يحاول مسئولو الإدارة الأمريكية وبعض المحللين والمراقبين الغربيين الإيحاء للعالم بأن واشنطن تسعي إلي الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة العربية. بينما السياسات الأمريكية الفعلية علي الأرض علي مدي السنوات الأخيرة عززت من النفوذ الإيراني وأوجدت قوة إقليمية مناوئة وتهديدا سافرا لكل جيرانها في الخليج العربي, وسمحت لها بإحكام قبضتها علي مجريات الأمور في كل من سوريا واليمن والعراق ولبنان, وحولتها إلي فزاعة لترهيب الشعوب والحكومات يتمدد نفوذها يوما بعد يوم, وكيانا يعمل علي زعزعة استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية في كل الدول المحيطة بها, الأمر الذي يصب مباشرة في صالح السياسة الأمريكية, ويدعم مخططها لإعادة ترسيم حدود الشرق الأوسط الكبير وفق خطة الفوضي الخلاقة المعروفة والموضوعة لصالح الاحتلال الإسرائيلي في فلسطينالمحتلة. فما كانت إيران لتحقق ما وصلت إليه من احتواء أو الهيمنة علي أربع دول عربية والاستئساد علي دول جوارها بما تملكه من جيش وحرس ثوري وبرنامج نووي وصواريخ باليستية متوسطة وبعيدة المدي قادرة علي حمل رؤوس نووية ما لم تسمح لها أمريكا بتطوير وتجريب قدراتها النووية والصاروخية, والتلكؤ في عرقلة جهودها في هذا الإطار تحت ذريعة التفاوض معها, مع الاكتفاء بفرض عقوبات شكلية عليها, في الوقت الذي يعلم فيه خبراؤها النجاح الذي كانت تحرزه إيران علي صعيد تخصيب اليورانيوم وتطوير برنامجها النووي يوما بيوم. ورغم ما أعلنه مسئولون أمريكيون منذ أيام من أن اليمن تشكل مسرحا حساسا في حملتها التي تهدف إلي الحد من النفوذ الإيراني في العالم العربي, ومصدر قلق لواشنطن من اكتساب إيران القدرة علي قطع طريق مرور البترول العالمي في البحر الأحمر من خلال ميليشيات الحوثي الموالية لها والتي تستمد قوتها من إيران مباشرة في صورة أسلحة وتدريبات ودعم لوجيستي وتحريض علي التمرد وخبراء ومستشارين عسكريين, وتشكل خطورة حقيقية علي أهم طرق تجارة البترول العالمي, إلا أن واشنطن لم تفعل من جانبها شيئا في هذا الإطار لا علي مستوي المواجهة العسكرية والقصف الجوي مع الحوثيين, ولا منعت وصول المساعدات العسكرية الإيرانية لهم, ولكنها اكتفت بتصعيد الحرب الكلامية بينها وبين الجمهورية الإسلامية, ونأت بنفسها عن التورط في مواجهة حقيقية مع الميليشيات اليمنية و لم تحاول حتي إنهاء الحرب الدائرة هناك بينها وبين قوات التحالف العربية بالطرق السلمية, كما لم تبادر بتقديم الدعم لحلفائها في السعودية, وبدلا من ذلك واصلت هجماتها الصاروخية علي مقاتلي تنظيم القاعدة في اليمن رغم تضائل خطورتهم نسبيا مقارنة بخطورة الحوثيين علي الشعبين اليمني والسعودي وطرق تجارة البترول العالمية وباب المندب. ويبدو أن الولاياتالمتحدة فشلت فيما تحاول الإيحاء به, وانكشفت سياساتها الفعلية البرجماتية التي لم تعر فيها أي اهتمام لاستقرار الأوضاع في المنطقة العربية, ولا بتقليم أظافر الجمهورية الإسلامية الإيرانية والحد من تمديد نفوذها في الخارج بقدر ما تسعي إلي شغل أنظمة الحكم في المنطقة بعدو جديد غير إسرائيل, يشكل تهديدا حقيقيا علي أمنها واستقرارها, ويستنزف طاقاتها ومواردها المالية في مواجهات عسكرية طويلة الأمد, ويبعد الأنظار عما ترتكبه إسرائيل من انتهاكات في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة ومحاولة تهويد مدينة القدس العربية. وربما تهتم واشنطن أكثر بالحفاظ علي قوة إيران النسبية ليبقي دور الفزاعة قائما, ولكن إلي حد عدم تهديد حلفائها في تل أبيب, وهي تعلم في الوقت نفسه أن الحوثيين بمساعدة الإيرانيين لن يجرؤوا علي تهديد القطع البحرية الأمريكية التي تمر من مضيق باب المندب, مهما حققوا من تفوق عسكري, ومهما امتلك الحوثيون من صواريخ إيرانية تمر تحت سمع وبصر الأمريكيين, وربما تحت إشرافهم, من السواحل الإيرانية علي الخليج العربي إلي البحر الأحمر حتي تصل إلي المتمردين الحوثيين في اليمن, أما التصريحات الأمريكية التي تتردد من وقت لآخر حول مخاوف الولاياتالمتحدة وإدارة ترامب من سيطرة الإيرانيين علي مضيقي هرمز وباب المندب التي يمر منهما حوالي ثلاثة ملايين برميل بترول يوميا, وعن استراتيجية أمريكية جديدة تجاه إيران واليمن فلا تعدو كونها مجرد تصريحات للاستهلاك العالمي, لأن واشنطن تثق في إن إيران لن تقدم علي مثل هذه الخطوة مهما كانت الإغراءات, وتعلم تماما أن طهران لن تستعديها, رغم الحرب الكلامية الدائرة بينهما. اللاعبون الموالون لإيران في اليمن أنصار الله وفي لبنان حزب الله, لا يشكلون أي خطورة علي المصالح الأمريكية, ولا علي خطوط الملاحة العالمية ولا علي إسرائيل, وواشنطن لا تري ضرورة حالية لإضعاف إيران باستهدافهم, بل علي العكس وجودهم يفيد في تحقيق الأهداف الأمريكية, وبقاء طهران كقوة إقليمية تنتهج سياسة عدائية تجاه جيرانها يفيد واشنطن ولا يضرها, أما الحرب الكلامية المفتعلة بين البلدين, فلا تكلف أي من الطرفين سوي التصريحات النارية من دون الحاجة لتحريك أساطيل وقطع بحرية وطائرات, مع تحقيق مصالح البلدين. ومع هذا تصر إيران علي إنكار تزويد الحوثيين بأية أسلحة, بينما يتخوف الأمريكيون علي الورق وعلي شاشات الفضائيات من تحركات الجمهورية الإسلامية التي أسدت للولايات المتحدة خدمات جليلة مجانية, بإثارة الذعر في المنطقة العربية والعمل علي إضعاف جيرانها باستنزاف مواردهم في مواجهات مكلفة ومجهدة ماليا وعسكريا, فيما غضت الأولي طرفها عن تطوير طهران لقدراتها النووية, واستهلكت الوقت في مفاوضات ماراثونية انتهت إلي اتفاق قد يلغي في أي وقت, وتركت لها الحبل علي الغارب في التدخل في شئون جيرانها وفرض سطوتها عليهم.