من أسعده الحظ في رؤية الحوار الذي أجراه الإعلامي حسين معوض مع يسرائيل فنكلشتاين رئيس المعهد الآثاري في جامعة( تل أبيب) في فضائية ال(B.B.C) فإن أول ما يتبادر إلي ذهنه, الواقع الكارثي الذي تعيشه مؤسساتنا العربية, السياسية والثقافية والتعليمية والإعلامية. و منذ حوالي عام1850 تم تأسيس الكثير من الجمعيات في أوروبا وأمريكا, لا هم لها إلا اختلاق إسرائيل القديمة وإسكات التاريخ الفلسطيني, وهذا الاتجاه يوضحه الدستور الخاص بصندوق استكشاف فلسطين الذي انشئ عام1865, ومفاده أن فلسطين لم تكن مهمة في ذاتها, بل لاختلاق إسرائيل القديمة, وكان ذلك من العوامل المساعدة لتحفيز اليهود, ومن الأهم من الغرب المسيحي, علي اسباغ فكرة العودة المألوفة إلي جبل صهيون في التراث المسيحي بطابع سياسي استعماري, وهكذا تم وضع الزمان المطلق ضمن حغرافيا مهددة تمهيدا لاختلاق كيانهم الاغتصابي الاصطناعي, ولأجل ذلك فكثيرا ما خربوا التتابع الأثري التاريخي في هجمة دراساتهم غير العلمية وبحثهم الفوضوي عن أسانيد تدعم حقهم التاريخي المزعوم في فلسطين, أما موقف العرب إزاء هذا الاحتيال التاريخي الذي يجري علي المكشوف, فقد كان حقا موقفا مخزيا, فعن طريق أولئك المخربين تسربت المعلومات الزائفة علي علاتها إلي المؤرخين والآثاريين العرب عموما, وبالنقل الحرفي أحيانا, كحقائق تاريخية لاسبيل إلي إنكارها.. وهكذا اتكلوا علي غيرهم ليقرأوا تاريخهم. ويعيدوا كتابته علي هواهم فيما تقتضيه مصالحهم. وفي هذه المسألة بالذات يذكر البروفيسور بيشلر دريكسلر: انه ما من دولة في الأرض رويت عنها الأساطير وكتمت حقيقتها بنشاط أكثر من دولة إسرائيل الفلسطينية, وقد جاءت الأيام لتثبت صحة وجهة نظره, إذ أتت الرياح بما لا تشتهي سفن الصهيونية, وقد عبر عن ذلك عالم الآثار الاسرائيلي زئيف هرتسوج عام1999 بقوله: إنه بعد مائة وخمسين سنة من الحفريات المكثفة, توصل علماء الآثار إلي نتيجة مخيفة, لم يكن هناك أي شيء علي الإطلاق, حكايات الآباء مجرد أساطير, لم ندخل إلي مصر, ولم نخرج منها إلي فلسطين, ولا ذكر لامبراطورية داود وسليمان, الباحثون والمهتمون يعرفون هذه الحقائق منذ زمن, أما المجتمع فلا. وقد بدأ هذا الاتجاه يتعزز منذ ثلاثة عقود علي أيدي نخبة من الآثاريين الغربيين من نبلاء الضمير أمثال ماكليستر وكاثلين النيون, وتلاهما بولاب الذي مهد عمله الطريق لتصديع الحق التاريخي لليهود في فلسطين أمام: جلوك ووليم ديفر وتوماس ليفر وجوناثان تب وتوماس طومسون وكيث وايتلام وغيرهم, وبفضل جهودهم أصبح بإمكاننا التفاؤل ببدء فك الحصار عن الحق التاريخي للفلسطينيين في فلسطين, بعد تحريره من قبضة الخطاب التوراتي الذي احتفظ بالماضي لإسرائيل وحدها. وأبلغ من ذلك في الدلالة, أن يجد هذا الاتجاه من يؤيده من بين الآثاريين الإسرائيليين أنفسهم. الذين ما انفكوا يزعزعون أركان الرواية الصهيونية, وينفون العديد من رواياتها, ويقوضون حججها الكثيرة فيما يتعلق باليهود وانتمائهم إلي ما يطلقون عليه أرض الميعاد, ونستطيع أن نتجاوز عن تفاصيل هذه المسألة, ونكتفي علي سبيل الاستشهاد بخلاصة وجهة نظر فنكلشتاين الذي شكك في وجود أي صلة لليهود بالقدس, وأكد أن علماء الآثار الاسرائيليين, لم يعثروا علي أي شواهد تاريخية أو آثارية, تدعم بعض القصص الواردة, وأكثر من ذلك, شكك في قصة داود التوراتية, الأكثر ارتباطا بالقدس حسب معتقدات اليهود, ويقول: لايوجد أساس أو شاهد إثبات تاريخي علي وجود هذا الملك المحارب الذي اتخذ القدس عاصمة له, والذي سيأتي من صلبه من يقوم بالاشراف علي بناء الهيكل, مؤكدا أن شخصية داود كزعيم يحظي بتكريم كبير, لانه وحد مملكني يهودا وإسرائيل هو مجرد وهم وخيال, وينتهي من ذلك إلي أن وجود باني الهيكل مشكوك فيه أيضا. أما فيما يتعلق بهيكل سليمان, فيؤكد أنه لايوجد أي شاهد أثري يدل علي أنه كان موجودا بالفعل.. ووجهة النظر هذه لم ينفرد بها فنكلشتاين وحده, بل باتت ملمحا تتقاسمه نتائج أبحاث العديد من علماء الآثار الاسرائيليين العدول, الذين يحترمون معطيات العلم وحقائق أبحاثه, ومما قاله أحدهم وهو روني ريك: آسف لأن السيد داود والسيد سليمان لم يظهرا في القدس.. وعلي ضوء هذه الظروف, يجوز لنا بالتأكيد أن نعتنق الرأي المعقول القائل بانه قد ترسخ في أذهان الكثيرين ممن يوثق في أبحاثهم, أن هذا الهيكل محض خيال, ويفتقر إلي الدليل الأثري والأساس التاريخي, مثل كل تواريخ اليهود الموجودة في التوراة, الأمر الذي جعل بعض الباحثين العدول يعيدون النظر في كل ما جاء في التوراة, مطالبين بأن يكون لعلم الآثار دور أكثر أهمية في رسم الخطوط الموضوعية لهذا التاريخ, وأن كل ما في التوراة إن هو إلا محض أساطير اختلقها كتبة التوراة, ليصنعوا من تلك الشراذم شيئا, وليجدوا بين أيديهم رمزا ذا جاذبية خاصة متمثلا في الهيكل السليماني, يلتقون حوله, وفي نفس الوقت يكون قطب جذب لشراذمهم من شتي أنحاء المعمورة. ومن هنا وعلي هذا الأساس, تمس أبحاث هؤلاء عصبا أساسيا من أعصاب الحركة الصهيونية, الذي تبذل منذ نشأتها جهودا خارقة للبرهنة علي أن كل شيء في هذه البلاد له أصل يهودي يردونه إلي التوراة ويحيطونه بالروايات المأخوذة منها, وهكذا يكاد يكون من الطبيعي إذن, بل من المتحقق أن يعمد اليمين الأيديولوجي في الحركة الصهيونية, الذي تقض مثل هذه الأبحاث مضاجعه, إلي شن حرب ضروس علي هؤلاء الذين يسميهم ب ناكري التوراة وهذا الاستخدام لكلمة ناكري جاء ليجري مقارنة بينهم وبين ناكري المحرقة اليهودية في زمن النازية, أي أنهم يعتبرونهم أسوأ من كل أعداء اليهود, لكن هذا التهجم اللاإنساني والمجافي للحقائق التاريخية وروح العلم, لايرده علماء الآثار العدول, فهم ماضون في مسيرتهم, يناقشون ويواجهون ويتحدون, وفي الوقت نفسه يحفرون ويبحثون ويطرحون أمام العالم كشوفاتهم العلمية, وكل أثر يكتشف, يعمق الهوة بين الاستخدام الذرائعي للروايات التوراتية, التي تعتمد المقولات المبسطة, ولا تبني علي حقائق علمية, وحقائق التاريخ.. وهذا بدوره جدير بأن يفسر لنا مقولة عالم الآثار الاسرائيلي نيلز بيتر ليمكه: انه لايوجد أي شيء في السجل الآثاري, يدل علي كينونة اسمها اسرائيل.. ومثل هذه الاعتبارات قمينة بأن تقودنا إلي تقصيرنا في بحث ماضينا, والبؤس العلمي الذي يحيط بنا, وليس من باب المبالغة أن أقول, إنني لم أشعر بخجل وأسي, مثل الذي شعرت به حينما أشار فرنكلشتاين إلي ذلك التقصير.. فهل يعقل أن نحول أبصارنا عن مسألة كهذه, وهي من أهم معطيات الصراع العربي الاسرائيلي, أفلم يكفنا ما أضعناه من فرص, لو أحسنا استغلالها, لوفرنا علي أنفسنا كثيرا من الخسائر التي تكبدناها في الماضي ونتكبدها في الحاضر, ومن الممكن أن نتكبدها في المستقبل.