وزيرة التعاون الدولى: العمل المناخى أصبح عاملا مشتركا بين كل المؤسسات الدولية    الإسكان: استكمال رصف محور كليوباترا الرابط بين برج العرب الجديدة والساحل الشمالى    تنفيذ 31 قرار غلق وتشميع لمحال وحضانات ومراكز دروس خصوصية مخالفة    النمسا تفرج عن الأموال المجمدة لوكالة الأونروا في فلسطين    من القمة العربية بالبحرين.. هنا مصر    القوات الروسية تستهدف المراكز اللوجستية للجيش الأوكراني في منطقة أوديسا    عمر جابر: نسعى للتتويج بالكونفدرالية وإهداء اللقب لروح محمد مدحت    موعد مباراة الأهلى والزمالك الثانية فى بلاى أوف نهائى دورى محترفى اليد    خطوة تفصل نور الشربيني عن إنجاز تاريخي بعد التأهل لنهائي بطولة العالم للاسكوش    طلابنا فى عيوننا.. تنفيذ أنشطة لتوعية طلبة الجامعات بأضرار الإدمان.. 40 ألف طالب وطالبة يستفيدون من برامج تصحيح المفاهيم المغلوطة عن التعاطي.. و4 آلاف طالب يتقدمون للانضمام إلى رابطة متطوعي صندوق مكافحة الإدمان    سقوط عصابة تنصب على المواطنين بالسوق السوداء للعملة    ديمى مور تخطف الأنظار أثناء حضورها الدورة ال 77 من مهرجان كان.. صور    أكرم القصاص: التحركات المصرية أحبطت أى مخطط لتصفية القضية الفلسطينية    13 مصابا جراء استهداف الاحتلال مواطنين قرب مدارس أونروا بمخيم جباليا شمال غزة    إزاي تقلل الكوليسترول والدهون الثلاثية فى الدم بطرق طبيعية.. استشاري يوضح    مطالبة برلمانية بكشف سبب نقص ألبان الأطفال    لو ناوى تخرج دلوقتى.. نصائح للتخلص من الشعور بالحر أثناء السير فى الشارع    تراجع كبير في أسعار السيارات بالسوق المحلية.. يصل ل500 ألف جنيه    قبل مناقشته ب«النواب».. «الأطباء» ترسل اعتراضاتها على تأجير المستشفيات لرئيس المجلس    الشهابى: الشعب المصرى يقف خلف القيادة السياسية لدعم القضية الفلسطينية    كبير الأثريين: اكتشاف آثار النهر بجوار الأهرامات حل لغز كيفية نقل أحجارها    أدعية مستحبة خلال مناسك الحج.. تعرف عليها    منتخب مصر للساق الواحدة يتعادل مع نيجيريا في افتتاح بطولة أمم إفريقيا    مرصد حقوقي يحذر من تفاقم الأوضاع الإنسانية بغزة جراء سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على معبر رفح    رئيسا روسيا وكازاخستان يؤكدان مواصلة تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين    خسر نصف البطولات.. الترجي يخوض نهائي دوري الأبطال بدون مدرب تونسي لأول مرة    مهاجم الترجي السابق يوضح ل "مصراوي" نقاط قوة وضعف الأهلي    وزير الأوقاف يوجه الشكر للرئيس السيسي لاهتمامه بعمارة بيوت الله    أشرف زكي ومنير مكرم في عزاء زوجة أحمد عدوية    مدير «القاهرة للدراسات الاقتصادية»: الدولة تسعى لزيادة تمكين القطاع الخاص    موعد عيد الأضحى ووقفة عرفات 2024 في مصر.. ومواعيد الإجازات الرسمية يونيو 2024    مصرع شاب وإصابة آخر في حادث مروري بالوادي الجديد    تعديل مواعيد مترو الأنفاق.. بسبب مباراة الزمالك ونهضة بركان    وزير التعليم: التكنولوجيا يجب أن تساعد وتتكامل مع البرنامج التعليمي    نموذج إجابة امتحان اللغة العربية للصف الثالث الإعدادي محافظة الجيزة    مصير تاليسكا من المشاركة ضد الهلال في نهائي كأس الملك    منها تعديل الزي.. إجراءات وزارة الصحة لتحسين الصورة الذهنية عن التمريض    إطلاق أول صندوق للطوارئ للمصريين بالخارج قريبًا    وزير التعليم ومحافظ بورسعيد يعقدان اجتماعا مع القيادات التعليمية بالمحافظة    كوكا يقود تشكيل ألانيا أمام سامسون سبور في الدوري التركي    نتيجة الصف الخامس الابتدائى 2024 الترم الثاني بالاسم.. رابط مباشر للاستعلام    مطار ميونخ الألماني: إلغاء 60 رحلة بسبب احتجاجات مجموعة "الجيل الأخير"    العلاج على نفقة الدولة.. صحة دمياط تقدم الدعم الطبي ل 1797 مواطن    معلومات عن متحور كورونا الجديد FLiRT .. انتشر أواخر الربيع فما أعراضه؟    هل مواقيت الحج والعمرة ثابتة بالنص أم بالاجتهاد؟ فتوى البحوث الإسلامية تجيب    حبس المتهم بسرقة مبالغ مالية من داخل مسكن في الشيخ زايد    حزب الله يعلن استهداف تجمعا لجنود الاحتلال بثكنة راميم    عاشور: دعم مستمر من القيادة السياسية لبنك المعرفة المصري    8 تعليمات مهمة من «النقل» لقائدي القطارات على خطوط السكة الحديد    محافظة القاهرة تنظم رحلة ل120 من ذوي القدرات الخاصة والطلبة المتفوقين لزيارة المناطق السياحية    فيلم فاصل من اللحظات اللذيذة يحتل المرتبة الثالثة في شباك التذاكر    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    جهود قطاع أمن المنافذ بوزارة الداخلية خلال 24 ساعة فى مواجهة جرائم التهريب ومخالفات الإجراءات الجمركية    "الإسكان": غدا.. بدء تسليم أراضي بيت الوطن بالعبور    خبيرة فلك تبشر الأبراج الترابية والهوائية لهذا السبب    ما حكم الرقية بالقرآن الكريم؟.. دار الإفتاء تحسم الجدل: ينبغي الحذر من الدجالين    الفصائل الفلسطينية تعلن قتل 15 جنديا إسرائيليا فى حى التنور برفح جنوبى غزة    الأرصاد: طقس الغد شديد الحرارة نهارا معتدل ليلا على أغلب الأنحاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ننشر الفصل الخامس من رواية «مولانا» لمحمد العون
نشر في محيط يوم 24 - 05 - 2015

فى الصباح الباكر ومازال الندى يُبلل الأسطح المعدنية اللامعة ويتكثف قطرات على أوراق الأشجار المحيطة بمحطة القطار الملكى بقصر القبة ، عربات القطار تكتظ بالجنود المدججين بالسلاح ، والضباط مصطفون بنظام حسب رتبهم العسكرية فى انتظار حضور القائد الأعلى.
كان قد قرر الذهاب إلى غزة بنفسه لمتابعة سير العمليات العسكرية وتفقد قوات الجيش فى الخطوط الأمامية للقتال ، رافضاً نصائح مستشاريه بعدم تعريض نفسه للخطر ، قبل ذلك قام بكل ما فى وسعه استعداداً للحرب ولتهيئة الجيش لها ، فعين مدير مصلحة السجون وزيراً للحربية والدفاع الوطنى وقائداً عاماً للجيش ، مما أثار استياء ضباط الجيش واعتبروا أن إسناد القيادة إلى ضابط بوليس فيه مساسٌ بكرامتهم العسكرية ويُعد استهانة بهم.
كما قام بتسليح الجيش من المورد الوحيد المتاح بعد الحرب العالمية ، وهو ساحات الحروب فى العلمين وفى أوربا ، كانت الجيوش الأوربية فى خضم الصراع الضارى بينها قد تركت الكثير من عتادها ومعداتها وأسلحتها مبعثراً على أرض المعارك وبعضها لم يُستعمل ومازال شمع المصانع يغطيه داخل الصناديق ، قامت بعض الشركات الأوربية المتخصصة بتنظيف ساحات الحروب وجمع ما تُرك فيها وعرضه للبيع فى أسواق السلاح من جديد ، لم تشتر الحكومة عن طريق خبرائها العسكريين الذين كان وجودهم فى لجان المعاينة والشراء شكلياً ، بل عن طريق سماسرة أوربيين ومتمصرين عبر سلسلة من الصفقات تدخل فيها عدد من الوكلاء ، مرروا قطعاً من السلاح المستهلك الذى تحول إلى خردة كان مصيرها الطبيعى أن تُباع بالطن إلى مصانع الحديد وأفران الصهر.
هالته الخسائر المتلاحقة وأعداد القتلى والجرحى والمفقودين من أفراد الجيش ، فأراد الذهاب بنفسه لرفع الروح المعنوية لجنوده وضباطه وقواده ، والاطلاع على خرائط المعارك وتحركات القوات بحكم دراسته العسكرية السابقة ؟!
دخل محطة القطار مرتدياً زى القائد الأعلى للجيش ، بدا فخماً مهيباً وهو يمشى بخطوات حاول قدر ما يستطيع أن تكون منتظمة ثابتة ، فبطبيعة الحال لم يكن قد نام بعد ، صافح مستقبليه بعد أن أدوا له التحية العسكرية وصعد إلى مقصورته الخاصة ، مع تحرك القطار بدأ النعاس يغزوه ، فصرف الجميع من حضرته ثم استلقى على السرير بملابسه ، ولم يلبث أن علا شخيره بعد دقائق فكاد يغطى على صوت القطار.
استيقظ منتفضاً فى منتصف المسافة إلى العريش ، هاجمه كابوس أفزعه ، وجد نفسه يسير وسط الناس فى شوارع القاهرة ، وفجأة أخذ الجميع فى الجرى وهم يتصايحون ويصطدمون به ويدفعونه ، التفت فلم يجد أحداً من رجاله حوله ، فأصابه الخوف ، حاول أن يكلم الناس أو يسألهم عما يحدث لكنهم لم يعبئوا به ، ثم انتبه بغتة إلى أنه عار تماماً ، فجرى يريد العودة إلى بيته .. فلم يعرف الطريق وأخذ يحاول عبثاً أن يستر نفسه فلم يجد شيئاً ، تاه فى الشوارع حتى أحس بالضياع كأنه طفل صغير يبحث عن أبيه والناس يشيرون إليه ويضحكون ، تذكر أنه يملك خدماً وأتباعاً كثيرين ، فزعق ينادى عليهم ، لكن صوته اختنق وضاق فى صدره ، صحا من نومه وهو يزوم .. .
اعتدل فى سريره وظل جالساً لعدة دقائق شارداً ثم قام نحو النافذة وفتح الستائر ، نظر إلى الصحراء وقد تعكر مزاجه وأثار الكابوس مازالت تشوش تفكيره ، ابتعد عن النافذة ثم ضغط الجرس ليستدعى خدمه.
أشعل سيجاره وجلس يشرب قهوته ومرافقوه يتوافدون على صالون المقصورة تباعاً ، وزير الدفاع ، كبير الياوران ، وكيل الديوان الملكى ، المستشار الصحفى ، أما رئيس الأركان وكبار القادة فكانوا فى انتظاره عند الأستراحة التى بُنيت خصيصاً له فى غزة ليقيم بها مدة زيارته.
قبل وصول القطار إلى غزة تعرض لوابل من الرصاص وبدا أن اليهود يريدون اغتيال الملك ، لكن كتيبة الحرس الملكى المصاحبة له ردت عليهم بقوة وأجبرتهم على التراجع.
مع أن الخطر على حياته كان حقيقياً ، لكنه أصر بعناد على النزول من القطار والتجول فى الشوارع بعربة جيب مكشوفة ، أراد أن يتصرف كقائد عسكرى يرى بنفسه أحوال الناس ويضرب لهم المثل فى الشجاعة.
كانت الشوارع مقفرة وأغلب المحلات مقفلة بسبب الحرب التى بدت أثارها واضحة على المدينة ، لكن الأعداد القليلة من الأهالى كانوا قد عرفوا بخبر زيارته ، فوقفوا فى تجمعات صغيرة لتحيته ، وأخذ هو فى رد تحيتهم بحماس وأصدر أمراً لسائقه بالسير ببطء حتى يرى الناس ويروه ، مما أربك حركة كتيبة الحراسة المرافقة له ، كان ضباطه يريدون أن ينتهوا من هذه الجولة بأسرع ما يمكن ، لكنه لم يأبه بهم وأطال جولته فى المدينة وهو يُظهر استهانته بالخطر ويتصرف بهدوء أعصاب وقد تجلت شخصية الملك فيه وارتفعت إلى أعلى درجاتها ، وتوارت شخصيته الأخرى التى يظهر بها فى الملاهى والسهرات تماماً كأنها لم تكن.
وصل إلى الاستراحة أخيراً وقد نال التعب والإرهاق من مرافقيه جميعاً ، أما هو فقد بدا فى قمة نشاطه كأن الملك لا يصح أن يتعب أو ينال منه الإرهاق ، الاستراحة كانت بناءً خشبياً بسيطاً مما يبنى للقادة فى ميادين القتال ، صالة واسعة بها مكتب وطاقم كراسى فوتيه وفى آخرها طاولة اجتماعات ، وهناك غرفة نوم ملحق بها دورة مياه مزودة بصهريج ماء ، لم تكن الاستراحة تتسع إلا للملك وحده أما مرافقوه وخدمه وشماشرجيته فكانوا ينامون فى خيام نصبت بالقرب منها ، ومن حولهم توزعت كتيبة الحراسة الملكية لتصنع دائرة محكمة على مقربة من تمركز وحدات الجيش.
فى الليل اجتمع بالقادة حول طاولة الاجتماعات ، وضعوا أمامه الخرائط وأسهبوا فى شرح العمليات العسكرية وسير المعارك ، لكن كلامهم وحججهم ومحاولتهم تبرير الخسائر لم تفلح فى التخفيف من حرج الوضع الذى كان مأساوياً ومخيباً للآمال ، تبدى لكل ذى عينين ضعفهم وانعدام كفاءتهم وعدم أحقيتهم لمناصبهم ، لكنه لم يقدم على أى خطوة لعزلهم أو محاسبتهم بل تمسك بهم معانداً جميع من نصحوه ، وأنعم عليهم بالرتب والنياشين مكافأة لهم على تحقيق الهزيمة.
كان ضباط الجيش يعانون من التوتر والإحساس بالظلم ، فالأسلحة التى يستعملونها جاءت متعددة الأنواع ، لم يكن لهم خبرة بها ولم يتلقوا أى تدريب مُسبق بكيفية التعامل معها ، بل إنهم لم يُذودوا بمعلومات عنها ، القنابل اليدوية كانت حديثة الطراز وسرعة انفجارها أعلى من تلك التى تعودوا استخدامها ، وهو ما أدى إلى انفجار بعضها قبل أن تُقذف على أهدافها ، استغرق الأمر بعض الوقت ليدركوا الفارق ، كان عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم فى فحص المدافع ودراستها ليتوصلوا إلى طرق تعبئتها وتوجيهها وإطلاقها ، وهو ما استغرق الكثير من الجهد والمشقة وأضاع وقتاً ثميناً كانوا أحوج ما يكونوا إليه وهم يواجهون عدواً مدرباً يمتلك أسلحة متطورة يُجيد استعمالها تماماً ، وعلى الرغم من الجهد الذى بذلوه لم يستطيعوا استخدام المدافع على الوجه الصحيح ، مما كان يؤدى إلى سخونة مواسيرها وتعطلها أو انفجارها فى بعض الأحيان ، أما الجنود البسطاء غير المدربين الذين كان عملهم الرئيسى فى الجيش خدمة الضباط وتقديم الشاى والقهوة لهم ، فكانوا أحد العوائق الأساسية فى القتال.
وكأن مشاكل الضباط مع السلاح والجنود لم تكن كافية ! أضيف إليها سوء الإدارة وعدم كفاءة القيادة وتخبط قراراتها وتناقضها ، مما جعلهم فى موقف لا يُحسدون عليه ، وأوقعهم فى هزائم متوالية برغم ما بذلوه من جهد وتضحية واستماتة فى القتال ..
فى الصباح الباكر خرج من الاستراحة بزيه العسكرى ، كان قد استطاع النوم مبكراً قرب منتصف الليل ، فاستيقظ صباحاً وهو موفور النشاط مما جعله يقبل على إفطاره بشهية ثم يسارع بالنزول لتفقد وحدات الجيش على أرض الواقع بعد أن اطلع عليها فى الخرائط ، تحرك بين القوات بسيارة جيب مكشوفة وصل بها إلى الخطوط الأمامية للقتال.
المظهر الجاد المترفع ، الكلمات المحسوبة ، الأسئلة المدققة ، الرزانة والوقار التى تتجلى على سمته المهيب ، تُعطى انطباعاً مُغايراً عن الإشاعات التى تُسمع عنه ، شخص آخر يكاد لا يمت بصلة لذلك الذى يسهر فى الكباريهات حتى الصباح يقامر ويُجالس الراقصات ، سؤاله عن الضباط والجنود واهتمامه بجرايتهم وما يُصرف لهم من طعام وشراب ، يكلمهم بنفسه ويسألهم وهو يتفقد الثكنات ويُشجعهم بكلمات تعبر عن افتخاره بهم وببسالتهم وتقديره لما يقدمونه للوطن ، أنعم على عدد منهم بالنياشين والمكافآت .. كان قد أصدر أمراً منذ سنوات قليلة بإلغاء عقوبة الجلد ورفعها من قانون الجزاءات العسكرية حفاظاً على كرامة الجنود المصريين ، برغم اعتراض السلطات العسكرية الإنجليزية ومحاولتها الإبقاء على تلك العقوبة فى القانون العسكرى.
الضباط الصغار يصافحونه دون أن يقبلوا يده ، بعكس قاداتهم ، تمسكوا بكرامتهم العسكرية فلم ينحنوا وأبقوا قاماتهم مشدودة وجباههم مرفوعة وهم يمدون أيديهم بقوة ليصافحوه ، ينظرون بتحد إلى وجهه والنظارة السوداء تغطى عينيه ، يخمنون فيما بينهم أيهما الزجاجية وإن كان يرى من الناحية اليمنى أم اليسرى ، حالة الهلع التى أثارتها زيارته بين القادة وكبار الضباط وتخاذلهم المهين وهم يجرون بين يديه ويبالغون فى تعظيمه وتملقه ، زادتهم حنقاً بعد أن اكتووا بنار المعارك وذاقوا طعم الهزيمة المر ، ولم ينفذوا أوامر قادتهم بالانحناء وتقبيل اليد الملكية ، شحنتهم الأحداث المتوالية وهم يرون جيشهم يُهزم من عصابات ظنوا فى البداية أنها لن تصمد أمامهم وأنهم سيسحقونها فى أيام معدودة ، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أنهم خُدعوا وتعرضوا للتضليل والخيانة ، وأن هذا الذى يأتى ليزورهم باعتباره قائدهم الأعلى هو سبب المصائب التى حلت عليهم وأنه هو ولا أحد سواه المسئول الأول عما أصاب بلدهم وجيشهم ...، كانوا يتأججون بالحماس والوطنية والإخلاص لبلدهم وتجتاحهم رغبة عارمة فى الإصلاح ، وتمتلئ نفوسهم بأحلام عظيمة عن الحرية والتقدم والرخاء لأبناء وطنهم الطيبين ...، لكنهم سيقودون بلدهم بعد ذلك .. إلى هزيمة أشنع بكثير من تلك التى ثاروا بسببها ، ليس فقط على الأرض التى شهدت هزيمتهم الأولى وإنما على أرض الوطن ذاته ؟!!
* *
ما يقرب من المائتى ألف جنيه سمسرة ، حصيلة عمليات متتابعة من صفقات شراء السلاح ، نسب محسوبة من الثمن الذى تدفعه الحكومة يتحول إلى شيكات باسمه على بنوك أوربا ، يخشى الزمن ويرغب فى تأمين حياته ، أصبح على يقين أن الزمن لن يسير لصالحه فيما ينتظره ، جده وابن عمه نُفيا وهما على العرش ، تلقى منذ أربع سنوات فقط نبأ وفاة ابن عمه ، آخر خديوى ، الذى حكم لمدة ثلاثة وعشرين عاماً فقط ، وغنى له الصبية وهم يلعبون فى الحارات والأزقة ، الله حى عباس جاى ، نكاية فى الإنجليز الذين نفوه ، كانوا يهتفون بها فى مواجهة العساكر الإنجليز وهم يمرون بعتادهم وأسلحتهم فى أحياء القاهرة القديمة.
كان الناس يعلمون أن الخديوى يرفض الاحتلال ويقاومه بكافة الوسائل ويستعدى شعوب أوربا خاصة فرنسا "الاستعمارية هى الأخرى" على الإنجليز بمعاونة صديقه مصطفى كامل، الذى كان يكتب المقالات النارية ويبعث بالرسائل إلى صحف فرنسا مندداً بأفعال إنجلترا ، ويعقد بدعم من الخديوى ومساندته الاجتماعات العامة التى يهاجم فيها الاحتلال بخطبه الحماسية التى تميزت بالإيقاع الشعرى والعبارات القوية الرنانة ، لكن .. مع بدء الحرب العالمية الأولى وتحول مسار الأمور إلى الجد ، لم يتحمل الإنجليز عناد الخديوى ومشاكسته التى تعوقهم عن استغلال مصر بمحاصيلها وموقعها وعُمالها الذين استخدمتهم فى أعمال السخرة أثناء المعارك ، لصالح حروبهم .. فخلعوه من الحكم ونفوه ، وبالإضافة إلى الوطنية أحبه عامة الشعب لما أشتهر عنه من احتشام وتدين ، فبرغم توليه المُلك صغيراً فى الثامنة عشر ، لم يُعرف له لهو أو عبث ، عندما عشق امرأة فرنسية عرض عليها الزواج شرط أن تشهر إسلامها فقبلت وتزوجها ، لكن آفته كانت فى طمعه للمال وبخله ، كدس الكثير ، ثم خلعه الإنجليز وهو مسافر بعيداً عن مصر وعن أمواله التى كنزها فيها.
يخشى الزمن وله مُلك مصر ، دخله السنوى من أملاكه الشاسعة يربو على المائة وثلاثين ألف جنيهاً مصرياً ، مما يجعله من أثرياء العالم وأحد أغنى حكام الأرض ، لكنه لم يعد يشعر بالأمان ، الشعوب تتجه إلى الأنظمة الجمهورية وتنحى الملوك عن طريقها.
- لن يبقى إلا ملك إنجلترا وملك الكوتشينة ؟
قالها لمجالسيه على المائدة الخضراء بعد انتهاء برتيتة القمار ، مما أشعرهم بالحرج ، فدعوا له بطول البقاء.
- ربنا يحفظك ، يا مولانا ويطول عمرك.
رددها الجميع وهم يستغربون تشاؤمه وإحساسه الدائم بالتعاسة ، كلهم يعرف أن مشاكله الأسرية ثقيلة وأن فضائحهم خاصة فيما يتعلق بأمه أصبحت علنية ، كانوا يشعرون بالرثاء له من هذا الجانب ويدركون حجم معاناته ، يتحمل كرجل ما يهدم الجبال ، لكنه فى النهاية ليس رجلاً عادياً مثل غيره من الرجال ، كان يستطيع .. بل كان لابد له أن يستطيع إدارة حياته بشكل أفضل مما فعل ومازال يفعل ! المقربون له منهم يعلمون أنه لا يقبل النصيحة ، وأن حياته الخاصة التى يعيشها بصحبتهم وهم أعلم الناس بأسرارها ستقوده إلى كارثة ، صداقته تحولت إلى عبء عليهم ، يفرض عليهم نظام حياته بغض النظر عن ظروفهم ومشاغلهم ، يجبرهم على السهر حتى شروق الشمس ، لا يملك أحدهم أن يستأذن فى الانصراف طالما هو جالس حتى أعياهم الإرهاق ، وبدأوا يتحججون بالأعذار ليعتقهم من السهر ومن صحبته التى أخذت تثقل على نفوسهم مع الأيام ، لم يكن يسمح لأى منهم بالسفر خارج البلاد إلا بعد الحصول على موافقته ، وقد يماطل بالأسابيع والشهور ليعطى الإذن ، ليس لأنه لا يُطيق مفارقتهم ولا يستغنى عنهم ، ولا لأنه يعتمد عليهم فى تسيير شئونه الخاصة والعامة ، ولا لأنهم رفقاء سهراته ورحلاته ، ولكن لأنه يعتبرهم من ممتلكاته يتحكم فيهم كيفما يريد ..
كل رجل منهم لم تسعه الفرحة عند بدء علاقته به واقترابه شيئاً فشيئاً منه حتى أصبح صديقاً شخصياً له ، الملك الشاب الدمث المهذب الذى يضيق بجدران القصور وأسوارها ، ويسعى للتنزه بصحبة أصدقاء من الرجال المتميزين ، يصطفيهم من دائرة علاقاته الواسعة ويقربهم منه بحيث يتاح لهم المرور عبر الحواجز العديدة التى تفصله عن الناس وتجعل من مقابلته أمراً بعيد المنال حتى لكبار موظفى الدولة بمن فيهم الوزراء.
الآن لم يعد يسمح لموظفى القصر من معاونيه وسكرتاريته بالمقابلة ، واقتصر عملهم على مخاطبته عن طريق الرسائل أو بواسطة التليفون إذا كان الموضوع عاجلاً أو مهماً ، حتى لم يعد مستغرباً أن يقضى أحدهم الأسابيع وربما الشهور دون أن يراه ! وجميعهم لم يعرف فيه الإنسان ولم ير منه ولو لمحة واحدة، كانوا يسمعون مثل غيرهم ويتعجبون ، فقد كانوا يتعاملون مع الملك وحده ، بكل ماله من هيبة واحترام يقترب من التقديس.
فى بداية عهده كان يصطحب أصدقاءه إلى رحلات الصيد فى الصحراء برغم معاناتهم منها ، حيث يحلو له ركوب الخيل والجمال مستمتعاً تماماً برحابة الصحراء واتساعها وجوها الصافى الذى يحلو فيه السمر البرىء ليلاً ، أما النهار فكان يقضيه فى صيد الأيائل والغزلان ، له موهبة طبيعية فى الرماية ، يصيب أهدافه بدقة وسرعة ، أحياناً كان يأمر بإعداد منصة رماية ليتسلى ويمرن نفسه على أهداف ينصبونها له على مسافات بعيدة ، يقف بجانبه أحد حراسه الألبان الثلاثة يُعد الذخيرة ويجهز له السلاح ، يتناول منه البندقية ويبدأ فى إطلاق الرصاص على الأهداف حتى تنفد الذخيرة فيلقى بها إلى الحارس العملاق الذى يلتقطها خطفاً من الهواء بيد وباليد الأخرى يسلمه بندقية معدة للإطلاق ، فيتوالى سيل الرصاص بلا انقطاع مصيباً الأهداف ببراعة تثير إعجاب الجميع فيصفقون له ، فى هذه الأيام كان يدهش أصدقاءه الذين نشئوا فى الرفاهية ، بقدرته على تحمل المشقة وخشونة العيش فى الخيام أو الاستراحات المتواضعة التى تخلو من وسائل الترف والراحة ، كانت الرحلة تمتد لأسبوعين أو ثلاثة فى الصحراء الواسعة ، قافلة ضخمة تحرسها كتيبة من الحرس الملكى وتتبعها وحدات من الجيش لتأمين طريقها وإقامتها.
رائحة الشواء تملأ الهواء ، والنجوم ترصع سماء مصر الصافية ، نسمات أول الليل اللطيفة تنعش الجو وتزيل تعب الأجساد التى أرهقها مرح النهار ، صوت الجياد وهى تحمحم والسياس يعتنون بها ويضعون أمامها العلف ، قهقهات الضحك تختلط بأصوات الرجال وهم يتحدثون وينادون على بعضهم والخدم ينتشرون بينهم ليلبوا أوامرهم ، يقف بالشورت عند النار يقلب الحطب بسيخ وهو يتابع شى الغزال الذى اصطاده بعيار محكم أثناء النهار ، بينما يقف الطباخ ساكناً على الجانب وحوله مساعدوه ، بعد تناول العشاء لم تكن جلسة السمر تستمر طويلاً ، يدخن السيجار لبعض الوقت ثم ينهض إلى فراشه لينام على الفور ، فلم يكن الأرق قد عرف طريقه إليه بعد ، تسكن حركة المعسكر تماماً وتخفت أصوات الساهرين إلى حد الهمس ، رائحة دخان الحشيش النفاذة تتسلل من خيمة الخدم وتعبق الجو ، كانوا يحضرون معهم كمية وافرة ويقضون فترة من الليل فى تدخينها بعد أن ينتهوا من أعمالهم .
فى القاهرة كان يخرج بصحبتهم قبل الغروب أو فى بداية الليل إلى الأوبرج أو كازينو حلميه بلاس أو الإسكاربيه لتناول فنجان من القهوة عادة ، لم يكن قد عرف حياة السهر بعد ، وكان كل منهم يسعد بهذه الصداقة ويتباهى بها وبالطبع يستفيد منها ، لكنه بدأ بعد ذلك يستعين بهم فى اتصالاته السرية برجال الحكومة ومسئولى الدولة وفى قضاء مصالحه الخاصة ، ينقلون رسائله الشفهية ورغباته إلى من يريد ويرجعون إليه بالرد ، وهو ما جعل نفوذهم يزداد ويتضخم مع الوقت.
- إنت يا باشا لما قابلت وكيل الحقانية ، كان عنده برد ؟
- أيوه .. يا فندم.
- ولماذا لم تبلغنى ساعتها.
- لم أر أن الموضوع على قدر من الأهمية بحيث نشغل به مولانا.
- مش مهم عندك إنت ، كان لازم تبلغنى بكل التفاصيل وأنا أحدد المهم من عدمه !!
- حاضر يا فندم.
يلتزمون بالقيود الصارمة فى التعامل معه ، حتى وهو يتبسط معهم بالضحك والمزاح ، كل رجل منهم التقى به فى المرة الأولى خارج القصر فى مناسبة ما ، لكن عندما أراده أن يحضر لمقابلته فى مكتبه بالقصر ، كان على الرجل منهم أن يتقدم بطلب المقابلة من الديوان أولاً ، وبعد قبول الطلب وتحديد الموعد ، يتلقى تعليمات البروتوكول من أمناء القصر قبل أن يدخل إلى المكتب ، لا تمد يدك لمصافحة الملك إلا إذا مد هو يده أولاً ، لا تجلس إلا بعد أن يسمح هو وإذا لم يأذن فعليك أن تظل واقفاً ، عندما يتكلم لا تقاطعه حتى ينتهى ، ولا توجه سؤالاً له أبداً ، وأجب عندما يسألك ، وتحت أى ظرف لا تستأذن فى الانصراف حتى يُنهى هو المقابلة.
حتى فى الجلسات الخاصة التى يظهر فيها الإنسان ويتراجع الملك ، لا يُسمح بالتدخين أو الشراب أو الأكل إلا بعد أن يأذن ، بالنسبة لأقاربه ومعارفه المقربين فإنهم يبدأون فى التدخين تلقائياً بعد أن يُشعل سيجاره ، وليس قبل ذلك بأى حال.
بعد سنوات من الصداقة تغيرت طباعه ، خاصة مع دخول القمار إلى حياته وإيغاله فى عالم الليل والسهر ، اختفى الشاب المهذب وظهر الرجل الغليظ بمداعباته الثقيلة والمهينة ، يُلقى بحبات الفاكهة
على من يجالسونه ، يقذفها بقوة لتصيب الرأس مباشرة ، ويفرح إذا أصابت رميته الطربوش وسقط عن رأس صاحبه ، يُفرغ كوب الماء بحركة سريعة من يده على ملابس من يريد مداعبته أو مداعبتها ، فلم يعد يستثنى السيدات.
كان الذين لا يعرفونه عن قرب ومازال الانبهار يسيطر عليهم لجلوسهم معه يعتبرون هذه المداعبات شرفاً وتكريماً سامياً لهم ، أما أصدقاؤه القدامى فكانوا يضيقون بهذا السلوك الذى طرأ عليه ويجارونه على مضض مراعاة لمصالحهم وخشية إغضابه ومقاطعته لهم ، فهو لا عقلانى متقلب المزاج مثل كل الرجال الذين يحبون مجالسة النساء ومجارتهن فى السطحية وأحاديث النميمة ، عاطفته تغلُب عقله وتتحكم مشاعره فى تصرفاته وعادة ما يبتعد عن الحياد والإنصاف فى حكمه على الأمور ، فيغضب لأتفه الأسباب ويقاطع لمدد قد تطول أو تقصر يُغلق خلالها جميع السبل للاتصال به ولو عن طريق الرسائل المكتوبة ، يتساوى فى هذا الجميع وأى رجل مهما بلغت صداقته أو علاقته به من حميمية عرضة للغضب والمقاطعة فى أى لحظة ، فلا عزيز لديه ، الصداقة بالنسبة له تخضع للمصالح والحسابات وتمضية الوقت للتسلية.
لعل حرمانه من الأصدقاء الحقيقين فى طفولته وعزلته الإجبارية داخل الأسوار والغرف المغلقة وأن جميع من أتخذهم أصدقاء عرفهم بعد جلوسه على العرش ، ودون أن يرتبط بهم عن طريق الأسباب الطبيعية التى تصنع الصداقة كالدراسة المشتركة والهوايات المتماثلة والقرابة والجيرة وتقارب العمر والطبقة الاجتماعية ، مما جعله لا يعرف علاقة الند للند التى هى أساس الصداقة ، هو الوحيد من سلسال الحكام فى أسرته الذى نشأ بلا أقران تماماً ، حتى ولو كانوا من أبناء عمومته وأخواله.
قد يكون الشعور بالعزلة والوحدة من أسباب حبه الشديد للتملك والاستحواذ على كل ما تقع عليه عيناه ويستحسنه من مقتنيات الآخرين ، زيارته الأولى لأى بيت من بيوت أصدقائه كانت تمثل صدمة ، قد يطلب من صاحبه زهرية أو مكتب أثرى أو لوحة أو أى تحفة تُزين الصالون أو صالة المنزل ، ويختلق أسباباً شتى ويخترع حججاً لذلك ، فهو مهتم بهذا الموديل من الزهريات التى ينتجها مصنع فرنسى مشهور وعنده منها مجموعة ويريد أن يُكملها بهذه الزهرية " قد لا يزيد ثمنها عن ثلاثين أو أربعين جنيهاً " ، أو أنه يجمع المكاتب التى صُنعت فى القرن التاسع عشر زمن جده الخديوى ، أو أنه معجب بأعمال الفنان صاحب اللوحة المعلقة على الحائط ويرغب فى اقتنائها ..! ثم يعرض أن يدفع المقابل لما يريد أن يستولى عليه ، أو أن يرسل لصاحب البيت بديلاً مماثلاً ، مما يجعل القريب أو الصديق فى وضع بالغ الحرج فيضطر للإذعان وأنه يشرفه أن يقبل مولانا هديته المتواضعة ، لكنهم بعد ذلك كانوا يخفون تحفهم وأشياءهم الثمينة فى البدروم أو فى الغرف البعيدة قبل زيارته.
هذا الداء استفحل مع الأيام بدلاً من أن يخفت ، وتدنى مع دخوله مرحلة القمار إلى مرض الكلبتومانيا النفسى ، يستولى خلسة على الولاعات الثمينة وعلب السجائر المعدنية المطعمة بالذهب والأحجار الكريمة بالرغم من أنه يمتلك منها المئات ، كان ضيوفه على المائدة يكتشفون اختفاءها ويبحثون عنها بلا جدوى بعد ذلك.
كان البعض يرجع إلى النادى ويسأل الجرسونات عن ولاعته أو علبة سجائره ظناً أنه نسيها أو سقطت منه وهو جالس ، فينظرون تحت الكراسى والمائدة بلا طائل ، بالطبع كان تفكير الجميع يتجه إلى أن أحد رواد النادى قد عثر على الولاعة أو العلبة وأحتفظ بها.
* *
الساعة التاسعة مساءً ، سيارته تقترب وتقف أمام باب نادى السيارات وخلفها سيارة الحراسة ، صفحة النيل تتلألأ على مقربة بفعل مصابيح الإنارة الخافتة التى تتوزع بانتظام على طول الشارع ، عربات الرش التى مرت منذ قليل تركت الشارع نظيفاً يلمع ، أشجار الظل المشذبة تنتظم على الرصيف العريض ، الباب المجاور لمقعده يُفتح فينزل ببطء وتؤدة ، يفرد جسده ورجال الحرس يتوزعون بترتيب محفوظ على درجات السلم وباب المدخل ، مدير النادى يسرع لاستقباله ومن خلفه رئيس السفرجية ، يمر على القاعة فتسرى الهمهمة المعتادة بين الرواد وهم يتطلعون إليه وقد قاموا عن مقاعدهم ، يتجه مباشرة إلى غرفة اللعب الرئيسة ، يصطف ضباط الحرس على جانبى الباب إلى أن يدخل ، ثم يعودون إلى البهو ليجلسوا فى مكانهم المعتاد عند الركن الأقرب للباب.
المستر واطسون شاب فى نهاية العشرينيات ، وفد إلى مصر حديثاً منذ بضعة أشهر ضمن البعثة الدبلوماسية لبلاده ، كان يجلس متكئاً على أحد كراسى الفوتيه الوثيرة داخل غرفة اللعب ، تمعن طويلاً فى الملك ودهش لهذه البساطة الآسرة التى يتعامل بها مع المحيطين به ، إنه يكلم الخدم وهم يضعون أطباق الأطعمة الخفيفة وأكواب العصير أمامه ، وهو يأكل ويتحدث مع جلسائه من الرجال والسيدات ويضحك مقهقهاً وقد أضفى حضوره جواً من المرح على مائدته وما حولها ، كان واطسون قد شرب كأسين من الويسكي لا أكثر ومازال محتفظاً باتزانه لكن خطرت على عقله المنتشي فكرة ظنها جيدة ، سيقيمون حفلاً فى السفارة بمناسبة عيد الاستقلال لبلادهم ، ولو أنه دعا الملك لحضور الحفل فإن ذلك سيعد مكسباً كبيراً له ، خاصة وهو فى بداية خدمته بمصر ، خمن أن الملك سيوافق على الدعوة ، فيبدو أنه يحب الحفلات وصحبة الناس ، كما أنه متواضع وبسيط لا يضع حاجزاً بينه وبين الآخرين ، قام واطسون عن مقعده واتجه مباشرة حيث يجلس الملك ، وقف باحترام كامل على بعد خطوتين من كرسيه على رأس المائدة ، ثم انحنى قبل أن يوجه التحية إليه ، حل صمت مباغت وساد الوجوم جميع الجالسين على المائدة الملكية وهم يتطلعون بترفع إلى هذا الغريب المقتحم ، بينما رفع الملك رأسه ناظراً أمامه وقد تحولت ملامحه إلى الجدية الشديدة فى لحظة واتخذت هيئته من الهيبة والوقار ما جعل واطسون يتلعثم وهو يتشرف بدعوة جلالته إلى الحفل الذى تقيمه سفارة بلاده.
لم يلتفت إليه ولم يرد عليه بكلمة ، وإنما خاطب أحد أصدقاءه من الجالسين بلهجة ملكية آمرة.
- الراجل الخواجة ده باين عليه شارب شوية ، بيحاول يكلمنى مباشرة من غير تقديم ، اصرفه من هنا.
قام الرجل وأشار إلى السفرجية فهرعوا من فورهم إليه ، أمر كبيرهم أن يستدعى مدير النادى فى الحال ، حضر الرجل بعد ثوان وفهم بكلمات موجزة ما حدث ، فتوجه إلى واطسون الذى ظل فى مكانه لا يدرى ماذا يفعل وسحبه بلطف من ذراعه بعيداً إلى حيث كان يجلس ، وهو يوضح له بصوت خافت ، إنه لا يجوز مخاطبة الملك مباشرة مهما بدا الأمر على خلاف ذلك.
فى صباح اليوم التالى توجه رجل من القصر إلى السفارة وطلب مقابلة السفير لأمر عاجل ، استمع السفير إلى رجل القصر وهو يروى له تفاصيل الواقعة .. ، جلالته لا يتسامح أن يقع رجل من السلك الدبلوماسى لابد أن يكون ملماً بأصول البرتوكول فى مثل هذا الخطأ ، وختم كلامه بإعلان رغبة جلالته فى نقل هذا الموظف من مصر.
أطرق السفير الذى تحولت بلاده إلى دولة عظمى منذ فترة وجيزة ، وبدأت فى الاستعداد لوراثة بريطانيا العظمى وفرنسا مجتمعتين ليس فى الشرق فقط وإنما فى العالم أجمع ، ولكن بغير الوجه الاستعمارى المعتمد على القوة العسكرية واحتلال الأرض وبالتالى الدخول فى مواجهة مع الشعوب وإثارة الفتن والصراعات .. ، لقد عكفوا على دراسة ملفات المنطقة واستوعبوا الدروس التى خلفتها الفترة الاستعمارية السائرة الآن نحو نهايتها ، لن يرتكبوا نفس الأخطاء مرة أخرى ، دخول الشركات أفضل من دخول الجيوش ، تدوير اقتصاد الدول على البعد لمصلحتهم وبحيث يصب فى النهاية داخل خزينتهم عبر خطط إستراتيجية طويلة المدى وضعتها عقول نشأت فى الأرض الجديدة ترى العالم وفق مفاهيم حديثة مغايرة لما سبقها ، تحتاج إلى تمهيد وتدابير مُحكمة تتغلغل بنعومة لتُحكم قبضتها بعد ذلك كما تشاء ..
لكن هذا الملك المقامر الأحمق يشغله بهذه التفاهات ، إنه يستطيع أن يحافظ على كرامته الملكية بتقويم سلوكه هو ، إنه الحاكم الوحيد فى العالم الذى يقامر علناً فى النوادى العامة ، ويُحط من قدر نفسه بنفسه ، فلماذا يلوم الناس ويحاسبهم ؟
التقارير تؤكد أنه مصاب بداء الكلبتومانيا ، يسرق ضيوف مائدته ، أرسلت السفارة أحد رجالها المتخصصين فى الشئون الأمنية ليكون ضمن جلسائه فى النادى لبحث هذه المسألة ، أخرج الرجل ولاعته الذهبية ووضعها على المائدة بعد أن أشعل سيجارته ، ثم قال مخاطباً الجميع بمن فيهم الملك ، إن زوجته أهدته هذه الولاعة قبل وفاتها وأنها تمثل لديه ذكرى يعتز بها كثيراً ، فالمصابون بهذا المرض يزداد نهمهم للسرقة إذا كان الشىء يمثل قيمة عاطفية أو معنوية لصاحبه ، لم يلبث الرجل أن تصنع الانشغال باللعب والشراب وعينه المدربة ترقب الملك ، قبل أن تنتهى السهرة بقليل لمح يده وهى تهبط على الولاعة وتُطبق عليها بحركة سريعة لا تقل براعة عن أمهر النشالين.
نظر السفير إلى رجل القصر الجالس أمامه ، بدا مضحكاً بزيه الرسمى وطربوشه ، كأنه ينتمى إلى عصور غابرة تجاوزها الزمن ، ثم قال له.
- بلغ جلالته اعتذارنا العميق عما حدث ، وأننا سننفذ رغبته السامية على الفور.
ثم استطرد كأنه يوجه إلى رجل القصر حديثاً خاصاً يكمل به اعتذاره.
- إن رجالنا من الشبان بسطاء ، يقعون دائماً فى أخطاء البروتوكول عندما يعملون فى الدول الملكية العريقة التى تختلف اختلافاً جذرياً عن بلادنا الحديثة العهد بالنسبة لكم ، ثم أضاف ضاحكاً ، لكن هذا سيتغير يوماً ما ، سنتعلم ولن نقع فى هذه الأخطاء ، أبلغ جلالته بهذا.
استدعى السفير "واطسون" إلى مكتبه بعد مغادرة رجل القصر ، وأمره أن يخبره بتفاصيل ما حدث ليلة أمس ، استمع السفير باهتمام ، ثم قال مؤنباً واطسون.
- كان عليك أن تعلم أنك تتعامل مع حاكم شرقى مستبد قديم الطراز رغماً عن الشكل الديمقراطى الذى يبدو عليه ، كما أنه يولى اهتماماً عظيماً للمظاهر السطحية الفارغة .. ، الآن لابد أن ترحل عن هذا البلد بناءً على رغبته ، لكننى سأبذل قصارى جهدى ليتم نقلك بأقل الأضرار بالنسبة إلى مستقبلك المهنى.
- أشكرك يا سيدى.
رد واطسون ، ثم أضاف آسفاً.
- كنت أود أن أخدم فى هذا البلد لفترة أطول ، فمصر بلد جميل.
- نعم ، إنها تبدو كذلك بالفعل ..!
عندما أبلغوه أن السفارة نفذت أمره ، ابتهج كأنه أحرز انتصاراً وعلق قائلاً.
- آه لازم يشوفوا العين الحمراء ، ويتعلموا كيف يحترمون البروتوكول فى التعامل معنا.
* *
تلقى المستر جون دعوة لزيارة مصر على نفقة الملك شخصياً ، سعد جون بهذه الدعوة واعتبرها خطوة هامة فى طريق نجاحه وجهوده فى نشر التعليم ومحو أمية المجتمعات البدائية ، كان قد قضى سنوات طويلة وهو يعمل فى المناطق الأسيوية النائية بين القرى تحت سفوح الجبال والوديان القاحلة ، عاش حياة شاقة بعيدة عن المدنية فى الخيام والأكواخ وبذل جهوداً مضنية فى تعليم الناس ومحو أميتهم ، بالإضافة إلى نشاطه التبشيرى كرجل دين فى الأساس ، بطبيعة الحال لم يكن المستر جون بعيداً عن رعاية حكومة بلاده ، مما جعل عمله فى النهاية يثمر ويلقى التقدير والإشادة من الصحف والمجلات الأمريكية ، أفردت له الصفحات التى أسهبت فى وصف إنجازه المثير فى تعليم هؤلاء البسطاء الذين يعيشون فى هذه البلاد النائية.
عندما قرأ الملك هذه الأخبار وهو يتصفح المجلات الأجنبية التى تصله بانتظام ، أعجبه ما قرأه عن المستر جون وقرر الاستفادة من خبرته فى مجال محو الأمية ، وهى أحد المشاكل التى تشغل باله ويتمنى أن يجد لها حلاً عاجلاً وفعالاً يقضى بها على هذه الآفة التى يعانى منها أغلبية رعيته.
كان جون بعد السنوات التى قضاها فى الشرق قد كون فكرة عامة عن الحياة فى هذه البلاد البعيدة عن الحضارة والتمدن ، لذلك صُدم عند خروجه من ميناء الإسكندرية وهو يرى من خلال نافذة السيارة ، مدينة حديثة بها شوارع أسفلت ، وميادين أنيقة تزينها التماثيل ، وحدائق منسقة تُطل منها الزهور وشجيرات الزينة ، وعمارات ضخمة ومحلات ومتاجر تمتلئ بالسلع والبضائع ، أما المفاجأة التى لم يصدق عينيه وهو يراها فتلك السيارات الحديثة الطراز التى تسير فى الشوارع.
- إنهم لا يستعملون الدواب هنا !
قال لنفسه وهو يحدق فى وجه الإسكندرية مستغرباً ، ناظراً بتعجب لأهلها وهم يمشون على الأرصفة النظيفة مرتدين ثياباً أوربية الأزياء.
بعد الليلة التى قضاها فى أحد الفنادق المطلة على البحر ، تناول خلالها عشائه فى مطعم الفندق وسط النزلاء ثم خرج ليتمشى فى المدينة ، أخذ جون الذى نشأ فى الريف الأمريكى يراجع أفكاره المسبقة عن الشرق والشرقيين.
كان عليه أن يقابل الملك فى اليوم التالى ، عرف من مستقبليه أنه متحمس لتجربته ويود أن يتحدث معه بشأنها قبل أن يجتمع بمسئولى التعليم فى مصر ليستفيدوا من خبرته.
لم يكن لدى جون سوى كلمتين ينحصر فيهما كل ما لديه ، الإخلاص والصبر ، كان يقضى الساعات وربما الأيام ليعلم الناس حرفاً واحداً من لغتهم قبل أن ينتقل إلى الحرف الذى يليه ، ثم يستمر بدأب ليعلمهم تركيب كلمة ، لا يفقد صبره ولا يداخله الملل ليس فقط من عملية التعليم ولكن من شظف العيش وصعوبته فى هذه المناطق الفقيرة التى مازال أهلها يعيشون فى الخيام ويعتمدون على الرعى والزراعة البسيطة لإنتاج محاصيل تكفى بالكاد لسد رمقهم.
لا شك أنه رجل مخلص ، يؤمن برسالته الإنسانية ، لكن توغله فى هذه البلاد ومعرفته بطبيعة الأرض وتضاريسها ومناخها وعادات سكانها وطرق معيشتهم ومعتقداتهم وأجناسهم وجماعاتهم القبلية ، كان يتحول فى النهاية ، ربما دون أن يدرى ، إلى معلومات تدون فى تقارير يتم دراستها باهتمام لدى إدارات عديدة فى حكومة بلاده !
جلس المستر جون ببذلته القديمة وشعره الأشيب المسرح بعناية تحت قبعته المستديرة السوداء فى المقصورة التى خصصت له بالقطار المتجه إلى القاهرة ، كان يعتقد أن القطار سيقطع به صحراء قاحلة ترعى فيها قطعان الجمال ، لكنه وجد نفسه وسط حقول تمتد على مدى البصر ، مقسمة إلى مساحات منتظمة متباينة الخضرة ، تقطعها القنوات المائية ، لترسم لوحة رائعة من لوحات الطبيعة التى يصنعها الإنسان بالعمل الشاق ، أدرك جون بخبرته كرجل من أصول ريفية أن هذه الأرض تُزرع بنظام بعيد تماماً عن البدائية التى عرفها من قبل فى الشعوب التى تعامل معها ، وتصورها فى هذا الشعب الذى دُعىَ للعمل على محو أميته. كان الملك الذى يعيش حسبما رأى جون ، فى أقصى ما يمكن للإنسان أن يعيش فيه من رفاهية وفخامة ، ودوداً ومرحباً وهو يستقبله فى مكتبه ، واستمع باهتمام وهو يروى له تجربته ، ثم أثنى عليه فى نهاية المقابلة وصافحه متمنياً أن يُوفق فى مهمته مع رجال التعليم الذين سيلتقى بهم.
بدا الأمر محرجاً لجون وهو يجلس فى أول اجتماع له مع الرجال الذين أرغمهم قرار الملك على لقائه ، كان معظمهم قد درس فى جامعات أوربا ويحمل درجات علمية رفيعة ، بينما توقف علمه هو عند حدود المرحلة الإلزامية ولا تزيد خبرته عن خبرة مدرس ابتدائى ، يُتقن تعليم تلاميذه مبادئ القراءة والكتابة ، لكنهم على أية حال استمعوا له بصبر وناقشوه طويلاً خاصة فيما يتعلق بكيفية إثارة اهتمام الأميين وجذبهم للتعليم ، لكن بدا واضحاً أن طبيعة المجتمع الرعوى الذى نجح فى محو أميته تختلف تماماً عن طبيعة المجتمع المصرى وأن أسلوب العمل هنا لابد أن يتم بطرق أخرى ، فمن المستحيل إقناع الفلاح أن يترك حقله هو وأولاده أثناء النهار ليجلسوا فى حلقة دراسية يتعلمون فيها حروف الهجاء !
تابع الملك لبعض الوقت اجتماعات المستر جون ، واستاء من النتائج ملقياً باللوم على رجال وزارة المعارف الذين لم يستطيعوا أن يتعاونوا معه ، ثم لم يلبث أن نسى الموضوع برمته فى خضم انشغالاته ومشاكله التى لا تنتهى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.