هل هي مصادفة أن يرحل علي هذا النحو؟ سألت وأنا أشهد رحيل نصر حامد أبو زيد وقبله فاروق عبد القادر دهشا من حالة الغيبوبة التامة التي أصيب بها هذا الفقيد أو ذاك, من حالة العناية المركزية التي انتهي إليها كل منهما. ورحت أردد هذه المرة ما رددته من قبل.. إن حالة غياب الذاكرة التي عاني منها فاروق عبد القادر لم تكن بالمصادفة_ فيما يبدو-.. وإنما كانت تعكس واقعا مؤلما للمثقف المتمرد فيما آلت إليه حالته الفكرية, وهي حالة فقدان الذاكرة الطوعي-لا الطبي_ والتي كانت تعكس في المناخ العام هذه الحالة من فقدان الذاكرة لدي المثقفين الذين تركوا المثقف الغارق حتي الساعات الأخيرة بغير طوق نجاة. وتتعدد الظواهر والأسباب ويظل ما يلفت النظر دائما هذه الحالة التي يعيش فيها دائما المثقف الراحل.. في حالة فاروق عبد القادر نعرف أن التشخيص الطبي أكد استمراره في غرفة' العناية المركزة' لفقدان الوعي, وفي حالة نصر حامد أبو زيد نعرف أن التشخيص الطبي أكد هذه الحالة الغامضة التي انتهت إلي' فقدان الوعي' أيضا مع هبوط حاد بالدورة الدموية والتنفسية..هذه الحالة الغامضة التي قيل إنها بسبب فيروس ما_ أي فيروس؟ لم يقطع احد من الأطباء بتشخيصه حتي بعد الرحيل-. في الحالتين يحتار المرء حقا: هل أصيب هذا الراحل أو ذاك بالمرض_ وهي سنة من سنن الحياة_ أم أن الإصابة تحمل سببا يتحدد في تكوين المثقف ووعيه ورفضه للواقع المتردي حقا, فإذا به يرفض_ في الواقع العضوي أو النفسي_ هذا الواقع الرديء, ومن ثم, تتحدد سمة الغضب الإيجابي والرفض الذي ينعكس في هذه الحالة التي يعيش فيها المثقف بإرادته وينتهي بها_ فيما يبدو_ بإرادته أيضا.. الحيرة التي يعيش فيها فيما يبدو تنتهي إلي هذه الحالة والحيرة التي أعيش فيها فيما يبدو تنتهي بهذا اليقين.. إن رحيل هذا الكاتب أو ذاك يأتي دائما بعد رفضه الخضوع لصور التخلف حوله والخنوع لصور البلادة التي أصبحت أهم سمات المجتمع الذي نعيش فيه, فترتسم في صحفنا الورقية والرقمية وفضاءاتنا الإعلامية والإلكترونية وشاشاتنا الزرقاء والبيضاء.. صور الجمود الذي هو-أي الجمود- يظل الضد الحقيقي لوعي المثقف وتمرده.. رحت أستعيد فيها رمز هذا المثقف أو ذاك وقد عرفته عن قرب.. رجت استعيد صورة المثقف الذي رحل أخيرا.. رحت استعيد صورة نصر حامد أبو زيد, فقد حضرت إلي جانبه أكثر من لقاء في مدريد وباريس والقاهرة, وكنت في كل مرة الحظ صمت الرجل وتجرده في كثير من الأحيان من الضجة التي ترتفع حوله في أي موضوع, وتأمله لفترات طويلة وهو يحدق في الفراغ كلما اشتد الجدل وانقطع الصمت بالقضايا الوهمية والأحكام الجاهزة التي كان يعيش فيها; وكنت أراجع مواقفه وكتاباته التي تتردد فيها قضايا عصرية مستنيرة إلي حد بعيد, وكنت أفهم غضبه الشديد الذي يصل في أحيان كثيرة إلي الكتابة بوضوح أو الجهر بغير تجمل; وبقدر ما كان يطول صمته كان يطول غضبه بقدر ما جسد الأسئله الحائرة إلي إجابات تمر علي العقل وتتعامل مع المنطق الذي هو_ العقل أو المنطق- سنة من سنن الدين الحنيف.. ويكفي أن نستعيد عناوين بعض أعمال نصر أبو زيد الآن لندرك كم الوعي والتمرد والغضب التي كان يتحلي بها المثقف المعاصر, نقرأ ونستعيد( دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة) و(دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي) و(مفهوم النص دراسة في علوم القرآن, إشكاليات القراءة وآليات التأويل) و(نقد الخطاب الديني المرأة في خطاب الأزمة) و(الخلافة وسلطة الأمة) و(النص السلطة الحقيقية( مجموعة دراسات ومقالات نشرت خلال السنوات السابقة) و( دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة) و(الخطاب والتأويل) و( التفكير في زمن التكفير) فضلا عن استعادته لفكر كثير من علمائنا الواعين كابن عربي والإمام الشافعي.. وغيرهما.. وتتردد في حوارات أبو زيد كلمات دالة: كالعقل والسيموطيقا والهرمنيوطيقيا والألسنية وعلم الاجتماع.. ويتمهل عند' تاريخية النص الديني' وانتمائه إلي بنية ثقافية محددة مؤكدا النص الإلهي المقدس بوعي شديد في كتابه' النص والسلطة والحقيقة'.. إلي ذلك مما يشير إلي وعي مثقف متمرد مستنير وليس مثقفا متعدد التفسيرات متأرجحا بأية حال.. مثقف رفض نطق الشهادتين أمام المحكمة التي عقدت لتحكم عليه حكما قاسيا عنيفا في الجنوب- في مصر- ولكنه بدأ أولا محاضراته في الشمال- هولندا- بالشهادتين معلنا انه رفض نطقهما أمام المحكمة من قبل حتي لا يؤسس لوجود سلطة' تبحث في قلوب الناس'_ هكذا بالحرف الواحد.. لقد كان المثقف واعيا أشد الوعي واضحا أشد الوضوح, لم يخضع لأية سلطة تحاول الحكم علي الرأي الواضح باسم العقيدة... ولم يكن ليستخدم العبارات الدينية رغم الهجوم الشرس ضده إلا بقصد الانطلاق من الوعي الديني إلي الاستنارة الواعية مهما يكن ما يواجهه, فقد كان يردد دائما إن أول آية من القرآن الكريم كانت( اقرأ) وأكثر الأفعال التدبر والنظر.. كان علي المثقف أن يظل علي موقفه الواعي النبيل, حالة رفض الواقع المتخلف, حتي لو انتهي به الأمر إلي حالة فقدان الذاكرة, حالة غياب الذاكرة التي تترجم حالة وعيه الشديد لدور العقل والعمل علي التشبث به في زمن الانحسار والتخلف الشديدين..