أمس وبعد انتظار طال مداه وترك سوق النقد الاجنبي بلا أي ضوابط سوي إجراءات أمنيه لإغلاق شركات الصرافة خرج علينا البنك المركزي بقرار تعويم الجنيه. لقد شهدت الشهور الماضية تدهورا حادا وغير مسبوق في قيمة الجنيه المصري أمام العملات الأجنبيه هدد الاستقرار الاقتصادي والسياسي والأمني وسط غياب كامل للسلطات الاقتصادية وعلي رأسها البنك المركزي وهو الجهة المناط بها إدارة السياسة النقدية في البلاد, هذا الغياب غير المبرر إذ من غير المقبول ولا المعقول أن يصول ويجول الدولار وغيره من العملات الأجنبية في البلاد دون ضابط ولا رادع محدثا تضخما في الاسعار وطردا للاستثمار وحالة من عدم الاستقرار ومناخا اقتصاديا سيئا. ولم يتحرك البنك المركزي رغم أن ما قرره أمس معروفا مسبقا ويعد من الحلول الكلاسيكية الثابتة والمعروفة لدي الجماعة الاقتصادية وليس اختراعا أو عبقرية يوصف بها قرار البنك المركزي الذي ترك الدنيا تغرق ويزيد الامر صعوبة والدولار صعودا ثم تدخل بقرارات كانت لمصر فيها سوابق ناجحة أوائل التسعينيات علي يد أستاذنا الراحل الدكتور عاطف صدقي رئيس وزراء مصر آنذاك. لماذا تأخر البنك المركزي ؟ لا نعرف سببا لذلك إلا اللهم أنه كان واقعا تحت ضغوط لتمرير قرارات معينة وتؤدي إلي كوارث مثل التحفظ علي مدخرات المصريين بالبنوك بالنقد الاجنبي أو شرائها إجباريا بالسعر الرسمي, والبنك المركزي رفضها وأصر علي قراره المعلن اليوم وظل في حالة شد وجذب إلي أن انتصر لرأيه. علي أي حال ما دام القرار قد صدر فإنه وحده لا يكفي ولا يصنع المعجزات, حيث ينبغي أن يحاط بجوانب أخري مكملة حتي يحقق النجاح في تجاوز الأزمة التي نعيشها أول هذه الجوانب هو استعادة الثقة الضائعة في سوق النقد الاجنبي بين حائزي الدولار والبنوك وهذا يتطلب سرعة تفهم البنوك وفروعها أهمية تلبية طلبات الناس لشراء النقد الاجنبي بأي كمية وفورا ودون أي إجراءات وقد يحدث هذا في الأيام القليلة القادمة ولكن من شأن الوفاء بهذه الطلبات بث الثقة والاستقرار للتعامل مع البنوك ومن ثم توفير مناخ عادل لبيع النقد الاجنبي للبنوك. وثاني هذه الجوانب أن قرار البنك المركزي قد سبقه بيوم أو اثنين صدور حزمة إجراءات تتعلق بالاستثمار وتتميز بأنها قرارات وليس توجيهات وبالتالي فمن شأن معاصرة الاثنين معا إعطاء صورة إيجابية لقدرة مصر علي اتخاذ قرارات إصلاحية وفي الوقت قدرتها علي الاعتماد علي الذات دون انتظار قروض أو منح. والجانب الثالث هو مدي تفاعل قطاع الاعمال مع هذا التوجه والمسئولية الآن علي عاتق منظمات رجال الاعمال من ناحية الوقف الطوعي لاستيراد جميع السلع الكمالية وغير الضرورية وعليهم ايضا تشغيل الطاقات العاطلة في الصناعة. ويرتبط الجانب الرابع بما سبق, حيث علي أعضاء هذه المنظمات التوقف عن الممارسات الجائرة في السوق بزيادة الاسعار بغير مبرر خاصة أن السبب الذي كانوا يتسترون وراءه وهو الارتفاع العشوائي للدولار قد زال. ومن المهم خامسا أن تلجأ الدولة إلي تطبيق برنامج متكامل للإصلاح الاقتصادي بجوانبه النقدية وقد تمت أمس وتستكمل بالجوانب المالية والهيكلية الاخري وأن تقوم بجرد شامل لقدراتها وإمكاناتها الاقتصادية وهي كثيرة وتفعيلها. وفي هذا الإطار خامسا علي الدولة أن تلجأ الي قواعد اقتصاد الحرب والتي تعد الأساس الذي بنيت عليه نظرية التخطيط التي ظهرت إبان الحرب العالمية الثانيه والتي تمتد الي اتخاذ إجراءات مهمة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي من بينها تحديد هوامش للربح وكسر الاحتكارات في السلع الاستراتيجية كالقمح والسكر واللحوم والدواجن والاسمنت والحديد. ولما كانت نتائج ما حدث من انفلات اقتصادي بالتحالف بين المضاربين علي الدولار والسلع والمحتكرين قد ألحقت بالغ الضرر بالطبقات محدودة الدخل, فإن الدولة عليها لتحقيق العدالة الاجتماعية بحث السبل والوسائل التي تحقق هذه العدالة بفرض ضرائب علي الدخول المرتفعة والاغنياء والأرباح الاستثنائية وبسط اليد الضريبية علي الدخول المتهربة. إن التصحيح الذي جري بالامس يمنحنا الفرصة للإصلاح إذا توافرت لدينا الإرادة والنوايا.