الحيرة بين سرد الذكريات وطرح الاسئلة المعلقة كانت هي المحرك الرئيسي لمائدة الحوار التي استضافتها الأهرام المسائي احتفالا بذكري حرب أكتوبر المجيدة. علي المائدة جلس سبعة من أبطال مصر في حربي الاستنزاف والعبور, يستعيدون ذكريات البطولات التي عايشوها وشاركوا في صنعها, وبينهم من جاء مشغولا بالاسئلة لا الذكريات.. الحوار كان محاولة من أبطال أكتوبر والاهرام المسائي لاستكشاف المسكوت عنه في فترة تغير فيها وجه مصر ومازالت تلقي بظلالها علي ما تشهده مصر والمنطقة حاليا من أحداث. بدأت بسؤال للفنان التشكيلي وأحد أبطال حرب أكتوبر د. أحمد نوار لقادته خلال الحرب( اللواء عصام سلطان, العميد فؤاد عبدالرحمن, العميد محمد حسن زيتون, اللواء محمد الحسيني محمد, اللواء طيار حسين القفاص, والعميد حامد عبدالرحمن والقناص سيد نصر) تساءل نوار في البداية كيف تركنا خط بارليف يبني أمام أعيننا خلال فترة الاستنزاف دون أن نتحرك؟ لم يملك أي من الحضور اجابة شافية لسؤال نوار, فتعدت محاولات الاجابة دون أن تثنيه عن تكرار السؤال الذي اعده نوار لغزا ضمن ألغاز اخري مازالت تشغله منذ خدمته علي الجبهة الامامية لحرب الاستنزاف بدءا من نهايات عام1.968 تشير معلومات منشورة إلي ان اسرائيل بدأت في رفع مستوي تمركزها وتحصيناتها علي الشاطئ الشرقي للقناة عقب استيلائها علي سيناء بالكامل, وبدأت في بناء خط بارليف في الشهور الاخيرة من عام1968 وهو التوقيت ذاته الذي بدأ فيه أبطال الجيش المصري في مبادراتهم بالاشتباك مع العدو الاسرائيلي قبل أن تتخذ القيادة قرارا فعليا ببدء حرب الاستنزاف. يقول اللواء عصام سلطان أحد الابطال الذين اقتحموا خط بارليف: بدأنا نلحظ التحصينات عندما بدأت قوات جيش الاحتلال الاسرائيلي في تعلية الساتر الترابي الطبيعي المتخلف عن حفر القناة, كنا نري بناء التحصينات أمام أعيننا علي الشاطئ الشرقي ونشعر أنهم في سبيلهم للاستقرار علي أرضنا, مما كان يزيد من طاقة الغضب خاصة مع مانواجهه في الشارع من غضب علي الجيش وضباطه وجنوده عقب نكسة1.967 وفي هذا التوقيت اتخذت القيادة ممثلة في الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قرارا بتسخير جميع الامكانات اللازمة لإعادة بناء الجيش وتسليحه وتدريبه ويضيف اللواء عصام سلطان في ذلك الوقت بدأت الادارة القتالية تتخذ منحني جديدا فتم تدعيم الجيش بخريجي الكليات سعيا لرفع مستوي الكفاءة القتالية, ولا يعني هذا ان الاقل تعليما كانوا أقل شجاعة أو وطنية, ولكن حملة المؤهلات العليا أسهموا بالفعل وقتها في رفع مستوي العقيدة القتالية بالجيش فقد بادروا لإدخال روح جديدة بحرصهم علي التواصل مع زملائهم من غير المتعلمين وتعليمهم القراءة والكتابة, وتحولت الجبهة إلي مدرسة وطنية مصغرة وأسهم هذا في رفع الروح المعنوية والاستعداد للقتال. ويتذكر اللواء عصام سلطان الذي قاد مفرزة قتالية اقتحمت واحدة من النقاط الحصينة الرئيسية علي خط بارليف فيقول: كان يوجد تصميم لدي القيادة والضباط والافراد علي استرداد الارض عبر معركة كرامة حاسمة, لهذا كانت المناورة التي أقيمت في الخطاطبة عام1969 وشهدت تدريبا للجنود علي اقتحام الموانع المائية, هذه المناورة التي حضرها عبدالناصر بنفسه وقال فيها عبارته الشهيرة:( ما أخذ بالقوة لايسترد إلا بالقوة) جعلتنا نوقن أننا بصدد الاستعداد للمعركة وأن مصر لن ترضي بديلا عن استرداد أرضها بالكامل وأن القيادة لا تعتزم التفاوض علي حقوق مصر بل ستسعي لانتزاعها. كانت هذه الخطوة مطمئنة للجنود وجاء الهجوم علي المعدية رقم6 في المعركة المحدودة التي نشبت في التاسع من مارس من نفس العام, واستشهد فيها الفريق عبدالمنعم رياض لتضيف غضبا علي غضب, يقول سلطان: شهدت بعيني استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض, وقبلها وبعدها كنا نري العربات والبلدوزرات الاسرائيلية تتجول علي الشاطئ المقابل للقناة حاملة مستلزمات بناء خط بارليف, كان بناؤهم لخط سكك حديدية وصلتنا أنباؤه هو القشة التي قصمت ظهر البعير فقد بدا ان اسرائيل قد اطمأنت إلي استقرارها الدائم في سيناء. العميد محمد زيتون قائد احدي سرايا المظلات خلال حربي أكتوبر والاستنزاف, لايجد في هاتين المعركتين انفصالا عن سلسلة طويلة بدأت في عام1948, يقول زيتون: الفيصل في المعارك بالنسبة لي ليس الهزيمة أو النصر وحدهما, بل حسابات الأقدار والشجاعة ونبل الهدف والمعركة, بدءا من عام1948 كان الجندي المصري حاضرا, ربما خدعنا البحر وحاولوا تزييف التاريخ مدعين أن السبب في الهزيمة كان أسلحة فاسدة متناسين أن محكمة خاصة حققت في القضية وأصدرت قرارها القاطع عام1955 مؤكدة أنه لم تكن هناك أسلحة فاسدة وان اسباب الهزيمة تعود لضعف العدد والعتاد, ما ابقي الجيش المصري قليل العدد صامدا كان هو شجاعة وايمان المقاتل المصري وحدهما, فحتي المؤن كان القادة يشترونها من المدن والقري التي يمرون بها بما لديهم من أموال قليلة, وعندما جاء العدوان الثلاثي عام1956 انتقاما من مصر لانها بدأت في السعي لتنفيذ أحلامها المشروعة في التقدم والاستقلال السياسي والاقتصادي, جاءت شجاعة المواطن المصري الذي أصبح مقاتلا في المقاومة الشعبية وبمعاونة وحدات الجيش المصري تمكن من صد قوات ثلاث دول حديثة التسليح, وأعلن وحده بدء انهيار الامبراطوريات الاستعمارية القديمة, وماحدث بعد ذلك في1967 وما استتبعه من صمود وقتال حتي النصر في حربي الاستنزاف وأكتوبر, هي كلها حلقات ترسم ملامح الشخصية المصرية التي تحمل جينات الشجاعة والاقدام علي عكس الشخصية الاسرائيلية المتسممة بالجبن والتخاذل. يؤكد زيتون نظريته عن( الفارق الجيني) بين المصريين والاسرائيليين بقوله: في بدايات حرب الاستنزاف لم تردنا أوامر من القيادة بالاشتباك, كنا نبادر دون انتظار الأوامر وقد أدي هذا الاقدام من المقاتلين المصريين إلي معرفة معلومات مبكرة عن قوة تسليح وتشكيل الجيش الاسرائيلي, فقد كانوا يردون علي طلقات رصاصنا بكل ما لديهم من أسلحة, وافادت هذه المعلومات لاحقا في معركة الاستنزاف التي دامت خمس سنوات, ثم معركة العبور, ويؤكد زيتون: روح المبادرة والشجاعة تلك هي التي حشدت المصريين في الشوارع خلال ثورة الخامس والعشرين من يناير, هي الروح ذاتها التي حركت المقاتل المصري للمبادرة, والاشتباك من أجل الحرية والكرامة في حربي الاستنزاف والسادس من أكتوبر. ويضيف زيتون ان فترة حرب الاستنزاف شهدت مبادرات من الجنود وصغار الضباط لتطوير القدرات الدفاعية والهجومية في مصر, فقد بادر الجنود لتطوير امكانات الاسلحة المستخدمة حرصا منهم علي رفع كفاءتها القتالية مقابل التسليح الحديث للجيش الاسرائيلي خاصة أن الولاياتالمتحدة ووراءها قوي اخري حريصة علي استمرار اسرائيل علي قمة التسليح في المنطقة العربية.