها لم تسهم في الخروج من مأزق الحاضر, أو تجاوز رهاناته المتعثرة. * كيف نخرج من هذه الحالة التي وصفتها؟ ** الأمر يتعلق بالفقراء والعمال والفلاحين والطلبة والمثقفين العضويين, وهم فتحوا بشارة الوعي علي مصراعيها في تاريخ مصر الحديث, بدلا من شيوع تفتيت القضية الوطنية لكسر صغيرة كحقوق الطفل, وتمكين المرأة, وانتشار دكاكين الدفاع عن حقوق الإنسان كفطر سام وتحول المناضلين إلي نشطاء. * وكيف تقرأ ما تشهده مصر من حركات احتجاجية اجتماعية؟ ** المشهد السياسي في مصر بوجهين: رسمي شديد الجمود تراجعت فيه المشاركة السياسية من خلال الأحزاب, وآخر حيوي يتمثل في تصاعد حركات الاحتجاج كمظهر لحالة من الحراك السياسي. وقد تنوعت هذه الحركات ما بين الوقفات الاحتجاجية والاعتصام, والاضراب وتحرير التوكيلات, وشملت فئات عديدة مثل العمال وموظفي الضرائب والأطباء وأساتذة الجامعات, وامتدت إلي معظم المحافظات, ونجح بعضها في تحقيق أهدافه المطلبية مثل عمال النسيج في المحلة, وقضية مصنع أجريوم وموظفي الضرائب العقارية. * لكن هذا الوضع لم يصل بشكل واضح إلي النقابات المهنية؟ ** لا.. انتقل إلي التنظيمات النقابية, وهي تسعي إلي رفع الحراسة وتفعيل دورها في برامج التنمية والدفاع عن حقوق أعضائها, والتعامل مع العمل النقابي في إطار العمل الوطني العام. * وكيف تقرأ المشهد القادم؟ ** ينبغي عدم التدافع في تصور المستقبل, لكن يمكن الحديث عن احتمالات مستقبلية. * مثل ماذا؟ ** عبر ثلاثة مشاهد, أولها أن يتم احتواء هذه الحركات, ومن ثم دخول مصر في مرحلة تحول اجتماعي مشوه, قد يدفع المجتمع إلي الانهيار, إذا تم العلاج فوقيا, وبعيدا عن التناقضات والمشكلات الحقيقية في الواقع. * والمشهد الثاني؟ ** الثاني هو مشهد المهادنة القائم علي امتصاص تشنجات أوجه الاحتقان, وتسويتها تحت تأثير مهدئ أو آخر, واستمرار واطلاق تعددية سياسية شكلية. * والمشهد الثالث؟ ** هو الخروج من المأزق ويظل مشروطا, بخيارات عملية قائمة علي تدابير محددة للفعل السياسي والاقتصادي والثقافي, عبر تحقيق المبادئ الديمقراطية, وقلم القانون, والحريات العامة, واحترام قبول التنوع, وصوغ إطار قانوني وإجرائي لإعادة الحرية والفاعلية للأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية. * وما رأيك في حركة التدوين, وقدرتها علي الفعل وتغيير الواقع في المستقبل؟ ** جماعات المدونين الشباب يعبرون عن أفكار جيل جديد, عبر نشر أخبار الاحتجاجات الجماهيرية المتنوعة, وتفكيك مفردات السياسة الصعبة, وتحويلها إلي مفردات سهلة الاستيعاب مما يجذب إليها مزيدا من الشباب. * ماهو الفعل الذي أحدثته؟ ** في الوقت الحاضر هناك حوالي مائتي ألف مدونة مصرية, يقدر عدد المشاركين فيها بنحو180 ألف مدون غالبيتهم من الشباب تحت سن الثلاثين وحتي العناصر الشابة في جماعة مثل الإخوان المسلمين تنامت جرأتهم علي النقد والاعتراض والجهر به علي المدونات والفيس بوك والمنتديات الإلكترونية. * ماذا يعني كل هذا؟ ** يعني أن فكرة المجال العام التي تنامت أيام ثورة1919 تحولت إلي فضاء معلوماتي جديد, أتاح مساحة لأصوات شابة, ينتمي أصحابها إلي توجهات سياسية مختلفة تزاول التعبير عن آرائها, مما يعني أنهم نشطوا في نشر الوعي السياسي دون أن يقتربوا من صنعه, أي دون العبور من الفضاء الافتراضي إلي الفضاء الواقعي. * وماهو دور المثقف في العبور إلي المستقبل الذي نريده؟ ** أولا: عدم الدخول في حواديت أو سرديات مثل سردية التنوير والاصلاح. ثانيا: علي المثقف ألا يتعامل مع الفاعليات الوطنية باعتبارها فكرا أو حركة. ثالثا: ألا يتعامل مع الواقع الواقعي والواقع الافتراضي وكأن هناك خلافا بائنا بينهما. رابعا: الإيمان إيمانا كاملا بقوي الشباب الجديدة.