إن التقييم المنصف لثورة يوليو يجد فيها مما أسبغته علي نسيج الأمة من الإيجابيات والسلبيات ما لا يمكن إنكاره. لقد خطت الثورة بمصر خطوات في طريق بناء الوطن وتحديث آليات تفاعل مختلف قطاعاته, رغم ادعاء البعض أن حركة الجيش لم تكن ثورة بالمعني العلمي وهو فرض يجانب الحقيقة لأن ما حدث عام1952 م تمثلت فيه أركان أي ثورة من حيث الفكر الحركي الذي ولد الثورة ومن حيث وجود قيادة لها ومن حيث جدية الفعل ففي خلال عام الثورة الأول أمكننا أن نري تغييرا علي وجه الوطن. لقد حزمت الثورة ومعها الشعب أمرهما في أشهر قليلة فصدر قانون الإصلاح الزراعي وحلت الأحزاب وصدر قانون الغدر وتمت محاكمة الفاسدين. تمثلت مباديء الثورة الستة في ثلاثة للقضاء علي الاقطاع والاستعمار وسيطرة رأس المال علي الحكم وثلاثة لإقامة حياة ديمقراطية سليمة وجيش وطني قوي وعدالة اجتماعية. ولا يمكننا إلا أن نشيد بما تم من خطوات في هذا السياق تكللت في قوانين وأفعال حققت بنود القضاء الثلاثة بصورتها آنذاك, كما تكللت في خطوات دؤوبة لإقامة حياة ديمقراطية وجيش وطني وعدالة اجتماعية. ورغم أن تلك الأهداف كفيلة في حد ذاتها لأن تضع مصر في مصاف الدول العظمي فأن عدم اكتمال الرؤية رغم حسن المقصد أدي إلي تخلف مصر بعد ستين عاما عن دول أقل منها حضاريا. القضية علي بساطة طرحها معقدة لأن تشابكات الحاضر والماضي تطل برؤوسها في أي تحليل واقعي. لقد تم الجلاء عن أرض الوطن بعد أقل من عامين من قيام الثورة وتم تحجيم تدخل رأس المال في الحكم وتم تفتيت الاقطاعيات ولكن لم يتم ذلك من خلال نظرية ومنهج فكري محدد حيث تنازعت مجلس قيادة الثورة منذ البداية اتجاهات فكرية متباينة ورغم قوة شخصية الرئيس جمال عبد الناصر فأن تلك التوجهات ظلت موجودة علي المسرح السياسي وإن كانت الغلبة فيها للتيار الاشتراكي نظرا للظروف السياسية آنذاك. لقد تنازعت الثورة منذ بدايتها توجهات فكرية عديدة تمثلت في تجارب لنظم الحكم مثل هيئة التحرير والاتحاد الاشتراكي ومنظمة الشباب ولكنها جميعا انطلقت من رؤي غير مصرية لواقعنا ولقيمنا أهملت الجانب القيمي في الانسان وزكت جانب الحق علي حساب الواجب مما أفقدها عمودها الفقري لتفقد توازنها مع أول هبوب لريح التغيير والاستئصال! ورغم هذا الضباب الفكري وحتي السبعينيات ومن خلال محطات قوية أججت المشاعر الوطنية مثل الوحدة مع سوريا وبناء السد العالي والعدوان الثلاثي وحركة عدم الانحياز استطاعت الثورة بناء قوة سياسية وعسكرية يرهبها الجميع كانت خلفيتها بناء العديد من المصانع الحربية والمدنية بسواعد مصرية. ولم يكسر شوكة الثورة ما حدث في5 يونيه1967 م حيث أجج الشعور الوطني إعادة بناء الجيش. واستمر هذا الشعور لفترة طغي فيها البحث عن نظرية سياسية اجتماعية اقتصادية قيمية لمسيرة الوطن لتتعاقب علي الحكم نظم افتقدت النظرية والتوجه والشعور فتراجعت إنجازات الثورة لدرجة أنه تم تفكيك المصانع وآليات الانتاج القومي من شركات للقطاع العام ومن نظم إدارة ليحل محلها الفساد لنصل للمطالبة باستيعاب درس ثورة يوليو وبإعادة تحقيق مبادئها الستة مرة أخري ولكن من خلال منظومة قيمية محلية!