شيخ العمود «إلكتروني».. شرح 60 كتاباً على يد كبار العلماء أسبوعياً بالأزهر    افتتاح الملتقى التوظيفي الأول لطلاب جامعة الفيوم    آخر تحديث.. تراجع جديد للدينار الكويتي مقابل الجنيه في البنوك    «صديقة الخباز» فى الصعيد.. رُبع مليار دولار استثمارات صينية    كتائب القسام في لبنان تعلن إطلاق عشرات الصواريخ تجاه أهداف عسكرية إسرائيلية    الهند.. مخاوف من انهيار جليدي جراء هطول أمطار غزيرة    طلب مفاجئ من محمد صلاح يقلب الموازين داخل ليفربول.. هل تحدث المعجزة؟    إمام عاشور يمازح جماهير الأهلي قبل نهائي أفريقيا.. ماذا فعل؟    رسميا.. المقاولون يطلب إعادة مباراة سموحة ويستشهد بالقانون وركلة جزاء معلول أمام الزمالك    آخر تطورات الحالة الجوية بالإمارات.. توقعات بسقوط أمطار غزيرة على عدة محافظات    مصري بالكويت يعيد حقيبة بها مليون ونصف جنيه لصاحبها: «أمانة في رقبتي»    تعرف على موعد عزاء المؤلف عصام الشماع    باسم خندقجي.. الأسير الفلسطيني الذى هنأه أبو الغيط بحصوله على «البوكر»    الأربعاء.. قصور الثقافة تحتفل بعيد العمال على مسرح 23 يوليو بالمحلة    إيرادات الأحد.. فيلم شقو يتصدر شباك التذاكر ب807 آلاف جنيه.. وفاصل من اللحظات اللذيذة ثانيا    خالد الجندي: «اللي بيصلي ويقرأ قرآن بيبان في وجهه» (فيديو)    «الرعاية الصحية»: نتطلع لتحفيز الشراكة مع القطاع الخاص بالمرحلة الثانية ل«التأمين الشامل»    رئيس جامعة كفر الشيخ يطمئن على المرضى الفلسطينيين بالمستشفى الجامعي    لجنة الصلاة الأسقفية تُنظم يومًا للصلاة بمنوف    برلماني: زيارة أمير الكويت للقاهرة يعزز التعاون بين البلدين    صندوق تحيا مصر يطلق القافلة الإغاثية الخامسة لدعم الفلسطينيين في غزة    محمد حفظي: تركيزي في الإنتاج أخذني من الكتابة    استعدادًا لامتحانات نهاية العام.. إدارة الصف التعليمية تجتمع مع مديري المرحلة الابتدائية    انطلاق القافلة «السَّابعة» لبيت الزكاة والصدقات لإغاثة غزة تحت رعاية شيخ الأزهر    إخلاء سبيل المتهمين فى قضية تسرب مادة الكلور بنادى الترسانة    السفير محمد العرابي يتحدث عن عبقرية الدبلوماسية المصرية في تحرير سيناء بجامعة المنوفية    الإصابة قد تظهر بعد سنوات.. طبيب يكشف علاقة كورونا بالقاتل الثاني على مستوى العالم (فيديو)    تأجيل نظر قضية محاكمة 35 متهما بقضية حادث انقلاب قطار طوخ بالقليوبية    الصين تشارك بتسعِة أجنحة في معرض أبوظبي الدولي للكتاب ال33    تأجيل محاكمة مضيفة طيران تونسية قتلت ابنتها بالتجمع    لتطوير المترو.. «الوزير» يبحث إنشاء مصنعين في برج العرب    زكاة القمح.. اعرف حكمها ومقدار النصاب فيها    مايا مرسي: برنامج نورة قطع خطوات كبيرة في تغيير حياة الفتيات    بعد انفجار عبوة بطفل.. حكومة غزة: نحو 10% من القذائف والقنابل التي ألقتها إسرائيل على القطاع لم تنفجر    تردد قنوات الاطفال 2024.. "توم وجيري وكراميش وطيور الجنة وميكي"    طريقة عمل الكيك اليابانى، من الشيف نيفين عباس    صحتك تهمنا .. حملة توعية ب جامعة عين شمس    النشرة الدينية .. أفضل طريقة لعلاج الكسل عن الصلاة .. "خريجي الأزهر" و"مؤسسة أبو العينين" تكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين    تنظيم ندوة عن أحكام قانون العمل ب مطاحن الأصدقاء في أبنوب    بعد أنباء عن ارتباطها ومصطفى شعبان.. ما لا تعرفه عن هدى الناظر    وزير المالية: نتطلع لقيام بنك ستاندرد تشارترد بجذب المزيد من الاستثمارات إلى مصر    وزير التجارة : خطة لزيادة صادرات قطاع الرخام والجرانيت إلى مليار دولار سنوياً    رئيس الوزراء الإسباني يعلن الاستمرار في منصبه    تجليات الفرح والتراث: مظاهر الاحتفال بعيد شم النسيم 2024 في مصر    أمير الكويت يزور مصر غدًا.. والغانم: العلاقات بين البلدين نموذج يحتذي به    شروط التقديم في رياض الأطفال بالمدارس المصرية اليابانية والأوراق المطلوبة (السن شرط أساسي)    الصين فى طريقها لاستضافة السوبر السعودى    بشرى سارة لمرضى سرطان الكبد.. «الصحة» تعلن توافر علاجات جديدة الفترة المقبلة    السيسي عن دعوته لزيارة البوسنة والهرسك: سألبي الدعوة في أقرب وقت    فانتازي يلا كورة.. دي بروين على رأس 5 لاعبين ارتفعت أسعارهم    إصابة 3 أطفال في حادث انقلاب تروسيكل بأسيوط    رئيس جهاز حدائق العاصمة يتفقد وحدات "سكن لكل المصريين" ومشروعات المرافق    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    اتحاد الكرة: قررنا دفع الشرط الجزائي لفيتوريا.. والشيبي طلبه مرفوض    مصطفى مدبولي: مصر قدمت أكثر من 85% من المساعدات لقطاع غزة    عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الاثنين 29-4-2024 بالصاغة بعد الانخفاض    حالة وفاة و16 مصاباً. أسماء ضحايا حادث تصادم سيارتين بصحراوي المنيا    شبانة: لهذه الأسباب.. الزمالك يحتاج للتتويج بالكونفدرالية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طارق البشري.. إجهاض الثورة بالقانون
نشر في أخبار الأدب يوم 03 - 08 - 2012

بالطبع يشير البشري إلي اجتهادات دستورية لفقهاء قانونيين حاولوا تقنين الشريعة، ولكن يبقي السؤال الأساسي عن المعني المختلف تماما أو المنطلق المغاير لكون الدستور تعبيرا عن هوية ثقافية، أو خيار عقائدي.
لقد أفرغ الفقهاء الدين من مضمونه، وحولوه من إيمان يحث علي المسئولية من خلال التفكير والاختيار، إلي دين الطاعة العمياء. ولذا كان طبيعيا ألا تظهر في ظله أي نظرية سياسية متماسكة تمثل المشاركة الشعبية وتستمد شرعيتها من الناس، فكان الحكم بيعة صورية، وحكما بالغلبة.
وبينما تكون ثقافة شعب ما لا معيارية، بالنظر إليها من الخارج، لأنها أساسا أخلاط من قيم شتي، ومما لا يفكر فيه، تكون الثقافة العليا بمثابة الضمير اليقظ والمراقب، وفيها تكمن القيم المعيارية ونقدها في الآن نفسه.
كان بإمكان البشري وغيره، أن يقدم للشباب عونا بفكر تشريعي نقدي يلائم مجتمعا عالميا يزداد تضافرا وتوحدا في معاييره، لا أن ينتهزها فرصة لتحقيق حلم فصيل يمهد له بأرضية تشريعية ثقافية كاذبة ومتهافتة، كان ينبغي أن يكتب في الميدان، لا علي مكاتب المجلس العسكري وبرعايته.
القانون أحد أهم المجالات الثقافية التي تصوغ العقل البشري، سواء عقول الأفراد، أو العقل الجماعي العام الذي يربط جماعة معينة بآصرة وثقي... وأنا في هذا الصدد لا أشير إلي الأثر الاجتماعي للقانون، فهو معروف لا يحتاج إلي بيان، ولكنني أشير هنا إلي الأثر الثقافي الذي يتشكل به العقل والوجدان لدي الجماعة من الناس الذين يجمعهم نسق قانوني تشريعي واحد، بما يفيد لديهم من توافق جمعي علي ما الحسن وما القبيح من الأمور، وما الصواب والخطأ، وما الصحيح والفاسد، وهذا التوافق الجمعي هو ما يوثق عري الجماعة ويقيم ما تضام به في تشكل اجتماعي واحد.
بهذه العبارة يفتتح المستشار طارق البشري كتيبه الصادر في سبتمبر من العام الماضي عن دار الشوق الدولية بعنوان »السياق التاريخي والثقافي لتقنين الشريعة الإسلامية. والبشري في هذا الكتيب لا يقدم الأسس التي يعتمد عليها هذا التقنين، ولا إعادة طرح مفهوم »الشريعة الإسلامية« باعتباره مفهوما شهد الكثير من التغيرات عبر ممارسة التقنين الذي كان يتم بشكل جزئي، أي بطرح قضايا جزئية، لا تربطها مبادئ دستورية عامة وموحدة بخلاف النظم الدستورية الحديثة. بل إن البشري وهو الفقيه القانوني، يكتفي بإطلاق هذا المفهوم غفلا من كل إيضاح، ويجهد دون أي مرجعية علمية مدققة في الإلحاح علي كون الشريعة الإسلامية كانت المصدر التشريعي للدول الإسلامية حتي بداية النهضة منذ مطلع القرن التاسع عشر.
ثمة نقطة هنا سنعود إليها وهو التأكيد الضمني للكتيب علي اتصال ووحدة التشريع تاريخيا، ثم القطيعة بسبب التدخل الاستعماري.
كلمات وكلمات..
في عمل كهذا يبدو استخدام كلمات بعينها محل أخري، وإغفال مصطلحات أخري مسألة في غاية الأهمية. وليس أقل هذه المصطلحات أهمية مصطلح »الدستور«، ولعل عودة سريعة إلي كتابات أبي الأعلي المودودي مثل »الحكومة الإسلامية« أو »الدستور الاسلامي«، أن تذكر بشكل أفضل، حتي من وجهة نظر إمام أصولي، كيف يمثل التقنين المعاصر للشريعة في صيغة دستورية مشكلة تحتاج إلي حل. يقول المودودي »أن الدستور الإسلامي شيء لم يعمل علي تدوينه بعد وله مصادر يمكن أن يستفاد منها عندما نريد ان نرتب لبلادنا دستورا مدونا«. يبدو المودودي أكثر اتساقا ووضوحا مع منطلقاته: بناء دولة علي أساس عقائدي ليس باعتبار ذلك تعبيرا عن الثقافة الغالبة للمواطنين، بل باعتباره تحقيقا للارادة الالهية في المؤمنين بها، إنها ليست ضرورة للم شمل الجماعة حول مجموعة أعراف تكرس استمرارها، بل خياراً وجودياً لدي مؤمن يري استحالة أن يتناقض سلوكه مع إيمانه، وينظر إلي الدستور باعتباره ترجمة اصطلاحية حديثة لقانون أو »فقه« الدولة/ الأمة صاحبة الرسالة، هذه الدولة/ الأمة المنفذة لإرادة الله في الأرض، والتي تعتبر كل ما عداها كفرا وطاغوتا، ولا يمكن أن تعتبر المخالف لها في الرأي إلا ضالا، لأنها تظن أنها لا تعمل برأيها بل بالعبودية الكاملة لصاحب الكلمة الوحيد، ورب الحكم والفصل في حياة العباد.
الفارق بين القانون والدستور واضح، وهو أن القانون قد يتناول تفاصيل جزئية صارت بطول الممارسة جزءا من العادات والتقاليد كما في الأحوال الشخصية مثلا، ولهذا كانت تلك القوانين هي الأكثر تعرضا للنزاع بين الاسلاميين وغيرهم، لقد صارت جزءا من الثقافة التقليدية.
أما الدستور فهو يتناول المبادئ الحاكمة بما فيها موقعاً الانسان الفرد/ المواطن وتعريفه، ومفهوم الدولة ورسالتها، وهو ما سيضعنا مباشرة لا مع الثقافة التقليدية كمجموعة ممارسات اعتادتها جماعة من الناس، بل خيارات وجودية إذا صح التعبير. وربما كان التصريح المتهور، والمغازل لأفكار ذات طبيعة أصولية جذرية، الذي قال به صفوت حجازي: نعم نحن حماس.. والقدس هي عاصمتنا وليست القاهرة، هو المعبر الأفضل عن هذه الرؤية.
بالطبع يشير البشري إلي اجتهادات دستورية لفقهاء قانونيين حاولوا تقنين الشريعة، ولكن يبقي السؤال الأساسي عن المعني المختلف تماما أو المنطلق المغاير لكون الدستور تعبيرا عن هوية ثقافية، أو خيار عقائدي.
الثقافة والقانون
يقدم البشري التشريع بطريقة مزدوجة مرة علي اعتباره محددا ثقافيا، أو »العمارة« التي تحدد سلوك ساكنيها ورؤاهم الثقافية وأعرافهم وطريقة تقييمهم للأشياء وتحديد ما هو صواب وما هو خطأ حتي في أدق التفاصيل بزعمه، ومرة باعتباره تمثيلا للثقافة الغالبة ل»الأمة«، وهنا نتساءل: أولا هل الثقافة تتناول ما هو صواب وما هو خطأ؟ أي أنها معيارية فحسب؟ وهل صحيح أن كل ما نفكر به من صواب أو خطأ يمكن أن نجد مرجعيته في قانون ما؟ بالطبع يعرف البشري كما نعرف أن كثيرا من المعايير الاجتماعية الممارسة فعلا لا علاقة لها بأي تشريع، وأن المجال اليومي للسلوك هو مجال إبداعي يومي، وأن كثيرا من المبادئ السلوكية حتي المتعارف عليها يتم اختراقها بسبب تكلسها وإطلاقها مع عدم طرح بديل متجدد عنها يستجيب للوقائع.
إن منبع الثقافة، إذا قصدنا بها جانبها الأنثروبولوجي، ليس وقوفها علي ثوابت، ومراجعة سريعة لأنماط حياة المصريين في القري والمدن المتعاصرة، أو علي مدار عقود تاريخية يثبت التنوع الذي يصل إلي حد المفارقة، وأن محاولة لم شمل المجتمع عن طريق قيم سلوكية تفصيلية »كما يفعل الفقه«، هي فرض ثوابت شكلية سلوكية جبرية، أي تأطير نوع من الثقافة بإطار قانوني إلهي يحول دون تطورها الطبيعي واستجاباتها لمقتضيات الحياة ويمنعها في المستقبل من أي تطور مماثل، ويجبرها علي التناقض الدائم مع واقعها، ناهيك عن أنه يتجاهل تماما حرية التفكير والممارسة الشخصية حيث يضع المجتمع قبل الفرد، والجماعة الوطنية كفرضية تسبق تعريف المواطن.
بالطبع يتجاهل البشري كلمة »وطن« ويستعيض عنها، وهو ليس تصرفا بريئا، بكلمة »أمة« علي عادة الأصوليين والقوميين خالطا بين أسوأ ما في الأمرين، وهو ما سيأتي تفصيله.
والخلاصة فيما يتعلق بهذه النقطة هو أن البشري يجعل من الثقافة باعتبارها مجموعة من المعايير والسلوكيات الاجتماعية صورة من قانون سابق عاش يوما ما وتناسلت الثقافة ومعاييرها من رحمه، ثم كانت القطيعة في مطلع القرن 19 باستيراد تشريعات غربية مع تنامي المد والنفوذ الغربي الاستعماري، ومن ثم تأتي المحاولة المعاصرة لوصل ما انقطع.
ما يكمل تصور البشري، وهو أمر يمكن استنتاجه حتي قبل أن تكمل كتيبه، هو إقامة علاقة الهوية بالمخالفة، هناك دائما »نحن وهم«، وهم تعني الغرب بالطبع، والغرب الاستعماري تحديدا، فالعالم عند البشري هو محصلة الخبرة الاستعمارية، أو خبرة »صدمة الهوية«.
مع ملاحظة أن البشري يتجاهل الفارق الواسع بين مفهوم القانون ومفهوم الثقافة، حيث يتعرض الأول للشخصية الاعتبارية للدولة، ولمعاملاتها السياسية والتجارية...إلخ كما أن جانبه الأهم ليس في تحديد سلوكيات المواطنين في طبيعة
عمل المؤسسات وهو ما لا يمكن استقاؤه من الثقافة الشائعة للمواطنين. وفي عالم يسوده اقتصاد واحد متغلغل، وأعراف سياسية دولية عامة، تتصل حياة المجتمعات وقدرتها علي البقاء ليس بمجرد التماسك الداخلي كأسرة أو عائلة، بل علي قدرة الدولة في منح هذا المجتمع من المرونة والاستشراف ما يسمح له بالتكيف مع الوسط العالمي ويمكنه من الانفتاح والابتكار، فالعلاقات الدولية الندية لا تتأتي بمجرد حفاظ مجتمع علي ثقافته، وإلا كانت أكثر القبائل بدائية هي الأفضل علي الإطلاق، بل بما التأهيل الثقافي من جهة والقانون ذي الصبغة الموضوعية من جهة أخري من قدرة علي تجاوز هويتها الماضوية المنغلقة.
المرجعية
هناك إشكالية أخري وهي أن اصطباغ عدد من السلوكيات والقيم بصبغة إسلامية تأثرا علي امتداد تاريخ طويل بالشريعة الاسلامية، لا يعني أن هذه الشريعة هي المرجعية الدائمة لهذا السلوك، فقد اختلطت بأعراف وتقاليد محلية وتطورت عبر ممارسات واحتكاكات، تحتاج إلي بحوث مستفيضة، بطبائع السكان المحليين واختلاف الظروف التاريخية، ومن ثم فإن من أراد أن يبحث عن الجامع المشترك الثقافي لم يعد بمقدوره اختزاله في النص الديني الأصلي، بل تكون مرجعيته في السلوك الحاضر بكل تنوعه وثرائه واختلافه، وإلا، وهنا يظهر مكر تخريج البشري، تكون فكرة تمثيل القانون لثقافة «الأمة» هي مجرد معبر ليكون القانون تجسيدا للنص.
إن هذا الانحراف ليس هينا أبدا. فالبشري حين يقول إن القانون يعتمد علي ثقافة الأمة يوحي بأن الأمة مصدر التشريع، لكن «الأمة» هنا هي مجرد جسر أو معبر يتم القفز عليه ليصبح «النص» الديني هو المشرع.
وهكذا يقوم القانون، بزعم تمثيله لثقافة المواطنين، إلي اختزال هذه الثقافة، بل نفيها، عن طريق تقنينها، وهو ما يخنق كل امكان تطور لها.
وهناك قضية لابد من البت فيها: هل مرجعية القانون هي الحاضر العملي وقضاياه وإشكالاته، أي أنه إجابة عن تساؤل وحل لمشاكله الفعلية، أم أنه طرح مبدئي لمجموعة من السلوكيات الأبدية الدائمة بزعم أنها صالحة لكل زمان ومكان؟ الحقيقة أن الفقه الإسلامي يعتمد علي هذا الجانب الثاني: إنه لا ينطلق من مشكلات العصر واللحظة ليحلها بأدواتها ذاتها، بل هو أولا تقنين وتأطير لأوامر ونواه سابقة علي هذه المشكلات. وحتي حين يحاول الفقه حل اشكالات عصرية فإنه يعمد إلي القياس علي هذه الأوامر السابقة، فيكون الماضي حاكما للحاضر. ومشكلة الفقه الاسلامي، كما تحدد علي يد منظريه الأوائل، وعوراته أكبر من أن يتسع لها هذا المكان.
لم يكن القرآن كتابا، بل كلاما شفويا أوحي به وأداه الرسول بالكيفية ذاتها، ومن ثم نزل بترتيب أحداث لا بنسق مترابط علي الطريقة التي نعهدها اليوم في الكتب. وكان من الممكن للفقهاء أن يتفهموا من وراء ذلك غاية، وهو أن القرآن إنما يضرب المثل في قضايا بعينها علي مفهوم للعدالة يرتبط بتاريخ الجماعة وأعرافها. وفي القرآن شواهد أربعة لم تؤخذ بالاعتبار الكافي:
1 «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين».. ما يعني أن العرف هو تشريع مقبول، وهذا يعني أن القرآن يعيد التشريع إلي مصالح أهله بمعيار زمانهم.
2 «ويضرب الله الأمثال للناس».. تكررت مسألة «ضرب المثل» في القرآن كثيرا، وهو ما قد يعني أن القرآن لا يقدم قوالب ثابتة لحقائق السلوك البشري، بل نماذج علي حقائق أوسع يظل مصدرها مفاهيم عامة: العدل والصدق والرحمة والأخوة الإنسانية.. إلخ
3 عملت النخبة الأصولية منذ القرن الثاني الهجري علي «تعريب» الإسلام أي تحويله من ديانة إنسانية إلي ديانة عروبية، وذلك مع تحول الخلافة نفسها تدريجيا إلي شأن «عروبي» قبلي، بعد أن جاء الاسلام مساويا بين الناس، ومعتبرا النزعة القبلية من آثار الجاهلية. وفي هذا المقام تم التأكيد علي قدسية اللغة رغم أن القرآن يصرح أكثر من مرة أنه لم ينزل بالعربية تكريما لها، بل لأنها لغة القوم الذين توجه إليهم والذين حرموا من قبل من أن يكون لهم كتاب. وإلا فالله مكرم البشر جميعا ولغاتهم وسحنهم. ومن ثم جعلت دين الله ممثلا في جماعة، لم تنظر إلي سلوكها علي أنه التصرف التاريخي النسبي مع مفهوم العدالة القرآني العام، بمقتضي الثقافة والحال ودرجة المعرفة التي تتطور بالزمان، فحولت سلوكها من سلوك استرشادي يفتح آفاق التطوير مع المماثلة في الأصل الذي هو بحث في حقيقة الإنسان والاجتماع بلوغا إلي العدالة وسعيا لها. بل «صنمت» مفهوم العدالة، بما يوقعه في أحد أمرين إما التأويل المفرط للنص بما يهلهل النص ذاته بحيث يعني الشيء ونقيضه، وإما الثبات علي تأويل واحد وتجاهل تطورات البشر في الزمان وهو ما يوقعه في تناقض مخيف مع الواقع.
نفهم إذن معني قول الشافعي المأثور «ما فسد النَّاس إلا لما تركوا لسان العرب، واتبعوا لسان أرسطو» وما تشير إليه من ضيق أفق وتعصب، والتناقض مع مأثور الرسول «اطلبوا العلم ولو في الصين»، ونفهم لماذا اقتصر الفقه علي معرفة النصوص الدينية وليس علي معرفة العلوم الموصلة إلي فهم الانسان (موضوع الفقه وغاية أحكامه).
ذكر ابن العطار في كتبه «المنهل العذب الروي» في ترجمة شيخه الامام النووي قال (أي النووي) : وخطر لي الاشتغال بعلم الطب، فاشتريت «القانون»، وعزمت علي الاشتغال فيه، فأظلم علي قلبي، وبقيت أياماً لا أقدر علي الاشتغال بشيء، ففكرت في أمري من أين دخل عليّ الداخل؟ فألهمني الله أن الاشتغال بالطب سببه، فبعت في الحال الكتاب المذكور، وأخرجت من بيتي كل ما يتعلق بعلم الطب، فاستنار قلبي ورجع إليّ حالي، وعدت لما كنت عليه أولاً». .
4 لقد فهمت عبارة أن الاسلام دين الفطرة علي وجه واحد: أن أوامره ونواهيه النصية ملائمة للفطرة، وهذا ما ينفيه التاريخ البشري نفيا قاطعا، وإلا فلماذا يعاند البشر غير المسلمين فطرتهم؟ لماذا كانت لهم سلوكيات وأعراف مختلفة؟
كان يمكن للعبارة أن تفهم بمعناها المنفتح: الإسلام دين الفطرة أي أنه الدين القادر علي التطور لأنه يعتمد مفاهيم انسانية عامة قابلة للتجسد في أشكال مختلفة بحسب الزمان والحاجة والصالح البشري.
لقد أفرغ الفقهاء الدين من مضمونه، وحولوه من إيمان يحث علي المسئولية من خلال التفكير والاختيار، إلي دين الطاعة العمياء. ولذا كان طبيعيا ألا تظهر في ظله أي نظرية سياسية متماسكة تمثل المشاركة الشعبية وتستمد شرعيتها من الناس، فكان الحكم بيعة صورية، وحكما بالغلبة.
هل هذا هو «التراث الثقافي» الذي يمكن الحفاظ عليه؟
القانون والطاعة
هناك مسألة أخري يطرحها الكتيب عند الحديث عن «المرجعية». فهو يستشهد فيما يتعلق بمرجعية التشريع لدينا بمقولة أبي بكر الشهيرة «أطيعوني ما أطعت الله فيكم». ونحن لن نتعرض هنا للقفز فوق التاريخ، وتمثيل جماعة لم تبرح بعد المنظومة القبلية لا يمكن وصفها بالدولة إلا استخفافا بالتطور بتطور النظم في العالم كله، ولكن للطبيعة المختلفة لمعني الشرط القانوني: بين الطاعة والالتزام. والمسألة ليست مجرد اختلاف في الالفاظ، فمرجعية الطاعة تختلف جذريا عن مرجعية الالتزام. تنبني الأولي علي أن الانسان (موضوع القانون) هو كائن قاصر، عاجز عن التشريع لذاته، بل عن فهم مسوغات التشريع الحقيقية مهما بلغ من العلم، ولذلك فالطاعة تمثل وضعية تراتبية للحكم: من يعرف هو من يحكم في من لا يعرف. أما الالتزام فيعني أولا أن الانسان هو موضوع القانون ومنشئه أيضا، يجري عليه الحكم فيه بالاتفاق، ومن ثم يلتزم الانسان بالقانون التزام الند والشريك وصاحب المصلحة لا التابع أو «الرعية» الجاهل بما يصلح له.
يتضح هذا جليا في فكرة «الاجماع» كمصدر للتشريع، فهو علي خلاف ما يبدو من الكلمة لا يعني مطلقا إجماع المواطنين، بل الفقهاء، أي إجماع النخبة «العارفة» وهي ليست بدورها نخبة لأنها منتخبة وممثلة للجموع، بل بدرجة علاقتها بالنص، إنهم حراس النص لا ممثلو مصالح الناس.
واسناد التشريع إلي «الفقهاء» وحدهم قديما كان يعني قصر دولة التشريع علي «الفاهمين»، أو علي هذه النخبة «العارفة»، أو المظنون أنها كذلك. وهذا هو المعني المركب لكلمة «الفقه» الجامع بين المعني الاصطلاحي: المشرع، والمعني اللغوي: الفاهم. التشريع الديني إذن تشريع نخبوي.
يتأسس النظام الديموقراطي علي نقيض هذا التصور الأخير، ومن ثم فمن غير المفهوم كيف يتم اعتماد نظام ديموقراطي بما يتناقض مع مبدئه الأساسي، وهو كون الانسان مصدر التشريع بمبدأ «الحق الطبيعي». لقد كان الأصوليون الرافضون للمبدأ الديموقراطي باعتباره «طاغوتا» أكثر اتساقا وصدقا، رافضين هذا الاعوجاج المخادع.
استئناف
لفكرة الطاعة مشكلة أخري، ف»طاعة الله» التي تبدو كلمة بسيطة هي في الواقع مركبة جدا. ذلك أن أحدا لا يطيع الله وإنما النصوص التي وصلت إلينا باعتباره مصدرها. هذه النصوص نزلت إلي ساحة التاريخ، ونطق بها رسول بشر يجري عليه ما يجري علي الخلائق، وتلقفها أصحابه غير المعصومين. كما أن النص نفسه لم يتضمن قط تشريعات مفصلة ولا اتخذ هيئة الدستور المتعارف عليه حتي من حيث تعريف المبادئ الكلية بشكل لا مجال للبس أو التأويل فيه. وما حدث في فترة التأسيس للفقه الاسلامي أن احتكرت جماعة بشرية موقعها التاريخ ومصالحه ونماذج وعيه تحديد معني «النص» وغاياته، ومن ثم باسم «النص» صارت هي القيمة علي الناس وعقولهم وحياتهم الحاضرة والمستقبلة، أي أن مصير الطاعة سيئول حتما إلي أن تكون طاعة لبشر وليس لله، ويكون علي العقل الانساني المتطور بلا حدود في ملايين الصور أن يخضع نفسه لتصورات عدد محدود من الناس بزعم تمثيلهم الارادة الالهية. ولذلك يبدو ما حدث خلال القرون الأولي من الاسلام أنه انتصار لشكل من الذرائعية، وهو المسلك نفسه أو الأزمة ذاتها التي يريد البشري استعادتها بعد كل هذا التاريخ. وتعني الذرائعية أنه بذريعة الحفاظ علي الجماعة، لا بغرض بلوغ الحقيق، تم تكريس نموذج للجماعة الأولي، الجماعة السعيدة، وعصرها الذهبي الذي لم يكن كذلك أبدا. وتمت محاربة كل صاحب فكر مختلف إلي حد إحراق الكتب والأشخاص، وجرائم الفكر والحريات التي تسبب بها الفقهاء أكثر من أن تحصي. فلا وجود للفرد في الفقه إلا باعتباره تمثيلا للجماعة. وهو ما يناقض فكرة المواطن كل المناقضة، وبالأحري الإنسان المسئول.
وظيفة الدولة
نأتي لنقطة فارقة للغاية تتأسس علي مهمة الدولة ومؤسساتها، فليست مهمة الدولة تحقيق التطابق بين المواطنين وثقافتهم، فهذا التطابق مستحيل أصلا، ويعيدنا ليس فقط إلي الدولة/ الأمة صاحبة الرسالة، بل إلي ما يمكن عده وهم «المدينة الفاضلة»، أو «الجمهورية» الأفلاطونية التي لا علاقة لها بالواقع.
وأشير هنا إلي الكتاب الهام «المجتمع المفتوح وأعداؤه» لكارل بوبر ونقده العنيف لفكرة مجتمع غائي، وفي كتابه يبرز بوبر في نقده لأفلاطون باعتباره الأساس لهذا الوعي الممتد تاريخيا. إلي التصور البدائي القبلي لمجتمع ما قبل المدينة «البدوي الصحراوي خصوصا» والذي تتأسس فيه القيم مجسدة في أشخاص، إنه مجتمع الحنين إلي الجماعة الممثلة لفكرة، والذي تتجسد فكرته في سلوك أفراده، مجتمع البحث عن أب وعن أصل. وهو مجتمع مختلف تماما عن مجتمع المدينة الذي لا تحيي في شخصا في الطريق لأنك تعرفه أو لأنه شبيهك، بل لصفته الاعتبارية كمواطن مثلك.
الدولة مهمتها أساسا تحقيق قواعد وبنية الحياة الضرورية، وخلق المناخ الضروري لتبادل المنافع والمصالح، وضمان عدم استحواذ السلطة، وخلق مجال مهيء للحوار الاجتماعي في صيغ مؤسسية تمنع من العنف. ويلعب التشريع دوره هنا في خلق أسس هذه المجالات.
عن المستقبل
لكن ثمة تساؤلاً آخر، إنه التساؤل عن المستقبل: يفترض تشريع قائم علي «وهم الثقافة المشتركة» تكريس ما هو قائم، لا السؤال عن المستقبل، كأننا نشرع قانونا لاحتضان بعضنا البعض في غرفة معيشة.
بينما يفترض في قانون لدولة هي «شخصية اعتبارية» ذات علاقات متواشجة مع العالم أن تسأل كيف تعيش في هذا الوسط العالمي، وعلي أي أساس تقوم بتبادل المصالح معه، لا دعوته إلي «الهداية».
هل يمكن أن نتخيل د. محمد مرسي معتليا منصة الامم المتحدة داعيا الدول الأعضاء إلي طريق الرشاد؟!
من ثم يفترض في التشريع أن يهييء أساسا إمكانية انفتاح المجتمع إلي الخارج لا انكماشه، وهو ما لا يتأتي إلا من خلال عقول نقدية لأسس الثقافة المعيشة، وهنا نأتي للجانب الآخر من موضوع الثقافة.
إن استخدام كلمة «الثقافة» بمعناها الأنثروبولوجي، وهو استخدام تعوزه البراءة، يستبعد تماما الجانب النقدي والبنائي منها، أوما نسميه «الثقافة العليا».
وبينما تكون ثقافة شعب ما لا معيارية، بالنظر إليها من الخارج، لأنها أساسا أخلاط من قيم شتي، ومما لا يفكر فيه، تكون الثقافة العليا بمثابة الضمير اليقظ والمراقب، وفيها تكمن القيم المعيارية ونقدها في الآن نفسه.
ومن ثم فإن تكريس «المشترك الثقافي» غير المفكر فيه، هو إعدام للعقل وللضمير معا. ولعل هذا يفسر لنا المنطق البراجماتي النفعي لجماعات الاسلام السياسي، والذي يقوم من جهة علي التهييج من خلال مداعبة الحس العام، لكنه علي مستوي الواقع يستخدم كل الأسلحة الدنيوية بلا أي وازع من ضمير. ففكرة الضمير غير موجودة لدي الأصولي أصلا: الضمير باعتباره المسئولية المتجددة عن تصحيح المعتقد، وعن تطابقه مع الحقيقة أو الواقع. فقد تحول المعتقد لدي الأصولي إلي مصادرة، ولم يبق إذن إلا السلطة. إن السلطة بالنسبة إليه بديل عن البرهان الموضوعي علي صحة أفكاره. بمعني أنه بدلا من بذل جهد للتحقق من صحة فكرة، تقوم باجبار الآخرين عليها لكي لا تري غيرها. إن العمي والجهل جزء أصيل في تكوين الأصولي، والعنف هو «ضميره المستتر».
وحتي في الوعي الشعبي فإن موضوع الاسلام مرتبط بالغلبة، بالتحدي لعدو مفترض، بأن يكون «لم شمل العائلة» هو ضرورة ليست نابعة من الداخل فعلا، بل تتغذي علي العدو الخارجي.
القصة وكيف تروي..
لا توجد رواية مبرأة في حكاية الماضي، وتحويله دائما إلي قصة سهلة ومتماسكة أمر يدعو للشك كثيرا لأن التاريخ أبدا ليس واحدا ولا بسيطا. يقدم البشري تاريخ التشريع قبل وبعد مرحلة النهضة والتغلغل «الغربي» بهذه الصيغة المبسطة المخلة إلي أبعد مدي، والتي إن لم يكن مبررها الجهل المعيب، فإن حافزها سيكون التشويه المتعمد بغية الوصول إلي هدف مسبق.
يقول البشري «بغير استطراد في التفاصيل، لإن القصد هو الإلمام بالموضوع، وتبين أوضاع الاحتكاك بالغرب والرغبة في النهوض تجاهه ومقاومة المخاطر الناجمة عن الاحتكاك به إن كل ذلك بعث حركة للنهوض والتجديد داخل المجتمع العربي والإسلامي، وصحبها إدراك بالتفوق الغربي أنتج إدراكا بالاحتياج إلي تقليد عدد من نماذج نظمه ومعاملاته مع الأخذ عن علومه وصنائعه. وصاحب ذلك تسرب النفوذ الغربي وسعيه إلي السيطرة وفرض الهيمنة واقتحام البيئات المحلية بفكره وأساليبه وأذواقه ونظمه، لا لتقوي البلاد التي يطمع فيها، ولكن لتسلس قيادته لها، ولتشكل مادته الثقافية مراسي تستقبل سفنه الحاملة لحضارته وثقافته وقواعد تتهيأ لهبوطه السياسي وإحكامه سيطرته، والسعي إلي تغييب الوعي والإدراك بالذات لدي البلاد المطموع فيها وشعوبها..».
في كل رواية للتاريخ هاجسها الاستقلال، أو تعبر عن عن نظرته المتأثرة بالوضع الاستعماري حتي بعد زواله، يتخذ النقاش المحلي طابعا ثنائيا دفاعيا، نحن وهم كما أسلفنا.
والصورة في ذلك أن التاريخ أبدا لم يكن - بهذه البساطة- مجتمعاً متماسكاً موحداً، يخضع أو يكافح مجتمعا متماسكا آخر يهدف إلي استغلاله، وثقافة موحدة مترابطة ذاتيا، تواجهها ثقافة موحدة من طرف آخر بغرض «محو الهوية».
هذا ما يتم التعبير عنه بالكلمة غير الدقيقة «الغرب»، كما بالكلمة غير الدقيقة «الأمة العربية».
وسنلاحظ تجاهل السبب الفعلي المفسر للصراع، والمتسبب في تزييف شكله في الوقت ذاته وهو التطور الرأسمالي (لاحظ أن البشري يتجنب الحديث عن الاقتصاد بشكل يوشك أن يكون كاملا): فلا المجتمعات «العربية» كانت عاكفة علي نموها الذاتي وفق عرف وثقافة خاصة مستقلة كل الاستقلال، ولا «الغرب» كان كذلك. ومحاولات الامتداد غربا مع نمو النشاط الرأسمالي وتغير معادلة الاقتصاد في العالم هي التي أوجبت علي «النخب» الحاكمة أن تعيد ترتيب أوراقها. وفيما يتعلق بمصر وأكثر بغيرها من الأراضي التي كانت خاضعة للدولة العثمانية، لم تكن ثمة مجتمعات بالمعني المفهوم الآن، ويصعب جدا أن يقال أن التشريعات التي وضعت علي مدار الحكم الاسلامي كانت تمثيلا لثقافة هذه المجتمعات التي لم يكن لها أي تمثيل فعلي في السلطة. لم يكن مشروع محمد علي يهدف إلي مقاومة الاستعمار ولا التغلغل الأجنبي، بل كان إعادة تكييف لدولة وفق الشروط التي أحس أنها ضرورية للتكيف مع نظام عالمي من جهة، والاستفادة منه في تدعيم سيطرته ونفوذه، والنخب التي تسبب التطور الذي أفرزته عذه المرحلة في صعودها، المحلية منها بالذات، هي التي صادفت أمرين في وقت واحد.
أولا وعيها بذاتها لأول مرة ضمن دولة «قومية» وهو واحد من آثار الاحتكاك بالمنظومة العالمية، ثانيا إن وعيها جاء مصاحبا بتراجع أو فشل مشروع محمد علي والذي أدي إلي التغلغل الاستعماري، والمنافسة غير العادلة. ومن ثم فقد حمل لواء فكرة التمصير نخبة تدافع عن مصالحها أكثر مما تدافع عن مجتمع تعرفه، وإن كانت مضطرة أن تصوغ دفاعها في صيغة بيان ثقافي يعتمد علي استنطاق قيم محلية واختزالها. هذه النخب ذاتها أفادت من الاستعمار أو علي الأقل من إعادة التأهيل وفرز النخب التي تسببت فيها هيكلة النظام. بعضها كان من أبناء البعثات التي أرسلت إلي أوروبا أو تلقت تعليما أوروبيا تحت إشراف الدولة، وبعضها كان ينتمي إلي بقايا النخب التقليدية من أصحاب الاقطاعات ورجال الدين، حيث حافظ النظام علي ازدواجه لخدمته هو.
وكان النظام الحاكم يفيد من هذا الازدواج ويغذيه، وهو ازدواج نخب كما قلنا نشأت في حضنه لا في حضن المجتمع، الذي لم يكن موجودا في خيالها، هو الذي كان يسوده التفكك والأمية، محروما من صيغ مؤسسية تفرز اتجاهاته الفعلية وتعبر عن ملامحه. كان المجتع فرضية يطرحها المفكر أو رجل الدين أو الروائي وكأنها قصة يعاد بناؤها.
مذا يعني هذا؟ يعني
أولا:
أنه قبل التغلغل الاستعماري كان ثمة وعي لدي الحكام أن هناك نظاما عالميا جديدا لابد من التكيف معه، نظام اساسه الاقتصادي غير المسبوق يتطلب إعادة هيكلة شاملة بما يتضمنه ذلك من ترتيب سريع (وأحيانا متسرع) لنظم إدارة مركزية ومعاملات قانونية، في دولة تتحول من «الجباية» إلي الانتاج مع المحافظة (وياللمفارقة) مع عقلية الجباية أيضا.
ثانيا:
إن الدولة القومية ذاتها، وما تمثله من استنهاض الوعي بالذات، هي نفسها كانت افراز الاحتكاك بالمنظومة الرأسمالية، وما استلحقها من نظام مركزي تعبوي للمجتمع تحت شعار قومي، صارت فيه الدولة ذات حدود واضحة وشخصية اعتبارية سياسية، لا مجرد أسرة تحكم.
ثالثا:
إن الخلط والتضارب في القوانين لم يكن ناشئا فقط عن وضع استعماري، وإنما عن محاولة نظم الحكم القديمة للاستمرار في ثوب جديد تستفيد منه في تدعيم مركزيتها وقدرتها في إحكام قبضتها علي المجتمع، وهو ما يستلزم حدا أدني لتمثيله امام قوي أخري طامعة. لهذا كانت نظم الحكم المتتابعة تتفق جميعا في إيهام مجتمعاتها أنها هي المحافظة علي تقاليدها، وأن تظهر الصراع وكأنه صراع قيم وثقافات هي الحامية لها.
كانت النخب الحاكمة هشة لأنها لم تستكمل عناصر التأهيل الاجتماعي، بما يبرز ما يسمي الآن «المجتمع المدني، في صورة مستقلة عن الدولة، بحيث يكون هو الحامي لأنشطته المدنية والسياسية والاقتصادية وفق مصالحه.
بل أوهمته دائما أن الخطر يأتي من الخارج، وأقنعته أنه كيان واحد بلا تفاصيل، أي اختزلته تماما، وجعلت صورته الوحيدة عن نفسه هي صورة الدولة، وهو لا يتعرف إلي ذاته إلا من خلالها. وحافظت الدولة في قوانينها علي شكل تلفيقي إرضاء لفصائل هذا المجتمع ونخبه، وهو ما يحدث إلي الآن، وكلما صادفت تجمعا يمكن أن يهددها أو ينتقص من شرعيتها بادرت إلي المزايدة عليه وأعطته جانبا من قسمة الحكم سواء من خلال امتيازات مادية أو معنوية ومنها التشريع.
رابعا: إذا أردنا أن نبحث عن هوية للدولة فعلينا أن نسأل أولا عن هوية المجتمع، ذلك المجتمع الذي لم يتعرف إلي نفسه بعد، ولعل الخلافات والمنازعات التي أفرزتها الثورة بين فصائل متعددة كانت صدمة ضرورية ليكتشف الناس أننا لم نعرف بعضنا بعضا بالقدر الكافي، ولا بمصطلحات علمية توصيفية دقيقة، ومن ثم اتخذ الخلاف شكل المزايدة علي الوطنية وتمثيلها الصحيح، بل تجاوز ذلك، عبر المشروع الديني، إلي التشكيك في فكرة الوطن ذاته، واستبداله بمفهوم أوسع للأمة وأشد غموضا، يعمل علي تمييع صيغ اجتماعية لم تستقر أصلا. وبالتالي يستخدم مصطلح الأمة لتغييب الصراع الاجتماعي، باعادة فرز مفهوم الولاء الديني المعارض أصلا لدولة ذات حدود قومية.
والخلاصة: إن التشريع للحياة يبدأ من الحياة ذاتها، من المشكلات التي تطرحها وليس من مشكلات مفتعلة.
المجتمع ليس شخصية حقيقية تقف أمام المرآة وتسأل من أنا؟ وتشترط تطابقها مع ذاتها، فليس للمجتمع ذات، خاصة مع تزايد الصلات بشكل غير مسبوق علي مستوي عالمي، بل هو مكون مختلط من مصالح ورؤي مختلفة تصل أحيانا حد التباين، وكذا ثقافته بالضرورة، وهو يعمل لضرورة التعايش داخل نظام الدولة، أي في إطار سياسي، يفرض عليه حدا أدني من الصراع، وصيغة أفضل للمشاركة الفاعلة في تدعيم مؤسسة الدولة ونجاحها. ومن ثم يفترض في الدولة أن تهيئ من خلال قوانينها ومؤسساتها لهذا المجتمع فرصة الإفادة من تنوعه والتعبير عن ذاته من خلال العمل المؤسسي والفردي بما يخدم الشخصية الاعتبارية التي تمثلها الدولة كإطار حامً للمشروع الاجتماعي.
بما أن المواطنين داخل الدولة سواء، فإن من حق كل منهم أن يعيش حرا ومكرما بما لا يتعارض مع مشروع الدولة، أي ما يؤدي إلي خلخلة العقد الذي تعمل بمقتضاه، أو يؤدي إلي تقليص أو الاعتداء علي حريات الغير، أو التمييز خارج نطاق المواطنة.
والحاصل أن عودة إلي التشريع الإسلامي هي تمييز صارخ في مجتمع فيه المؤمنون بالاسلام وغير المؤمنين. كما أنه يمثل مصادرة علي المطلوب، وهو ما هو الواقع الذي نريد أن نشرع له؟ وما المشكلات التي نريد حلها بالقانون؟ ليصبح القانون تعبيرا عن حاجة ثقافية إلي تطابق البعض ما الثقافة التي يعرفونها.
مع العلم أن الثقافة ليست فقط ما نعرفه، والعلاقة معها ليست أبدا علاقة التطابق، بل هي علاقة تفسير وكشف للواقع والعلاقة به، علاقة الشك وابتكار الأسئلة والحلول علي حد سواء. الثقافة هي أيضا مساحة الممكن والخيال والابداع، فليست فضيلة أبدا أن ينام مجتمع في حضن ثقافته، وفي حضن معرفته المطمئنة عن ذاته.
والحاصل أيضا أنه علي مستوي الواقع الفعلي لم تكن الثقافة الدينية للأسف وسيلة لتطوير الذهنية المنفتحة علي ما يطرحه العالم من أسئلة، بل كانت سياسيا وسيلة منازعة لإفقاد السلطة شرعيتها مما أفقر الخطاب السياسي وانحرف باتجاهه، ووسيلة لطعن فصيل علي فصيل، والحد من حريته، في قضايا جزئية لا تقيم دولة ولاتؤثر في انتاج ولا تطور خلقا اجتماعيا ناضجا لمجرد إثبات الذات علي الأرض، وحرق الطريق علي السلطة من أسفل، هكذا تفرغت لقضايا الحجاب وشرب الخمور، واعتبرت كل إبداع لصورة مختلفة عن المجتمع أو نقدية لما أسمته «ثوابته» عملا عدائيا، وحضر الله، لا الدولة، باعتباره الغاية، في ازدواج جذري غاية في الخطورة.
أخيرا..
لست في حاجة إلي التعرض للقضية الثالثة التي يسوقها البشري كحجة لمرجعية الشريعة، وهي أن توفر أرضية توحيد التشريع علي النطاق العربي، ولعل كل ما سبق يؤكد رعونة هذه الحجة، وكونها مجرد غطاء لتمييع الإشكال الوطني للتشريع. وإذا كان التنوع والتعارض والاختلاف هو حال المجتمع الواحد فما بالنا بالمجتمعات العربية التي حتي من حيث الثقافة والقيم العرفية تتباين أشد التباين بين مجتمعات نهرية وأخري بدوية وثالثة اختلطت بأعراق غير عربية الأصل.إلخ ناهيك عن التباين في شكل الدولة وطبيعة النشاط الاقتصادي ومستوي الدخل والعلاقة بالمنظومة الدولية.. إلخ
يجمع البشري إذن بين أسوأ ما تهافت الفكر الأصولي والقومي.
والغريب، بل المريب أن يأتي هذا الكتاب في الوقت الذي كانت فيه أجساد الشهداء تتهاوي في الميادين، تحاول البحث عن مخرج لحريتها وحرية شعب عاش طويلا خاضعا لعبودية «النظام» بمعناه الشامل: السياسي والأبوي الديني والثقافي والاجتماعي، والقانوني الصوري الذي تراوح بين فصيلين كلاهما وجه للآخر، خادم البيروقراطية، وخادم النظام المثالي الفوقي والرجعي بالضرورة من أمثال البشري.
المثالي والانتهازي
ولعل من المفارقات التي لابد أن نخرج منها بحكمة هي أن المثالية دائما وجه آخر للانتهازية علي مستوي الواقع. ولست في حاجة إلي أن أشير إلي ما فعله البشري في مسألة الاعلان الدستوري، وأي مأزق أوقع فيه الثوار الأبرياء فسرق منهم ثورتهم بالقانون.
لم يفطن البشري أبدا إلي أن الثورة متاضمة مع مثيلاتها في العالم العربي، وبوادرها في «الغرب» الذي تحدث عنه، كان يمكن أن تشكل ثغرة غير هينة في النظام العالمي غير العادل. وكان واضحا من حجم التدخل الخارجي عربيا وعالميا وعلي أعلي المستويات، أن ما كان يحدث في ميدان التحرير أو غيره من الميادين العربية كان موجها إلي منظومة الرأسمالية التي بلغت حدا من التوحش والفساد وانعدام الافق والتحلل من كل قيمة إنسانية عليا أن ثمة شيئاً في الأفق ولو لم يع به الثوار أنفسهم، أبعد من حدود ثورة محلية علي نظام قمعي فاسد.
أي تحرر؟
كان بإمكان البشري وغيره، أن يقدم للشباب عونا بفكر تشريعي نقدي يلائم مجتمعا عالميا يزداد تضافرا وتوحدا في معاييره، لا أن ينتهزها فرصة لتحقيق حلم فصيل يمهد له بأرضية تشريعية ثقافية كاذبة ومتهافتة، كان ينبغي أن يكتب في الميدان، لا علي مكاتب المجلس العسكري وبرعايته.
أسهم البشري أيما إسهام في إجهاض ثورة بتحويلها إلي إشكال قانوني محلي.
لقد أشرت من قبل ، إلي الدور غير الطبيعي لرجل القانون في الحياة السياسية، وتجاوزه لحدود التخصص وكأنه راسم للسياسات. فليست مهمة رجل القانون أن ينوب عن الشعب ومشرعيه السياسيين «لا القانونيين» في تحديد شكل الدولة، ولا ما ينبغي أن يكون عليه دستورها، بل في صياغة ما يستقر المشرع السياسي عليه من مبادئ عامة وتكييفها قانونيا. هذا الدور المتجاوز للحد وضع البشري كمؤرخ ثقافي، ومشرع سياسي، وقانوني في الوقت ذاته، وكأنه ينوب عن سلطات المجتمع بما فيها الثقافية.
كما يشير الهاجس المقلق لفكرة التحرر الوطني المرتبط بالانكفاء علي الذات، أي تكريس صورتها كما روجها المستعمر بالذات. وليس غريبا أن اللورد كرومر لم يكن محبذا إنشاء جامعة حديثة في مصر، بينما دعا إلي نشر الكتاتيب، وليس غريبا أن أقرب الأنظمة العربية إلي «الغرب» الرأسمالي، والتي يدافع عنها بشراسة تجاه أي تحول ديموقراطي، هي نظم ترفع شعار الهوية الاسلامية وعلي رأسها النظام السعودي.
لم تنجز «المقاومة» فكرا تحرريا، بل تكريسا للتخلف، ينطلق من أسئلة عاطفية لذات موتورة لم تستطع تحويل أسئلتها عن الحياة إلي أسئلة إنسانية تشارك فيها الجماعة الدولية، وتضع بصمتها الخاصة علي تاريخها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.