ذو ملامح مصرية دافئة, نظرات ذكية لامعة, بديهة سريعة تتسابق مع اللحظة, معلومات غزيرة لا تتناسب مع قطار العمر, أناقة متناغمة بالغة... يحاورك فتتعجب من ذهن متقد وسيطرة ودودة. تسبق ابتسامته الواثقة إجاباتك المتواضعة. يتفحصك بهدوء تغلفه تربية رفيعة المستوي. يتسلل ببراعة إلي أعماق نفسك في رحلة بحث عن إجابات لأسئلة لم يطرحها بعد, وقد لا يطرحها علي الإطلاق. فالجواب يقرأه سريعا من لغة قد تدرب عليها سنوات طويلة, هي لغة الصمت وحركة الجسد اللا إرادية. ويظل المرء طيلة اللقاء, شاهدا علي نيل لا ينضب وعيون لا تغفل, بل ومفتونا بسواعد مصر الفتية التي لا يراها إلا بعض المحظوظين أمثالي من أبناء مصر الجوادة. تري, كم من جنود مجهولة تختنق بإرادتها داخل ظلام شرنقة يتزين الوطن بخيوطها الحريرية دون أن يعلم مصدرها الحقيقي ؟ كم من قلوب فتية تساقطت بلا أنين لتتهاوي دفاعا عن المحروسة في إباء وشمم ؟ كم من نجم بزغ في سماء حالكة الفساد لينير دروب شوارع قاهرة المعز ويحطم أنيابا سوداء لوجهاء العصر من غير الشرفاء ؟ كم من رصاصة غدر تلقتها صدور هؤلاء المحاربين في كل موقع وكل ميدان وكل مؤسسة وكل جهاز الإجابة هي العديد والعديد من الأجيال المتعاقبة التي اعتادت علي العطاء سرا وبذل الأرواح علنا ونبذ الذات دوما. فهؤلاء الأوفياء إنما يحملون الوطن داخل صدورهم أينما ارتحلوا, تؤلمهم أوجاعنا, تؤرقهم متاعبنا وتدمي قلوبهم عيون زملاء الكفاح التي لا تنطفيء حتي بعد الرحيل. لكم نشتاق جميعا لرؤية وجه الإنسان من المقاتلين الذين يذودون عن الوطن من خلف دروع الزمان؟ ألا توجد استراحة محارب تسمح لنا بمصافحة هؤلاء الأبطال المجهولين اسما وشكلا ؟ أين يمكن أن نلتقي وجها لوجه بشركاء الوطن الذين يستخفون وهم يحترقون من أجلنا جميعا ؟. آسفين الزيارة ممنوعة, تعليمات الدكاترة! وبالرغم من أن الممر كان يتبسم من عطر يفوح من باقات الورد التي كادت أن تنطق بجميل صنيع نزيل الغرفة رقم55 بالمستشفي, إلا أن الزائرين ظلوا يتزايدون. دعوات من القلب, صلوات صادقة, ذكريات طيبة تمر خلسة في خاطر كل زائر علي حدة. همهمات تغمر المكان يكاد السامع يتبين منها أمنيات بالشفاء العاجل لفارس لم يترك حلبة المعركة ولا لجام جواده الأشهب طيلة سنوات عمره. ومن خلف باب الغرفة المغلق في وجه الزائرين تتعاقب التساؤلات. تري, ما الذي يمكن أن يدور الآن بخلد الفارس الذي أمسي بلا جواد ؟ بماذا يمكن أن يشعر مقاتل دءوب وهو طريح الفراش خلف الأبواب الموصدة ؟ ما الذي يشغل باله في التو واللحظة ؟ الأبناء ؟ الزوجة؟ الأهل ؟ الأصدقاء ؟ تتهافت رسائل لا حصر لها من الزائرين والعابرين أمام الغرفة مع الأطباء والممرضين الذين يتناوبون الدخول والخروج من غرفة أحد الأبطال. لا يتحصلون إلا علي إجابات مبتورة لتعليقات جوفاء. وتمر الساعات ثقيلة وكأنها تأبي المضي دون فارس المكان. يخيم الظلام, وترسل, علي استحياء, نجمة في السماء شعاعا فضيا يكشف عن زائر مهم يدخل الغرفة بلا استئذان. ومع أولي خطوات الزائر الغامض رأيت وجه نزيل الغرفة التي احتشد أمامها مواطنون شرفاء يتضرعون إلي الله في خشوع وسكينة ليغادر البطل المجهول المستشفي علي قدميه سالما غانما متعافيا حتي ولو كانوا لا يعرفون من هو هذا المقاتل. وأبت نجمة السماء أن أرحل قبل أن تضع قبلة علي الجبين أضاءت وجه الجندي المجهول. لقد كان وجه صديقي ذي الملامح المصرية الدافئة, والنظرات الذكية اللامعة... شافاك الله وعافاك... أيها الصديق الصدوق الخلوق, فارس كل زمان.