امتدت عيناي في فضول أرقب قسماتها جيدا.. لم تكن بالجمال الذي توقعت.. لكن أنوثتها كانت تنطلق ثائرة ومعلنة عن نفسها دون مواربة أو خجل.. أغمضت عيني مخفية نظراتي المختلسة نحوها وأنا أستعيد ملامحي بكل جمالها. المقارنة المعقودة كانت لمصلحتي.. حتي بشرتها البيضاء بنقائها لم تكن لتميزها.. لكن تلك النحوت وانثناءات جسدها الممشوق أشعلت غيرتي الأنثوية.. تنفست بعمق وأنا أقنع نفسي بأن تناسق ملامحي وانسيابها أكثر جذبا.. فتحت عيني ببطء ونقلت نظري إليه بجوارها فتلاقت أعيننا.. وكانت نظراته تراسلني سرا في غفلة منها.. قرأت رسالة في نشوة محت كل أوجه اعتلال مقارنتي بها.. فعاودت النظر إليها في انتصار.. ورددت عليه بابتسامة ودعتها رقة أكثر مما اعتدت.. وكانت عيناي تقول الكثير.. وفي دلال أزحت خصلة من شعري إلي الوراء دون أن أنسي أن أمتعض قليلا من نسمة الهواء المشاغبة تلك.. أعطيته ظهري وحرصت علي مراقبته في الزجاج اللامع أمامي.. تلك ميزة الزجاج الفاميه. تسللت نظراته عبر خصلات شعري المرسلة تداعب خصري.. ولونها الأسود يغطي ظهري كليل لا تجرح سحره تلك النجوم الصغيرة فتبدو سماؤه لامعة صافية. ابتسمت لنفسي في غرور وباغته بنظرة لم يتوار منها.. وإن اتسعت ابتسامته. لم تكن جلستي قبالتهم مصادفة.. كما أن تلك النظرات بيننا ليست إعجابا وليد لحظته.. عندما نصحني أحدهم به.. في يأس ذهبت إليه.. بين يديه وضعت كل تحاليلي الطبية التي تحمل أغلفتها أسماء عدة لامعة تكاد تنطق بمدي مهارة من كتبها.. تركته يتأملها بعناية بينما أسندت ذقني بكفي وبدأت أنا في تأمله.. لم يكن إعجابا.. بل استخفافا.. ليس به.. لكن بفكرة المجيء إليه من الأساس.. حداثة سنه تكاد تجزم أنه بالكاد يستطيع قراءة تلك التحاليل أمامه.. بدت ملامح الجد متنافرة مع بشرته النضرة.. وذقنه الحليق كأنها تقتصر فقط علي ما فوق الخمسين. دقائق معدودة وارتفعت نظراته إلي تاركا تلك الأوراق جانبا طالبا مني أن أتمدد علي الشازلونج أمامه. في خفة من اعتاد الأمر تمددت في شبه استسلام لمحاولتي البائسة تلك حتي اقتربت أصابعه من قدمي.. شعرت بتلك الرعشة تعتريني برغم أن لمساته لم تخرج عن إطارها المألوف.. أمسكت آهة كادت تنطلق مكشفة تلك الهشاشة التي أعانيها.. خاصة أن آخر كسر لساقي لم يكن ببعيد.. لحظات وأنهي كشفه.. في جديته نفسها تأمل تحاليلي ثانية.. كدت أسحبها من يده منهية حيرته.. لكنه في ثقة طلب مني أن أجري أشعة أخري.. وتناول ورقة صغيرة وخط عليها خطوطا متشابكة كعادة الأطباء لكنها كانت واضحة ربما رأفة بمن سيقرأها.. أو أنه لم يحترف ذلك النمط بعد.. ودعني بابتسامة لأول مرة أشعر بأنها غير مفتعلة كغيرها في حجرات الكشف.. تناولت الورقة وأنا كلي عزم علي تناسي أمرها. بعد أسبوع كنت أحايل تلك الممرضة فظة الملامح كي تدخلني قبل دوري دون جدوي.. برغم أن دوري ليس ببعيد.. فوجدتني بعصبية تنطق بها كل ملامحي ألقي ببضع جنيهات زيادة أمامها.. في هدوء تناولتها.. بوقار مفتعل فتحت لي الباب ودعتني أدخل. لم يرفع وجهه إلي عند دخولي.. مما دفعني لافتعال كحة خفيفة معلنة عن وجودي.. فأشار إلي بالجلوس دون أن يزيح أوراقه تلك من أمامه.. لحظت طويلة مضت قبل أن يرفع رأسه مبتسما لي في اعتذار عن تأخره.. في حدة ناولته الأشعة.. طالعها بلا مبالاة وكأنه توقع ما بها مشكلة في الغدة الجار درقية.. وأشار بيده إلي موضع صغير لا أكاد ألحظه.. قبل أن أنطق أكمل حديثه: مسألة بسيطة لكن المشكلة أنها لم تشخص بشكل صحيح من بدايتها.. بدا صمتي متربعا علي عرش ذهولي وأنا أتأمل بساطته تلك.. إما أن يكون الأمر بتلك السهولة حقا.. أو أنه مجنون.. هكذا حدثتني نفسي. لم أجبه وسحبت نفسي من أمامه دون أن أنتظر علاجه.. وذهبت بالأشعة لطبيب آخر كنت أتردد عليه منذ بدأت تلك الكسور تحتل أماكنها بسهولة بساقي الهشة دون أدني مقاومة.. لم يزد رده علي دعم كلماته في إجابة علي سؤالي الذي لم أسأله أخبرني أنه كان علي وشك أن يطلب مني تلك الأشعة لأنها نادرة الحدوث برغم سهولة علاجها.. وقتها أدركت أنه مدين لي باعتذار. عند تلك الاستراحة نزلت في أثرهم.. راقبته وهو يتناول يدها بين يديه في رقة ذبت لها.. خطا معا نحو تاندات المحطة.. دون أن يلحظني اخترت مقعدي بعيدا عنهما وطلبت فنجان شاي.. بدأت شفاها ترسم ابتسامة حنونة متوددة نحوه.. التقط كفها في هدوء عابثا بتلك الخطوط المتفرقة في راحتها دون أن يفهمها.. وراحت شفاهه تطبع قبلة حانية تملكته بها وأغلقت راحتها عليها فأشرق وجهها بنور غريب.. اتسعت ابتسامتها.. ألقت برأسها تتوسد كفه في دلال أغاظني وأشعرني بمدي بعدي.. في شرودي انزلق فنجاني فتناثرت قطراته الساخنة علي يدي.. صرخت غصبا عني.. وكأنما التفت إلي وجودي فجأة.. في انفعال غير محسوب اتجه نحوي وأمسك بيدي فذابت آلامي وقتها وشعرت بأن اللحظة دهر طويل أعيشه في بحر عينيه القلقة علي.. لحظة اختلستها من زمنهما ليست من حقي.. لكني تقت لها كثيرا.. ولكن ما لبث أن ذاب زبد حلمي علي صوتها تطمئن علي ممره قطعة ثلج علي يدي وكأنها تمعن في إفاقتي من حلمي الاثم.. تناقلت نظراتي نحوهما وفجأة دقت صفارة القطار فقاما مهرولين متناسيين آلامي.. صعدت لأسحب حقيبتي وسالت دمعة أخيرة زادت من مرارة قطرات الشاي في فمي.. وبرغم أنني أدرت ظهري لها فإنني رأيتها بوجهها القاسي كاملة لا زيف.. واجهتني بلا رأفة وكأنها تتحداني أن أقاوم أو أن أنكرها مهما حاولت.. وأدركت أنها حقيقتي العارية كنفسي الزائفة السائرة خلف زيف ظننته يوما حبا.. نزلت من القطار وسحبت نفسي بعيدا عن فلكها الذي ظننت يوما أنني قد أصبح قمره.. لكني ما زدت علي شهاب منسي احترق علي أرض واقعهما.. وترديت في غيابات ظني دون مقاومة. ولاء جمال يوسف نجع حمادي قنا