عندما ممرت ومعي صغيري من أمام احدي الوحدات العسكرية داخل المدينة في بنها لفت نظر الصغير الذي أكمل لتوه عامه الرابع الجنود الموزعين أمام الوحدة العسكرية في قلب المدينة كل في مكانه بالشدة الكاملة في نوبة الحراسة الخاصة به- ويعرف هذه الحالة هؤلاء الذين خدموا في الجيش وكان الجنود ممسكين بأسلحتهم ومرتدين زيهم المموه وخوذاتهم المميزة, وقد كانت المسافة بين صغيري والجنود بطول الممر الذي كنا نقطعه بالسيارة أمامهم لا تتجاوز مترا واحدا مما سمح له وهو مطل من النافذة أن يملأ عينه من هذا المشهد المستجد علي ذاكرته المصورة التي ربما تشكل بداية معرفته بجيش وطنه مصر. بطول الشارع ظل الصغير يسألني كأي طفل عندما يري صورة جديدة: يا بابا انظر إلي البوليس هما واقفين كده ليه؟ وأنا أجيبه لا بل هم الجيش, ويقول لماذا عرباتهم الواقفة في الخلف كبيرة قوي؟ ولماذا يقفون هنا؟.. وهكذا ظل يتساءل وأنا أحاول أن ألاحق أسئلته المتدفقة بما قد يشبع غريزته في المعرفة وبما أراه مناسبا لتهيئة معارفه بحقيقة جيش بلاده والصورة المناسبة التي يجب أن تترسخ في ذهنه, فربما يكون يوما ما جنديا مرابطا علي جبهة أو ثغر كهؤلاء الجنود. لكن قطعت أسئلته بأن أطلب منه أن يرسل إشارات تحية لكل جندي يمر عليه لا أعرف لماذا طلبت منه ذلك, ولماذا لم أطلب منه مرة أن يفعل الأمر مع البوليس الذي يراه ذهابا وإيابا, علي أي حال يبدو أن الاقتراح قد لاقي ترحيبه, فراح يشير بوجه باسم خجول, والجنود يردون عليه التحية بابتسامات هادئة, وعندما انتهت رحلتنا القصيرة جدا في هذا الممر, توقف محمد عن الأسئلة وتوقفت أنا أيضا عند هذه اللحظة الاستثناء التي توافرت صدفة للصغير لتبدأ معرفته في التشكل عن واحد من أهم عناصر الأمة المصرية العظيمة وربما الركيزة التاريخية التي تأسس عليها هذا الوطن وحمل للأمة طموحها وحمي حدودها وزاد عن أهلها. والحقيقة وكأنني فهمت لتوي لأول مرة عمق العلاقة الاستثنائية بين المصريين وجيشهم. إن الطفل المتسائل هو ابني, وهؤلاء الجنود الواقفون بطول الشارع في قلب المدينة منهم الأخ أو الابن أو الزميل أو الصديق أو القريب, وكلنا جميعا أبناء هذا الوطن وهذه الأمة الضاربة بعمقها في التاريخ, والجميع جنود مرابطون في خدمة هذا الوطن في كل موقع أو ساحة أو ميدان أو مؤسسة كل يؤدي دوره. ولعل هذا قد يصلني بمعني حديث الرسول صلي الله عليه وسلم واصفا أهل مصر بأنهم خير أجناد الأرض, والعمومية التي أشار بها الرسول إلي حالة الجندية التي تشير إلي كل أهل مصر تفسر العلاقة الاستثنائية بين الشعب والجيش باعتبار أهل مصر وجيشها كيانا واحدا. ولعل حالة الرباط التي يبدو عليها المصريون تمثل حالة استثنائية أثبتته التجربة في ظل الفوضي التي يراد تعميمها في المنطقة, وبالتالي يظل الجيش كعماد رئيسي تقوم عليه الدولة المصرية ومؤسساتها, ويظل الجيش أمل المصريين ووجهتهم في المراحل الحرجة وفي اللحظات التي يبقي فيها وجود الدولة مهددا نتيجة لأي عجز أو ضعف أو خطر, وقد تكون التغيرات التي تشهدها مصر خلال المرحلة الراهنة عاصفة وشديدة الصعوبة بل وشديدة الوطأة والتأثير علي المصريين مدخلا للبعض بالوقيعة بين الشعب وجيشه, لكن يظل الجميع مطمئنا إلي أن الله لن يضيع هذا الوطن ويظل المصريون مطمئنين إلي أن مؤسستهم القوية ما زالت بها خير, ويظل رهان أي عدو علي إفساد العلاقة بين المصريين وجيشهم مجرد أوهام.