لم يعد التباكي علي نظام ما قبل ثورة25 يناير ورمزه هو حديث عامة الناس, بل انتقل الحنين لزمن تلك الدولة إلي خاصة الناس وكأنها كانت بالفعل دولة وكان رمزا. وهذه وإن كانت توجهات وتصورات مغلوطة, فإنها تؤكد حقيقة مفادها أن الأوضاع الحالية شديدة الوطأ ة علي الجميع. لكن من الظلم أن نحيل تدهور أوضاع الدولة والمجتمع إلي مرحلة أو ظرف استثنائي أو حكومة واحدة بعينها; فالدول قبل أن تصل إلي مرحلة الإنهاك وتبديد أرصدة قوتها تعاني أنظمتها وتمرض, يؤكد هذا حوار مع أحد أساتذة العلوم السياسية قال فيه الرجل إن حقيقة واضحة تبدو غائبة عن فهم كثير من عموم الناس, وهي أن السلطات الفعلية خلال العقود الأخيرة قد أسهمت من خلال سلوكها العام في تكريس اللانظام واللاقانون; وبالتالي تفكيك مفاصل الدولة, وهذا الواقع ما هو إلا تراكم لسياسات فاشلة ممتدة لعقود وليس وليد سنوات, وهذا يتفق مع قول صديق آخر يعبر عن ذات المعني بلغة الروائيين وهي أن الأنظمة المتعاقبة خلال الخمسين سنة الماضية ربما منذ عام1967 استخدمت مفكا صغيرا, وراحت تفكك صواميل البلد حتي أصبحت الدولة مع آخر مسمار علي الأرض مفككة مبعثرة منتكسة. فالبيروقراطية وتغييب القانون وانتقائية معايير العدالة والمحسوبية والفساد والتزوير والقمع والعصف بالحقوق والحريات والتجهيل وغيرها من مناهج العمل والأدوات الفاسدة, في مقابل ذلك غياب الرؤية وغياب البرامج وغياب السياسات الرشيدة وغيرها, كلها عوامل قد أسهمت في أن تصبح أزمة الدولة هي عبء النظام ذاته طبيعته وبنيته وطريقة عمله, حتي جاءت لحظة سقط فيها ذلك النظام وأخذ معها البلد إلي مأزق صعب, فأينما تلتفت لن تجد سوي بقايا وأطلال, بقايا مجتمع وبقايا مؤسسات وبقايا رجال وبقايا سياسات وبقايا نخبة وبقايا معارضة وأخيرا بقايا مواطنين, وفي أكثر من مناسبة أشار الرئيس السيسي في لقاءاته إلي هذا الوضع المتدهور بأكثر من معني, وهي مكاشفة ومصارحة يحسد عليها الرئيس لأن الساسة عودونا علي تجميل الواقع وتحسين صورته. في عمق الأزمة تتحمل الحكومات المتعاقبة المسئولية عن هذا الواقع البائس, وأي مداراة وحجج تلقي بالمسئولية علي الأفراد هي محض افتراءات وادعاءات لا تسهم في استكشاف بوصلة العمل وطبيعة السياسات والخيارات, بل هي سير في عكس الاتجاه بما يعني مزيدا من التأخير في تدارك التدهور والانزلاق في غياهب السقوط, فأساس وجود السلطة هو قيادة الدولة وتحديد رؤيتها وسياساتها بما يضمن لها قوة البقاء وديمومته, وليس مجرد البقاء وتسيير أوضاعها عند الحد الأدني من متطلبات هذا الوجود. في هذه اللحظة الراهنة التي يبدو فيها أن أثقال نظام ما قبل يناير قد حطت علي الدولة فأحالتها جسدا بلا حياة, وحولت المجتمع إلي قلب بلا روح, وأبقت الأفراد مواطنين بلا انتماء أو حق, يبدو حمل بناء دولة عصرية حقيقية شديد الوطأة علي أي حكومة, وتبدو منافذ الأمل محدودة, وخيارات الخروج كلها صعبة, لهذا فإن تصدر المسئولية يبدو بحاجة إلي جسارة, وبحاجة إلي تجديد كل الخطابات, وتجديد كل السياسات والمؤسسات والنخب, ومراجعة ما كان, مع مكاشفة ومشاركة أوسع في تحديد خيارات الخروج, كما كانت المكاشفة في تحديد طبيعة الداء. وفي الأخير يجب ألا يبكي عموم الناس أو خاصتهم علي الحنظل المسكوب لأنه لم يكن يوما لبنا, فدولة ما قبل يناير لم تكن دولة بالمعني المنطقي الذي تعرفه الدول, وهؤلاء الذين يئنون من العوز والفقر, وغيرهم ممن يشكون سوء الأوضاع وتدهور المراكز الاجتماعية, لن يصلح حالهم إلا دولة فعلية يسودها العدل والرحمة, وتحكمها المساواة والكرامة.