شهر كامل يفصلنا عن السبت الأول من شهر مايو المقبل. ولكن عليك اذا ما ذهبت الي ميدان عابدين وقتها ان تحاذر من ان تصطدم بالأطفال المتناثرين علي الارض لوضع خطوطهم الطفولية الواثقة التي يسجلون بها مشاهد مختلفة من ميدان التحرير وشعارات سمعوها تتردد في التليفزيون او من علي المسرح القريب الذي وقف عليه كورال الشكاوي مرددا هتافات الثورة بعد تلحينها. في ميدان عابدين القريب جدا من ميدان التحرير اقيمت امس الاول( السبت) الدورة الاولي لمهرجان الفن ميدان الذي اقيم بالتزامن في ميادين ست محافظات( القاهرة والاسكندرية والمنيا واسيوط والسويس وبور سعيد) بمبادرة من ائتلاف الثقافة المستقلة واعتمد تمويل المهرجان الجهود الذاتية لاعضائه من الفرق المسرحية والغنائية والفنانين السينمائيين المستقلين الي جانب الكيانات المستقلة العاملة بمجال الفنون والثقافة. في مدخل ميدان عابدين في المساحة الواسعة المواجهة للقصر ينتشر الفنانون والاطفال من ابناء منطقة عابدين والمناطق القريبة( السيدة زينب والشوارع القريبة من حي الازهر) ليرسموا علي الارض بينما يقف الفنان محمد عبلة امام مساحة من البلاستيك الشفاف المشدودة عرضيا ليرسم المارة المحتشدين في مواجهته والي جواره علي الجانبين ترتص صور فوتوغرافية لتشكل معرضا لتفاصيل واحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير بعدسات الفنانين الذين شاركوا في احداثها. وعلي مسرح صغير استعار فنانو الائتلاف مكوناته من الناشر محمد هاشم الذي اقام بهذه المعدات اذاعة من اذاعات ميدان التحرير وقف رجل في ملابس تقليدية جلباب بلدي وعمامة تلتف حول رأسه ليملي اسمه الي المشرف علي خشبة المسرح طالبا ان يلقي علي الجمهور قصيدة في الوقت الذي احتلت فيه نفس المسرح فرقة شابة تغني رباعيات الشاعر الراحل صلاح جاهين بألحان جديدة. وعلي المسرح الكبير كان فنانو كورال شكاوي القاهرة من الشباب بانتظار انتهاء رفع اذان العصر مستعدين لرفع هتافات الثورة, وفي الساحة بين المسرحين كان فنانو البانتومايم والعرائس يجولون بفنهم بين الجمهور الذي تحلق حولهم من الاطفال الذين ازدانت ايديهم وبعض من ملابسهم بالالوان التي نشروا بها رسومهم وكتاباتهم علي الارض. هذه الحالة الفنية التي امتدت من الرابعة عصر امس الاول السبت وحتي العاشرة والنصف من مساء ذات اليوم بدأت بفكرة من اعضاء رابطة الشباب التقدمي وهم مجموعة من الناشطين السياسيين المنتمين لتيار اليسار الديمقراطي, وهم كما يقول الناشط الثقافي طه عبدالمنعم ل الاهرام المسائي بعضهم من المهندسين والفنانين المعماريين الذين وجدوا في ميدان عابدين ساحة صالحة للاستغلال, فهو يحوي مساحات واسعة تصلح للتجمع وتقديم الانشطة الفنية دون ان يتسبب ذلك في أي ارتباكات مرورية علي الاطلاق, كما انه قريب من ميدان التحرير الذي صار رمزا للثورة والحرية لا في مصر وحدها بل في العالم أجمع, وعندما عرضت الفكرة علي ائتلاف الثقافة المستقلة وافق الفنانون والمبدعون المنتمون للائتلاف علي الفور وبدأ الاعداد للفكرة بالتنسيق بين المجموعتين. في ميدان عابدين اجتمع النشطاء أحمد غربية ومحمد كلفت وغيرهم من اعضاء رابطة الشباب التقدمي يشاهدون العروض ويحاولون المساعدة في التنظيم في الوقت الذي كانت تتنقل فيه كل من بسمة الحسيني( مدير مؤسسة المورد الثقافي في مصر) والمخرجة المسرحية عزة الحسيني بين المسرحين وتوزعان الألوان علي الفنانين والاطفال المشاركين في ورش الرسم بينما انتظم عدد آخر من اعضاء الائتلاف بجانب منضدة تحوي بيانات ائتلاف الثقافة المستقلة وتشكيلات عضويته وبنود اهدافه. المخرجة المسرحية عزة الحسيني تلخص فلسفة المهرجان الذي تعمل الرابطة علي نشره في محافظات أكثر وتقول: اهالي مناطق السيدة زينب او عابدين لن يذهبوا لمشاهدة عروضنا بمسرح الهناجر او بالاوبرا, وهذا لايعني انهم لا يتمتعون بالحق في مشاهدة الفن والاستمتاع به, لهذا كنا نحاول دائما ان نخرج بالفن الي الشارع في مبادرات صغيرة, الا ان القبضة الامنية المحكمة كانت تمنع تواصل الفن مع الناس منعا تاما. وكانت تربية الذائقة وتشكيل الوعي تمثل خطرا علي الدولة, ولكن مع الوقت تأكدنا من ان قوة الدولة كانت تشكل خطرا علي النظام القائم وقتها. وتضيف عزة الحسيني ان المهندس الاستشاري ممدوح حمزة ووزير الثقافة د. عماد ابو غازي اللذين تدخلا لاستخراج التصاريح الخاصة بإقامة الاحتفالية لم يلاقيا صعوبة كبيرة او ممانعة من الاجهزة المختصة, خاصة وان الاحتفالية مقامة بالجهود الذاتية لأعضاء ائتلاف الثقافة المستقلة ولم تكلف الدولة شيئا. بسمة الحسيني التي بادرت الي الدعوة لتجمع الفنانين والكيانات الثقافية المستقلة في الرابع والعشرين من فبراير الماضي هي عضوة في لجنة السياسات في الائتلاف وهي لجنة تهتم( رغم الاسم سيء السمعة) بتقديم مقترحات خاصة بتطوير العمل الثقافي في مصر وايصال الفن للجماهير, بينما تطايرت الكرة التي يلعب بها بعض المراهقين في الميدان وقفت بسمة الحسيني تحاول اقناع احد المنتمين للتيار السلفي الذي وقف يناقشها حول جدوي اقامة مثل هذه الاحتفالات المضيعة للوقت والمال. وبعد انتهاء المناقشة التي امتدت لما يزيد علي نصف الساعة قالت: بالطبع توقعت ان تحدث مناقشة مثل هذه, بل وتوقعنا انا وزملائي بالمبادرة ما هو ابعد ولكن هذا لم يجعلنا نتراجع واردفت مبتسمة: ربنا يستر وتري بسمة الحسيني ان التحرك الثقافي في الشارع من خلال مبادرات كالفن ميدان تضمن ان يتفهم حتي المتشددين اهمية الفنون في تربية وتهذيب المجتمع والارتقاء به, مضيفة ان المثقفين انفسهم يعانون آفة عدم الاستماع الي الآخر المغاير بينما ينادون بالحوار طوال الوقت. ومن هنا تأتي في رأيها أهمية هذه المبادرة المشجعة علي التواصل بين قطاعات ثقافية واجتماعية عدة وتضمن حوارا حقيقيا فاعلا لا يتقيد بالاطر الرسمية الخادعة. وتنهي بسمة الحسيني حديثها بقولها: نحن لا نطلب شيئا من الوزارة, لا نطلب تمويلا او مساعدة لكن فقط نريد من الدولة أن تتركنا وشأننا والا تقف من الآن فصاعدا حائلا بيننا وبين الجمهور.