لم يحتمل محمد عامل المقهي بعزبة الهجانة بمدينة نصر فراق زوجته وطفليه وتركهما لمنزل الأسرة بسبب عصبيته الشديدة وفقره المدقع, وأحضر جركن بنزين وسكبه علي نفسه أمام أهل المنطقة. الذين ظنوا في بادئ الأمر أنه يمازحهم حتي يضحكهم بأفعاله الصبيانية, إلا أنه أشعل عود كبريت في سيجارته ومررها علي ملابسه لتحوله في لحظات إلي كومة فحم وتفشل محاولات إسعافه. تفاصيل المأساة سطرها محضر بقسم شرطة مدينة نصر أول عندما تعرف محمد(30 سنة) منذ سبع سنوات علي الفتاة مني ذات الأصول الصعيدية أثناء تكرار مرورها من أمام المقهي لمعاونة والدها في محل البقالة الذي يؤجره من أحد الأشخاص ليجد قلبه يهيم شوقا بمني التي كانت تعامله في حدود الجيرة ولم تدرك أن اعجابه الشديد بها سلب قلبه وعقله وارادته فاقتنص فرصة سيرها بمفردها ذات مرة بشارع جامع الحاج شحاتة في طريق عودتها إلي منزل الأسرة واستوقفها وصارحها بحقيقة مشاعره فكان احمرار الخدود والحياء الشديد هو رد الفعل الذي بدا علي وجه مني أول ماسمعت بهذه الكلمات وطلب منها أن ترد عليه بإجابة قاطعة حتي ينتقل إلي المرحلة التالية وهي التقدم لخطبتها بقدمين ثابتتين. أمهلت مني نفسها فترة للتفكير في شريك العمر حتي ايقنت أن محمد هو الشخص المناسب لها مقارنة بشباب المنطقة الذين لايكفون عن تناول المخدرات وافتعال المشاجرات التي تزهق فيها أرواحهم وأصبح محمد هو الفرصة التي ستخلصها من سطوة أفراد أسرتها وتضييق الخناق عليها في خروجها من المنزل وعودتها إليه. وعندما وصلت لمحمد بشارة الموافقة من مني لم يكذب خبرا وتوجه بصحبة شقيقه الأكبر إلي متجر والد مني وطلب منه التقدم لخطبتها وبعد مشاورات بين الأسرة توصلوا إلي أن محمد هو الشاب المناسب لابنتهم فعقد أهل الزوجين القران وسط فرحة من أهالي عزبة الهجانة الذين زفوا العروسين إلي العش الجديد وعيونهم تشرق بالفرحة ومرت السنة الأولي علي العروسين في جو من البهجة والسرور ولم يكدرها سوي بعض المشاحنات البسيطة بسبب مصروف المنزل. لكن وبعد إنجاب طفلهما الأول وليد عرفت الخلافات الزوجية طريقها إلي العش الصغير لعدم قدرة الزوج علي تلبية مطالب الطفل الصغير وأمه التي لم تشعر أن حياتها مع محمد تغيرت عن معيشتها مع أسرتها التي تركت عزبة الهجانة وعادت إلي مسقط رأسها بمركز القوصية بمحافظة أسيوط بعد انسداد موارد الرزق في القاهرة وأن محمد لم يف بالوعود التي ساقها إليها أثناء فترة خطبتهما بأنه سيجعلها ملكة في منزلها ملبيا لكل طلباتها قاومت مني حياة البؤس وضيق ذات اليد مع زوجها الذي كان يكابد الحياة من أجل أن يوفر قوت يومه للأسرة الصغيرة فلم يكتف بالعمل في المقهي بل أصبح يعمل أجريا في العقارات الجديدة التي تبني بالمنطقة وفي السنة الخامسة من زواجهما رزق الزوجان بالطفلة أمينة ولكن مجيئها للدنيا لم يسعد من أنجباها لأنهما شعرا بأن المسئولية زادت عليهما فكرن مني في مساعدة زوجها بالعمل كبائعة خضار في الأسواق إلا أن محمد سرعان مادحض فكرتها خوفا عليها من مضايقات الزبائن وحتي لاتهمل في تربية الطفلين. شعر محمد أن هموم الدنيا تكالبت عليه وحياة الفقر والبؤس تحاصره من جميع الجوانب رغم بذله كل طاقته في العملين فأصبح يخفي عجزه بافتعال المشاجرات والمشاكل مع شريكة حياته التي كانت تمضغ إهانته لها في صمت شديد أملا في أن يعود إلي طبيعته التي اعتادتها منه إلا أنها وجدت العصبية صفة متلاصقة مع زوجها الذي كانت تنظر في عينيه وتسأله هل هذا ما عاهدتني عليه أن تختلق المشاكل لأتفه الأسباب حتي تداري قلة حيلتك. ضاقت مني ذرعا من زوجها الذي أصبح شخصا لايطاق وأصبحت قسوة وفظاظة القلب هي أسلوبه في الحياة فعقدت العزم علي ترك الجحيم الذي تعيش فيه والفرار بطفليها دون عودة للزوج الذي لم تعد تكن له أي مشاعر حب أو حنان. فحزمت أمتعتها وانتظرت حتي توجه الكئيب إلي عمله ثم حملت طفليها وأغلقت باب المنزل والحزن يتجلي في عينيها علي الأيام التي قضتها في هذا المنزل متوجهة إلي مسقط رأسها بمحافظة أسيوط. بعد يوم شاق كادح ينقضي سعيا وراء الرزق عاد الزوج إلي منزله في انتظار من سيفتح له الباب الذي طرقه عدة مرات وما أن دلف إلي الداخل حتي فوجئ باختفاء أفراد أسرته فبحث عنهم كالمجنون لكنه لم يجدهم فسأل الجيران عنهم فلم يجد ضالته التي ينشدها. أدرك الزوج أن رفيقته قررت الانفصال وأنها تركت المنزل دون عودة فاعتصر الألم قلبه وحاول بمتاعب العمل اليومية أن ينساهم ويسدل عليهم الستار ويعتبرهم نسيا منسيا إلا أن الوحشة التي أطبقت علي الزوج وهو يعيش بمفرده وحنينه إلي أنفاس زوجته وطفليه جعل اليأس يلتحم في قلبه بالغيظ والغضب وشعر أن حياته بدونهم مستحيلة فقرر أن يضع نهايته بيده ليحضر جركن ويملأه بالبنزين ويقف وسط عزبة الهجانة علي مرأي ومسمع من أهلها ويسكبه علي جسده ثم يشعل سيجارة ويدخن منها نفسا مجترا به همومه ويضعها علي ملابسه فتشتعل النيران في أنحاء جسده ويحاول أهالي المنطقة انقاذه بسكب المياه والتراب عليه وينقلونه إلي المستشفي لكن دون جدوي حيث حولت النيران جسده إلي قطعة من الفحم لايفلح معها سوي دفنها بالتراب لتعود إلي بارئها.