ليست أحب الروايات إلى القراء أحبهن، أيضًا، لكُتابهن، أشارت ديباجة جائزة نوبل إلى رواية «أولاد حارتنا» للأستاذ نجيب محفوظ كأحد أسباب منحه الجائزة، صدرت فى ستينيات القرن الماضى ضمن حلقات أسبوعية تنشرها جريدة الأهرام. ومع حس الصحفى وفطنته، سارع الأستاذ محمد حسنين هيكل، رئيس مجلس إدارة الجريدة ورئيس تحريرها آنذاك، بنشرها فى حلقات شبه يومية، أدرك أن ما تثيره بعض الألسنة من صخب وربط بينها وبين الدين بشكل مباشر، قد يؤدى إلى منع نشرها، وهو ما حدث، إلا أنه كان قد انتهى من نشر حلقاتها جميعًا، وكالعادة ظل الممنوع الأكثر اشتهاءً بين القراء، تطبع نسخها وتباع خارج التداول العلني. لمحفوظ، لم تكن روايته تلك الأقرب إلى قلبه بشخوصها وأحداثها، ليس تبرؤًا منها، ولكن لأن شخصية كمال فى ثلاثيته الشهيرة ظلت الأقرب إلى قلبه، كمال البسيط الانطوائى الطوباوى الحالم المعجون بماء الحزن والانكسار، شخصية تَخفى خلفها فى الحب والسياسة فعبرت عن حياته الخاصة. «مائة عام من العزلة»، كانت كلمة السر فى شهرة الكاتب الكولومبى جابريل جارثيا ماركيز وحصوله على نوبل، رواية ممزوجة بالعجائبية السحرية التى ورثها عن جده وجدته، بحكم تربيتهما له، اختزن حكايات صنعت الخرافة عمودها الفقري؛ أساطير عن كل شيء، المطر برذاذه وسيوله، الصيف بحره ورطوبته، الشتاء برعده وبرقه، وحتى الرجال والنساء والأطفال، شملت الأسطورة كل ما حوله، وظلت تلك البيئة تغلف رواياته. افتتح مائة عام من العزلة بأسطورة ألقاها بشكل عابر، كأنما سقطت منه عن غير قصد، أجيال تصنع حياتها وتاريخها وتمهد لتاريخ من يأتى بعدها، استخدم ذات الأسماء لأجيال متعاقبة اكتظت بها الرواية فى ترتيب حلقى رسخ فى يقين القارئ دورة التاريخ؛ تتغير الشخوص والأزمنة والأدوات، وتبقى الحكايات الإنسانية كما هى دون تغيير، تُذكرك بلعبة القطار المتحرك على قضبان دائرية، ينطلق من نقطة البداية فإذا أكمل دورته صارت نقطة نهايته، لا بداية ولا نهاية، وكما يقول الشاعر طاهر أبو فاشا «أول الطريق هو منتهاه». تيمة لم تغادر روايات ماركيز، حتى الأقرب إلى قلبه، خريف البطريرك، سجل فيها ديكتاتورية حكام أمريكا اللاتينية، لا فرق بينهم، سواء من حكم لشهور ومن حكم لعقود، جسدهم فى صورة واحدة، ذات الشخصية، حتى الملامح والصفات الجسدية تتطابق، لم يعد يهم موت أحدهم، فهناك دائمًا قرين وشبيه جاهز لاعتلاء العرش والهتاف بذات العبارة «يحيا أنا». ليس ثمة مفارقة بين الروايتين مائة عام من العزلة وخريف البطريرك، الأولى كانت بالغة السهولة، كتبها بعفوية وفى وقت قصير، طلقة فكرية جاهزة تعرف مسارها فى عقل كاتب مُفلِس يقيم مع زوجته فى منزل تأخر فى دفع إيجاره أربعة أشهر، وعندما أتاه المالك يطلب سداد المتأخرات، استمهله شهرين ريثما ينتهى من روايته ويتقاضى أجره من الناشر، ولحسن الحظ وافق الرجل ومنحه ثلاثة أشهر. خريف البطريرك كانت الأصعب، يمر اليوم فلا يكتب سوى عدة سطور يلقى بها فى سلة المهملات عند المساء، تراكيب جديدة، وجمل طويلة تتجاوز الصفحة، ورسم دقيق وغوص عميق فى شخصية الديكتاتور فى كل أحواله؛ مرة وحده يتأمل الشعب والكون، ومرة وسط شعبه وأخرى مع رجال حكومته وفى أوقاته الخاصة، فى البداية لم تحظ الرواية بما حققته مائة عام من العزلة من شهرة، حتى أن حكومة شيلى لم تجد سببًا لحظر رواية لا تحظى بشعبية، ومع هذا ظلت الأقرب إلى قلبه، فشعبية رواية لا تعنى أنها الأقرب إلى قلب كاتبها، حتى ولو كانت سببًا فى نوبل.