لا تخطئ كثيرا تلك الدراسات والأبحاث التي خاضت وتخوض في تحليل وتعليل بنية العقل العربي وطبيعته وانتهت إلي ما بينه وبين العقل الغربي من فروق وتباينات حادة شكلت واقع كل منهما علي نحو ما هو قائم, حتي أن هذا الواقع قد أصبح هو المحك والمعيار الجوهري في قضية التقييم تلك بصرف النظر عن ظروف ودواعي وأسباب تلك الفروق والفواصل, ورغم ذلك أحدث كل من العقلين أزمة مع واقعه كانت ذات طابع مختلف يصل إلي حد التناقض الصارخ أو يساوي في مساحته تلك الهوة الحضارية المعاصرة!!. ولسنا ممن نناصر عقلا أو نخذل آخر وإنما نتساءل فقط: لماذا استمرت ولم تتبدل الوضعية الفكرية للمثقف العربي المعاصر في إطار كم المفردات المستحدثة سياسيا وثقافيا واجتماعيا واستراتيجيا في عصر ما يسمونه بالعولمة؟ ولماذا لم تمنحه أبجدية جديدة للفكر حين التعامل مع تلك المفردات؟ ولماذا لم يصبح لهذا المثقف نوعا من التفكير الإنقلابي الذي يجتث به جذور الوهم والاستكانة والخنوع من رؤوس قرائه؟!. ولعل أول ما يبتدي أمام الرؤية التنويرية الواعية أن الإشكالية الكبري للمثقف العربي قد تتشعب إلي عديد من إشكاليات فرعية تتزعمها أنماط من المفاهيم العتيقة لكنها ذات سيادة في إحكام قبضتها علي آليات هذا العقل, فلم تستطع معالجة ذلك الواقع وفهم مغزاه وعلاقاته فضلا عن اجتيازه إلي أفضل فبقي علي صورته كما ظلت هي أسيرة معطلة. والحقيقة أن العلاقة بين المثقف وواقعه متشابكة تنطوي علي جدلية دائمة تحركها علاقة الفاعل والمفعول به, والفاعل هنا لا بد أن يتجرد من قصور النظر إلي هذا الواقع ويتمتع بعمق استقراء دلالاته ويخالف الإتجاه نحو اليقين المطلق إلا في استثناءات قليلة, ذلك أنه يفرض نوعا من الحجب الكثيفة التي تحول دائما بين الخوض في أعماق أبعاد موضوعية أخري ربما أضافت إلي الرؤية وانطلقت بها نحو شكوك يصعب الإنفلات منها وبالتالي تتهاوي المنظومة الفكرية التي قامت عليها أرضية هذا اليقين المؤسس علي عدم الإحاطة الدقيقة والإلمام الواعي بمفردات القضية محل النقاش علي اختلاف مستوي خطورة هذه القضية, وبالتالي خطورة الوصول إلي نتائج قاطعة فيها!! وهناك شئ آخر يعرقل مسيرة المثقف العربي ويجذبها نحو الوراء دائما وهو ضبابية الرؤية التي تمكنه من خلط المعني والمفهوم وبالتالي تمكنه من خلط المفردات بعضها ببعض والبعد عن التقييم الواعي لكل منها والانصراف عن فرض أولوياتها وبالتالي يكون السؤال الأساسي في قلب أي قضية غير دافع نحو حلها ولو جزئيا سواء كانت هذه القضية تمثل إشكالية فلسفية أو تمثل إحدي مشكلات الممارسة المجتمعية, بل يكفي أن أشير إلي أن ضبابية الرؤية هذه تتبع في أرقي حالاتها تشخيصا مغايرا لطبيعة القضية بالأساس. ولو أردنا أن نجمل كل هذا لأطلقنا علي المثقف العربي أنه صاحب رؤية أحادية مهما تتعدد سماتها فإنها تتمحور بين الفكر الإطلاقي الذي لا يلقي بالا إلا بالجزئيات ويرفض مبدأ نسبية الفكر, والفكر التمامي الذي ينطوي علي قناعات كبيرة من الاستقرار والاكتمال في هيكليته ومضمونه, وكذلك الفكر الإقصائي الذي يستبعد الآخر المتمسك بمنهجية مضادة لمألوفات المثقف العربي!!.