اسمه كويكو ادوبولي, في الثلاثين ربيعا تقريبا.. بشرته سمراء سمرة إفريقية, فهو كيني الأصل.. أما صنعته فهي السمسرة في أسواق المال العالمية. وعلي الارجح لم يكن ادوبولي يتصور انه سيأتي يوم سيكون فيه حديث العالم أجمع لكن ما لم يكن يخطر علي بال هذا الشاب المفعم بالطموح قد حدث, نعم لقد اصبح اسم ادوبولي واحدا من أشهر الأسماء في شتي ربوع العالم هذه الأيام, لقد دخل أدوبولي التاريخ ولكن للأسف ليس من باب نزيه, وإنما عبر واحدة من أكبر بوابات الاحتيال في العصر الحديث, إنها بوابة المضاربة غير المشروعة بأموال الغير. كان ادوبولي يعمل سمسارا لحساب مصرف عالمي ضخم يدعي يو.بي.اس ويعد بنك يو.بي.اس واحدا من أكبر المؤسسات المصرفية في العالم. يتخذ هذا البنك من مدينتي بال وزيوريخ السويسريتين مقرين رئيسيين له, وهذا البنك العملاق ليس بنكا عاديا يودع الناس فيه اموالهم مقابل فائدة وانما هو نوع من المؤسسات المالية تحمل اسم بنوك الاستثمار, ويتمثل النشاط الرئيسي لهذا البنك في استثمار اموال اغني اغنياء العالم, ويعمل بنك يو.بي.اس في أكثر من خمسين دولة, ويبلغ عدد العاملين فيه اربعة وستين الف شخص. وتمتد جذور هذا البنك إلي عام1854 وتبلغ قيمة اصول يوبي اس حوالي تريليون ونصف التريليون دولار اي مايعادل أكثر من نصف اصول البنوك العربية جميعها من الخليج إلي المحيط بما في ذلك بنوك دول منطقة الخليج الثرية, ويكفي ان نعرف ان حجم ارباح هذا البنك بلغ في العام الماضي أكثر من سبعة واربعين مليارا ونصف المليار دولار اي اكثر بكثير من الدخل القومي لدولة مثل اليمن. الحكاية من أولها لكن ماهي حكاية كويكو ادوبولي مع هذا البنك الاستثنائي؟ لقد اكتشف ذلك البنك ان هذا الشاب استغل منصبه وضارب بأموال المستثمرين لدي البنك بجنون في بورصات عالمية علي نحو اسفر عن خسارة هذه المؤسسة المالية نحو ملياري دولار, ومثل امام المحكمة بعد ان اتهم رسميا بالتورط في مضاربات غير مشرعة ليسقط بنك يو بي اس في هاوية ازمة وليتسبب في توجيه ضربة كبيرة لمصداقية البنوك في الغرب علي نحو اسفر عن تهاوي أسعار اسهم المصارف في شتي ارجاء العالم. وخلال المحاكمة بكي ادوبولي, كان يرتدي وقتها سترة زرقاء فاتحة اللون وقيمصا ابيض, ولم يتحدث الا لتأكيد اسمه وعنوانه, قررت المحكمة استمرار حبسه علي ان يمثل مجددا امام نفس المحكمة لاحالة قضيته إلي محكمة عليا في28 من أكتوبر المقبل.. وكشفت قاضية التحقيق كارولين واجستاف ان الغرض من هذا الأمر هو السماح للمتهم بطلب الافراج عنه بكفالة, كي يستعد للقضية لان الاتهامات الموجهة ضده شديدة الخطورة. واستعاد ادوبولي رباطة جأشه لاحقا خلال الجلسة القصيرة وتمكن من اظهار بعض الابتسامات لاشخاص جالسين في المكان المخصص للجمهور داخل قاعة المحكمة. في غضون ذلك كان بنك يو.بي.اس في موقف عصيب اذ حذرت الوكالة العالمية التي تتولي تصنيف المؤسسات حسب قدرتها علي الوفاء بديونها من ان تراخي البنك في إدارة المخاطر الاستثمارية قد يدفعها إلي خفض تصنيفه الائتماني, وهو الأمر الذي شكل ضربة هائلة لاسهم البنك في البورصات العالمية. المفارقة الكبري اما المفارقة الكبري في هذه القصة فتتمثل في ان شركة المحاماة التي تتولي الدفاع عن ادوبولي هي نفس شركة المحاماة التي تولت في منتصف التسعينيات من القرن الماضي الدفاع عن سمسار اقترف نفس فعله ادوبولي. هذا السمسار كان يدعي نيك ليسون وتسبب في خسارة بنك بارينجز البريطاني ما يقرب من مليار ونصف المليار دولار علي نحو تسبب في انهيار هذا البنك, وفي توجيه ضربة مؤلمة للقطاع المصرفي العالمي في عام.1955 اما أكبر فضيحة مضاربات مالية فاسدة في التاريخ علي الاطلاق, فهي تلك التي وقعت في عام ألفين وثمانية وكان بطلها الأكبر رجل المال الأمريكي بيرنارد مادوف ذلك الرجل الذي بلغ حجم عملياته الاحتيالية المالية أكثر من خمسين مليار دولار. حكاية مادوف ولم يكن مادوف مجرد سمسار مغمور مثل ادوبولي او ليسون بل كان في وقت من الأوقات رئيسا لاحد أكبر البورصات الأمريكية ألا وهي بورصة ناسداك كما كان رئيسا لمجلس محافظتها. واستغل مادوف علاقاته الواسعة بكبار البنوك والمؤسسات المالية في العالم واستطاع اقناعها باستثمار مليارات الدولارات لديه, حيث عمد إلي انشاء صندوق استثمار في عام1960 ليصبح هذا الصندوق احد أكبر اللاعبين الرئيسيين في اسواق المال في وول ستريت. وقد تم اعتقال مادوف في الحادي عشر من سبتمبر من عام ألفين وثمانية, حيث القي مكتب التحقيقات الاتحادي القبض عليه بناء علي بلاغ من ابنه فضح فيه الابن ممارسات الأب الاحتالية علي مدار عقد كامل. وجمد قاضي التحقيقات الفيدرالي اصول مادوف وعين عليها حارسا قضائيا. وقد أعلنت بنوك اسبانية, وسويسرية, وفرنسية وايطاليا وبنوك من دول أخري ضياع مئات الملايين من اموالها جراء هذا المحتال. ومن بين مفارقات قضية مادوف انه كان واحدا من ابرز رجال البر والاحسان في أمريكا أو هكذا كان يشاع عنه اذ كان معروفا عنه انه كان كثير التبرعات للجمعيات الخيرية كما كان احد كبار ممولي الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه الرئيس باراك أوباما. وقد قضت محكمة امريكية في نيويورك في منتصف عام الفين وتسعة بسجن مادوف البالغ من العمر71 عاما بالسجن150 سنة وهي العقوبة القصوي التي طلبها الادعاء العام بحق المتهم. واعترف مادوف بالتهم الموجهة إليه والتي تشمل الاحتيال, والسرقة, والحنث باليمين, وغسل الأموال. وتلقت المحكمة التي نظرت قضيته اكثر من100 رسالة من ضحايا مادوف الذين وصفه بعضهم بالوحش. وتعلقت التهم الموجهة لمادوف, بإيجاد حسابات وهمية لاقناع المستثمرين بامكان تحقيق ارباح مرتفعة, بينما كان يقوم في واقع الأمر باعطاء المستثمرين الجدد ارباحا من حسابات قدامي المستثمرين. وقال الادعاء إن مادوف ادار مشروعا عملاقا حول فيه اموال المودعين لمصلحته الشخصية. ويحاول المحققون حتي الآن استعادة الاموال التي سرقها مادوف لكن المراقبين والضحايا لايتوقعون استعادة سوي جزء ضئيل منها. وقد أكد محامي عدد من الضحايا ان من الخطأ الاعتقاد ان جميع المستثمرين لدي مادوف كانوا من الاثرياء لان عددا كبيرا منهم كانوا من المتقاعدين ومن الناس العاديين. وأشار إلي حالة اثنين من هؤلاء الضحايا وهما متقاعدان في الثمانينيات من العمر ويبحثان عن عمل حاليا بعد ان خسرا مدخراتهما التقاعدية في احد صناديق مادوف الاستثمارية. رغم انف القوانين ورغم القوانين واللوائح المشددة التي تتبناها الدول الكبري لمواجهة الاحتيال في عالم اسواق المال فإن هناك من يتحدث عن ان الاحتيال اصبح ظاهرة شائعة في البورصات العالمية وأنه في كل فترة من الزمن ينجح المحتالون في اكتشاف ثغرة ينفذون منها لنهب اموال طائلة من المستثمرين في البورصات ثم تقوم الحكومات بسد هذه الثغرة ثم يكتشف المحتالون ثغرة جديدة وهكذا. باختصار فان محتالي الأسواق المالية دائما ما يكونون بحكم براعتهم في هذا المجال اسبق خطوة من القوانين. وتتمثل المعضلة الكبري في هذا الصدد في أن القطاع المالي شديد التأثر بأي حادث سلبي خاصة إذا كان من العيار الثقيل, اذ سرعان ما تهوي الأسهم سريعا وتتضرر سمعة القطاع برمته كلما جري الكشف عن فضائح من هذا القبيل. وكم من شركات عملاقة كان يضرب بها المثل في ضخامتها مثل شركة انرون الأمريكية التي انهارت في بداية الالفية الجديدة في واحدة من أكبر الفضائح المحاسبية في التاريخ ليتراجع سعر سهمها من90 دولارا في منتصف عام الفين إلي تسعين سنتا فقط في عام الفين وواحد. اقتصاد ورقي ويقول خبراء إن هيمنة المضاربات علي القطاع المالي العالمي( اسواق الاسهم والسندات) جعلته يتوحش بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية. فقد بلغ حجم هذا القطاع وفق تقديرات نحو148 تريليون دولار, باختصار نحن الآن نعيش في عصر اقتصاد ما بعد الصناعة, حيث يفوق حجم اسواق المال بكثير حجم الاقتصاد الحقيقي الممثل في المصانع والمزارع وغيرها من المرافق الانتاجية. باختصار صار في الامكان تحويل اي اصول مادية في العالم إلي سندات واسهم تجري المضاربة عليها بلا هوادة لتتضخم قيمتها سريعا وتتحول إلي بالونات أو فقاقيع مالية ممتلئة بهواة المضاربات الفاسدة, ثم سرعان ما تنفجر هذه الفقاعات ليدفع الملايين من صغار المستثمرين الباحثين عن حلم الثراء السريع مدخرات عمرهم. المضاربة علي غذاء الفقراء بل وصل الأمر إلي حد المضاربة علي أسعار المواد الغذائية مثل القمح والشعير والسكر ناهيك عن اسعار البترول, والذهب, والفضة, علي نحو تسبب في قفزة أسعار هذه السلع وليشهد العالم واحدة من اكبر موجات الغلاء في تاريخه وهي الموجة التي تسببت في صعود عدد الجوعي في العالم إلي ما يناهز المليار شخص. كما كانت المضاربات المحمومة والمجنونة في اسواق المال والسلع العالمية احد اسباب الأزمة المالية العالمية التي انطلقت شرارتها الكبري في خريف عام الفين وثمانية وهي الازمة التي رفعت عدد العاطلين في العالم إلي200 مليون شخص وهددت بتدمير النسيج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبشرية. اقوي من الدول بلغت سطوة المضاربين إلي حد انهم اصبح في وسعهم المضاربة علي السندات السيادية للدول ويهددون بدفعها إلي شفير الافلاس كما حدث مع اليونان والبرتغال وايرلندا ورغم ذلك فانه لاتوجد قوانين أو لوائح عالمية متفق عليها قادرة علي ردعهم. فهؤلاء المضاربون الذين يسمون بذئاب الاسواق يعمدون إلي بيع سندات هذه الدول علي المكشوف كي تتهاوي اسعارها وتضطر الدول المصدر لها إلي دفع فوائد فاحشة عليها وهو ما يعني من الناحية العلمية اغراق هذه الدول في مزيد من الديون. وهكذا تحول جزء هائل من الاقتصاد العالمي إلي مايشبه نوادي قمار عالمية جبارة( حجم التداول في اسواق العملات3 تريليونات دولار يوميا).. نوادي قمار تزيد شريحة محدودة للغاية من الاغنياء في العالم غني وتدفع بمئات الملايين من البشر إلي هاوية الفقر بلا جريرة سوي انهم يفضلون العمل في ظل اقتصاد حقيقي لا اقتصاد ورقي.