مصر تولد من جديد, وشعبها يعرف ماذا يريد, هكذا هو الانطباع الأول لهذه المشاركة الواسعة من قبل المصريين من كل الطبقات وكل الفئات في أول انتخابات بعد الثورة. مصر تعبر عنق الزجاجة وترسل رسالة للخارج قبل الداخل, بأن شعبها قادر علي الممارسة الديمقراطية, وقادر علي العطاء, لا يقبل أي وصاية من أحد, ولا ينتظر التوجيه والارشاد من أي كان. مصر الواثقة بنفسها وشعبها الطامح في مستقبل زاهر يقولان كلمة واحدة, لا شرعية إلا من الشعب, وكما كانت ثورة25 يناير هي ثورة شعب بكامله فإن صنع المستقبل لن يكون إلا من صنع الشعب, بوعيه وباختياراته. فهذه المشاركة الشعبية الواعدة, والتي تكشف عن مخزون حضاري واستيعاب لمتغيرات العصر, هي الرد العملي والقاسي علي كل محاولات الوصاية المقيتة من قبل قلة تميزت بالصوت العالي طوال الشهور الماضية, ووراءها كتيبة من الإعلاميين المحترفين في تغيير الواقع وتلوينه وتزييفه والقفز علي وقائعه باستنتاجات خاطئة ومضللة, أرادت أن تصادر الإرادة الشعبية باسم الحديث عن الثورة وعن مطالبها, وبواسطة مساع حثيثة ومكشوفة من قلة مرصودة شعبيا لغرض تأليه شخوص بعينهم ووضعهم فوق أعناق الجميع دون سند من قانون أو آلية ديمقراطية. لاشك أن أحداث الاسبوعين الماضيين كانت عصيبة علي كل مصري, كانت مليئة بالدماء والشهداء والصراخ والعويل والمشاعر الحزينة, ولكنها أيضا مليئة بالدروس والعبر. كانت جزءا مهما ولازما من مخاض التحول نحو مستقبل أفضل, وفي الآن نفسه كشفت معادن السياسيين والنشطاء والإعلاميين والكتاب والناس البسطاء في كل ركن من أركان مصر الكنانة. كانت اختبارا للجميع من هم في السلطة بديرون البلاد ويجتهدون بإخلاص من أجل حماية الوطن وأبنائه, ومن هم خارجها يصرخون ويضربون بالشعب عرض الحائط يدعون النقاء الثوري, ولكنهم يطمحون في القفز علي السلطة بأي طريقة كانت, حتي ولو كانت تدمير البلاد نفسها. أحداث جسام مر بها الوطن, لم تخل من فائدة كبري, لقد كشفت حجم التخطيط الذي استهدف تعويق المسيرة واستمرار نزيف الدم ووقف الانتخابات بدعوي أن البلاد ليست مهيئة بعد لكي تتابع ثورتها عبر تحول مدروس ومنهجي ومخلص من الثورة في الميدان والشارع, إلي الثورة عبر المؤسسات المنتخبة والصلاحيات المستمدة من قبول الناس ورضائهم الطوعي والمتحقق عبر الانتخابات ولا شئ غيرها. لكل لذلك كان الاسبوع الماضي علامة فارقة بين من يخلصون لمصر وهؤلاء الذين يضمرون الشر لها. وتجسدت هذه علامة الفارقة أكثر وأكثر من نزول مواطنين بسطاء من كل الفئات والطبقات إلي ميدان العباسية ليقولوا أنهم ضد مصادرة حقوقهم وآرائهم, وضد الاستعلاء عليهم, وضد كل محاولات نفيهم من الواقع المصري, وضد كل محاولات تزييف الثورة واستغلالها لصالح مجموعة بعينها, وضد كل تخوين وتشكيك وتشويه لما تقوم به المؤسسة العسكرية من أجل الوطن كعهدها دائما وأبدا. جاء هؤلاء البسطاء طواعية ليقولوا أنهم مع الشرعية الدستورية التي أيدوها عن طيب خاطر وقناعة تامة في استفتاء19 مارس, وأنهم يؤيدون بقاء المجلس العسكري حتي تنتهي عملية نقل السلطة إلي سلطة منتخبة منهم وليست سلطة مفروضة عليهم لا يعرفون عنها أي شئ سوي مزايدات إعلامية ومقولات زائفة. لقد كان الحضور في العباسية رسالة شديدة الأهمية والوضوح, ملخصها أن مصر أكبر من الميدان مهما علا صوت من فيه, وأن شعبها أكثر وعيا ممن يفترضون غباءه وقلة حيلته. ولوهلة حبس المصريون أنفاسهم, لقد تعالت أصوات حزبية وغير حزبية تطالب بتأجيل الانتخابات, وتصر علي أن رؤيتها للأشياء هي الأصح والأصوب, منهم من طالب بتأجيل لفترة محدودة تعويضا عن ضياع أسبوعين من عمر الوطن في أزمة اصطنعت اصطناعا, ومنهم من طالب بتأجيل الانتخابات إلي زمن بعيد لتظل الفوضي والكراهية والانقسام سيد الموقف. وفي كل كان الخطر كامنا, وكانت النتيجة المنتظرة هي فقدان الثقة في نضج الشعب المصري, وفتح أبواب التشكيك والغليان إلي ما لا نهاية. وهنا جاء القرار.. لا تأجيل للانتخابات وستجري في موعدها المحدد. كان القرار بلسما في نفوس المصريين جميعا ما عدا فئة وجدت فيه ضربة كبيرة لما كانت تخطط له بليل. كان القرار نتيجة ثقة في النفس افتقدها المزايدون والمضللون, وكان نتيجة رؤية عميقة لمجريات الأحداث ومن وراءها وما وراءها, وكان نتيجة للتكامل مع مطلب الشعب في الانتقال من حالة الضباب إلي مرحلة الوضوح, ومن مرحلة التشرذم السياسي إلي مرحلة الاختبار وتحديد الأوزان الشعبية دون مزايدة أو افتعال, ومن مرحلة فوضي وفراغ مؤسسي إلي مرحلة المؤسسات المنتخبة المستندة إلي شرعية شعبية لا يمكن لأحد أن يشكك فيها. جاءت المشاركة لتعكس نبض المصريين الحق, وتجسد قرارها ببناء وطنهم. صحيح هناك تجاوزات وأخطاء حدثت في بعض الدوائر الانتخابية, شارك فيها مرشحون عن كل الأحزاب تقريبا, لكنها أخطاء غير مقصودة وليست منهجية نابعة من الممارسة بعد انقطاع, وأخطاء الناس أنفسهم البسطاء المتحمسين والذين لم يقدم لهم الاعلام والسياسيون والمحللون النصيحة الخالصة لوجه الله تعالي, بل تركوهم فريسة معارك وهمية وبطولات زائفة. من الصعب الآن القول إن تزويرا قد حدث من سلطة قائمة, أو أن هناك حزبا مهيمنا أو مسئولا فاسدا قد رتب النتائج مسبقا. مسبقا الناس إلي اللجان يقفون الساعة تلو الأخري, يعانون الانتظار ولكنهم مصممون علي تحديد من سيمثلهم ومن يرونه الأفضل والاجدر. ولم لا وهم أصحاب القرار ومصدر الشرعية. لقد اثبتت مشاركة المصريين في الانتخابات والتي فاقت كل التوقعات أن قرار الانتخابات في موعدها كان قرارا تاريخيا بحق, وأن الاستناد إلي الشعب وطموحاته وحقوقه هو الاختيار الصائب, وليذهب المضللون إلي الجحيم.