زرت اليابان أول مرة في شهر ديسمبر عام1986, وكانت الدعوة من وزارة الخارجية اليابانية لزيارة طوكيو لإلقاء محاضرات, وكيوتو وهيروشيما ونارا للمتعة والتعرف علي بلاد الشمس المشرقة. أو هكذا كان يقال عنها حتي ولو كان طقسها غائما لفترات طويلة من العام. وربما لو كانت هناك دولة في العالم عليها أن تجعل الشمس في علمها فهي مصر التي تسطع الشمس في سمائها طوال العام, ومع ذلك فإن للأسماء كما للأفعال أحوالا غير معلومة. وعلي أي الأحوال فقد تعددت الزيارات بعد ذلك حتي كان آخرها الأسبوع الماضي, وهذه المرة كانت طوكيو هي البداية والنهاية وكان ذلك مفيدا فلمن لا يعلم فإن طوكيو هي أكثر عواصم العالم مساحة, ويقال أن فيها12 مليون نسمة ولكنهم بسبب العمل يصلون إلي34 مليونا أثناء النهار نتيجة القادمين من المدن القريبة أو اللصيقة أو التابعة; وفيها أكثر من مائة ألف مطعم, وبالطبع مقار الشركات اليابانية العظمي. وواحدة منها, هي تويوتا, التي تواجه المتاعب هذه الأيام كان حجم مبيعاتها في العام الماضي263 مليار دولار, وهو مبلغ هائل بالطبع لكي تعرفه فعليك أن تعرف أن حجم الناتج المحلي الإجمالي لمصر لا يزيد علي180 مليار دولار!. كان في النغمة التي استمعت إليها في طوكيو كثير من الشكوي من الأحوال, ولم يكن الموضوع هو قصة الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية فقط, ولكن المقارنة ما بين أحوال الأجيال القديمة, والأخري الجديدة. القدماء كما هي العادة كانوا أكثر عملا وجدية وقاموا ببناء اليابان بعد تدميرها في الحرب( لاحظ هنا أن القدماء هم الذين كانوا وراء مشروع الحرب من الأصل أو أنهم لم يمنعوها علي أقل تقدير), أما المحدثون فهم لا يحبون المغامرة ولا يعملون كثيرا ولا يتزوجون ولا ينجبون, والأخطر من ذلك كله ينتحرون بلا أسباب معلومة. وكثر الحديث في هذا الاتجاه, وكان صعبا أن تفهم سوء الأحوال والعبوس في الوجوه إذا كان الناتج المحلي الإجمالي للبلد5075 مليار دولار أي خمسة تريليونات من الدولارات, ولن يحل المعضلة أن الصين قد اقتربت من اليابان عندما صار ناتجها الإجمالي4900 مليار دولار. ولكن كثرة الحديث دفعت إلي المقارنة بين الزيارتين الأولي والأخيرة فوجدت وفق كل المعايير أن اليابان صارت أفضل حالا بكثير حينما صارت طوكيو أكثر جمالا في العمارة والتجارة, والأهم أن أهلها أصبحوا أكثر مرحا ولطفا بعد أن كانت أكثر العواصم جدية في الدنيا كلها. ما عرفته عن طوكيو منذ ربع قرن تقريبا أنها كانت مدينة شبه عسكرية يتحرك فيها الناس كما لو كانوا في طوابير الجندية, عابسين غاضبين من شيء ما. الآن لم تعد المدينة ممتلئة بالألوان والأضواء الملونة فقط, بل بات أهلها أكثر ابتساما بل أحيانا يضحكون, وأدبهم الجم يأتي بسلاسة ولطف وبلا افتعال ولا تشدد. وفوق ذلك كله أصبحت المدينة أكثر صداقة للغرباء, فهناك دائما الآن من يعرف اللغة الإنجليزية, وباتت كل العلامات والأسماء ومحطات المترو مكتوبة باللغتين اليابانية والإنجليزية معا. صحيح أن المدينة لا تزال واحدة من أكثر مدن العالم تكلفة, ولكنها مع ذلك يوجد فيها من ينصحك بالذهاب إلي حيث تجد أرخص الأسعار في المدينة علي الأقل. وعندما تكرر الأمر في غداء مع كيوشي تاكيماسا وزير الدولة للشئون الخارجية في وجود عدد من الخبراء والمسئولين وجدتني أستعيد معيار السعادة للتساؤل عن أحوال الأجيال في اليابان. كان ذلك منذ فترة عندما شاركت ضمن مجموعة في المنتدي الاقتصادي العالمي لتعريف معني التقدم, والحدود الفاصلة الموصلة إليه, وكان هناك إجماع في تلك المجموعة علي أن الناتج المحلي الإجمالي ونصيب الفرد منه لم يعد يصلح كعلامة من علامات التقدم, وأيامها طرح مقياس آخر عن السعادة يصلح للتقييم. وهكذا بعد أن اشتد الحديث عن الأجيال القديمة في اليابان التي عملت بكد, بينما لا تضيف الأجيال الجديدة للناتج القومي المحلي كثيرا من القيمة المضافة تساءلت, وهل كانت الأجيال القديمة سعيدة؟! بدا السؤال عصيا علي الفهم, فبدأت أشرح الموضوع كله من أول مشاهداتي في طوكيو, وحتي مقياس السعادة, فما معني أن يصير الناس آلات علي سلم التقدم بينما تضيع منهم الحياة؟ بدا الأمر كله مفاجأة للسامعين, وربما اطلعوا علي حال طوكيو من جديد, ولعل الصدمة, والطريقة اليابانية في التفكير و التي تتجنب التعليق علي أمور جديدة تماما, هي التي جعلتهم يبتسمون من هذا الاكتشاف الجديد. المسألة بالنسبة لنا ليست كذلك بالمرة, فلا يمكن الحكم بوجود السعادة, ولا التقدير بحجم الناتج المحلي الإجمالي, ولكن قصتنا ليست عن مصر وإنما عن اليابان, وما أذهلني حقا فقد كان أن الجيل الجديد في اليابان يبدع بالفعل وحدث ذلك عندما قمت بزيارتين: أولاهما كانت لمعرض مخترعات شركة باناسونيك الشهيرة; وثانيتهما للمعهد القومي لتكنولوجيا وعلوم الصناعات المتقدمة. وما يجمع المؤسستين هو البحث العلمي, والآفاق الجديدة للعلم, وفوق ذلك كله أن كلتيهما تعتمد علي مصادر الطاقة الشمسية. في الأولي تبدو الطاقة الشمسية هي الحل الأمثل لمستقبل البشرية والطريق الوحيد لتفادي مسألة الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية التي قد تجعل الحياة علي الكوكب مستحيلة من كثرة الزلازل والبراكين والعواصف والتسوناميات التي لا أول لها ولا آخر. إن تجنب ذلك لا يكون إلا من خلال القضاء علي مخرجات ثاني أكسيد الكربون الذي هو من صنع الإنسان سواء من خلال وسائل انتقاله, أو من خلال معيشته في منزله, أو من خلال إدارته لأعماله. وفي معرض باناسونيك كان هناك منزل كامل لا تخرج منه انبعاثات حرارية علي وجه الإطلاق; ولا يحدث ذلك صدفة وإنما من خلال عملية تستخدم أولا الطاقة الشمسية وتختزنها في بطاريات مثبتة فوق المنزل ثم يعاد استخدامها بعد أن تغيب الشمس. أما أثناء سطوع الشمس فإن الحرارة القادمة منها إلي المنزل لا يتم تخزينها فقط, وإنما يتم أيضا تدويرها عن طريق وسائل هندسية متطورة تجعل المنزل يتصرف كما لو كان كائنا حيا يوازن ما بين الضوء والحرارة وتشغيل الأجهزة المختلفة. وحتي يمكن الوصول إلي الحالة صفر من الانبعاثات فإن كل ذلك لا يكفي وإنما يضاف إليه وسائل أخري للحد من انبعاث الحرارة, فالمصابيح الكهربائية تغيرت بحيث طال عمرها كثيرا, وبات ما تستهلكه من الطاقة سدس ما كان حادثا من قبل. ومع كل ذلك أنواع جديدة من العوازل, تستخدم الفراغ من أجل خفض درجات الحرارة ويمكن استخدامها في الثلاجات, وفي الغرف أيضا, وأنواع أخري من التطورات في دورات المياه والمطابخ لتوفير الطاقة والمياه أيضا. هذا المنزل المثالي يرتبط بسلسلة من التطورات المنزلية المثيرة حيث باتت غرفة المكتب لا يتم استخدامها باقتصاد فقط, ولكنها أيضا تغني تاما عن الانتقال إلي العمل. أو هكذا في كثير من الأعمال, فقد انتهت تماما كل المشاكل المتعلقة بمؤتمرات الفيديو التي يمكن من خلالها الحديث مع عدد كبير من الزملاء والعملاء والتداول معهم حول وثائق واضحة يمكن الحصول علي نسخ نقية منها من خلال عمليات الطبع والتصوير. ولكن كل ذلك لا ينتهي إلا بالاطمئنان علي وسائل الترفيه التي تتركز علي شاشات تليفزيونية ثلاثية الأبعاد يمكن التحكم في مساحتها حتي تصل إلي نهاية كل الحوائط وتظهر فيها الأمطار وكأنها تلامس وجهك, والجبال كما لو أنها سوف تسقط عليك. إلا أن الفائدة العظمي لكل ذلك ربما تكون في مجال التعليم حيث يمكن تجسيد المعلومات كلها وتكبيرها, وربطها بالموسيقي والأشكال المجسمة, وأشكال أخري من الإثارة تجعل التعليم متعة حقيقية. المعهد القومي للتكنولوجيا والعلوم المتقدمة كانت له قصة أخري غير أنه يعيش في جزء من حياته علي الطاقة الشمسية(3% في الشتاء, و10% في الصيف, وأظن أن النسبة سوف تكون أكثر لو كانت الحال في مصر), فهو المصمم الأول للإنسان الآلي أو الروبوت في اليابان والذي دخل في دور أجيال متقدمة. فتاريخيا كان الروبوت يقوم بمهمة واحدة محددة, أما الآن فهناك الروبوت الذي يقوم بمهام متعددة. وفي المعمل الأساسي في هذا المعهد الضخم لا يوجد إلا شباب من صغار السن المولعين المتقدمين في العلم حيث توجد نماذج كثيرة للإنسان وأجزائه المختلفة التي تقوم كلها علي آلاف من الخلايا الحساسة وقرون الاستشعار والمجسات التي تحول البيئة الخارجية للإنسان الآلي إلي معلومات يمكن لما يسمي الذكاء الاصطناعي أن يحولها إلي حالة ميكانيكية. وكان ذلك هو ما فهمته, وأظن الأمر أكثر تعقيدا مما استطعت فهمه, ولكن المهم أن كل من يقومون بذلك هم أبناء الجيل الجديد من شباب اليابان, وللمفاجأة كانوا جميعا يبتسمون!!. ما عرفته عن طوكيو منذ ربع قرن تقريبا أنها كانت مدينة شبه عسكرية يتحرك فيها الناس كما لو كانوا في طوابير الجندية, عابسين غاضبين من شيء ما. الآن لم تعد المدينة ممتلئة بالألوان والأضواء الملونة فقط, بل بات أهلها أكثر ابتساما بل أحيانا يضحكون, المعهد القومي للتكنولوجيا والعلوم المتقدمة كانت له قصة أخري غير أنه يعيش في جزء من حياته علي الطاقة الشمسية(3% في الشتاء, و10% في الصيف, وأظن أن النسبة سوف تكون أكثر لو كانت الحال في مصر),فهو المصمم الأول للإنسان الآلي أو الروبوت في اليابان والذي دخل في دور أجيال متقدمة. [email protected]