هناك أيام في تاريخ, لا يمكن أن يمحوها الزمن أو تنساها الذاكرة, إذ تظل هذه الايام خالدة خلود الزمن نفسه, ويظل عبقها يعطر الأجواء أو تتناقل أحداثها الأجيال جيلا بعد جيل, لذلك تبقي بطولاتها نبراسا يحتذيه الجميع وتدفع إلي مزيد من العطاء والبذل, إن هذه الايام صاحبة الذكريات المجيدة هي بمثابة الضوء الذي ينير ظلمة الطريق وهي القبس الذي يؤجج المشاعر ويضاعف الحمية والعزم ويشعل شرارة الانتماء والتفاني في حب الوطن, وبالتالي يجود الإنسان بنفسه مهما كانت غالية لأن الوطن أغلي ويصبح بذل الدم في سبيل رفعة الوطن وعلو شأنه أمرا يسيرا حيث يجود الإنسان بنفسه ويعتبر ذلك أرخص ما يقدمه لبلده, ومن هنا فإنه مما لا شك فيه ان يوم السادس من أكتوبر هو بالقطع واحد من هذه الأيام الخالدة إن لم يكن هو درة هذه الأيام, إنه يوم يضاهي يوم حطين الذي انتصرت فيه جيوش مصر بقيادة صلاح الدين علي جيوش الصليبيين وأذلت كبرياءهم وغرورهم, وكان بداية القضاء ورحليهم عن أرض العروبة, وهو اليوم الذي يختال علي يوم عين جالوت الذي أبلي فيه جيش مصر بقيادة قطز وبيبرس أحسن البلاء ولقن جيوش التتار درسا في فنون الحرب ذودا عن الدين والأوطان فلم تقم للتتار قائمة بعد ذلك. إن يوم السادس من اكتوبر الذي تحل ذكراه العطرة بعد غد إن شاء الله سيظل الأيقونة في سجل العسكرية المصرية بما احتواه من تضحية وفداء وإعداد جيد متميز وتدبير محكم وعطاء بلا حدود, وفيه تفتقت مواهب جنود مصر وعبقريتهم فأحكموا الخطة ونفذوها بروية وثبات وعزيمة صادقة, ومن مواهب جنود مصر في ذاك اليوم منذ أربعة وأربعين عاما ما جاءت به قريحة المقاتل المهندس باقي عن كيفية تفتيت خط بارليف وجعله هباء منثورا بعد أن قال خبراء حرب عالميون إن تفتيته يتطلب تفجير قنبلة ذرية ومن مواهبهم أيضا أنهم رتبوا إغارة أكثر من مائتي طائرة في وقت واحد علي مواقع العدو ومطاراته فأصابوها بالشلل وأصابوا قادتها بالذهول والعبقرية أن هذه الطائرات جاءت من مطارات في مناحي مصر جنوبا وغربا لتلتقي مع بعضها البعض في توقيت واحد وتقوم بغاراتها الناجحة ومن علامات الروعة التي امتلأت بها القلوب والنفوس أن يوم السادس من اكتوبر وماتلاه من أيام كان مثالا للانضباط والنظام الذي كان عليه كل المصريين, فتراهم يقفون في صفوف علي مواقف الأتوبيس ليركبوا واحدا بعد الآخر, كما أنه لأول مرة تخلو أقسام الشرطة من حوادث شغب أو سرقة, أذكر أنني ذهبت إلي قسم شرطة بولاق لأسجل إحداثيات القسم عقب يوم العبور فكانت المفاجأه أن دفتر أحوال القسم خال تماما من أية قضايا شجار أو سرقة كان الجميع في حالة من الابتهال والتبتل يدعون المولي عز وجل أن يتحقق النصر, وقد كان حيث ضرب المغاوير المثل في الفداء فتسلقوا السواتر ورفعوا اعلام الوطن واقتحموا المانع الضخم وأحاطوا بدشم العدو وقتلوا من قتل واستسلم الباقون رافعين أيديهم فوق رؤوسهم وذاهلين إذ كان المعتقد لدي جنود العدو أنهم لا ولن يقهروا. المهم ان السادس من اكتوبر جعل اسم مصر علي كل لسان في العالم بعد أن كان الجميع يقولون ان اسم مصر أصبح أثرا بعد عين, وأن اسم أم الدنيا أصبح باهتا, ومن عجائب هذا اليوم أنه كان مفاجأة للجميع حتي نحن ابناء مصر الذين كان اليقين أن المسافة بيننا وبين إزا حة العدو عن تراب سيناء بعيدة بعيدة, ولكن بعون الله حطم البواسل الاسطورة وعبروا الهزيمة وحطموا المستحيل وياله من يوم تاريخي مجيد.