مئات الآلاف من الخريجين وملايين من العاطلين تجمعهم رحلة بحث تطول أو تقصر عن فرصة عمل تتوافر فيها بعض الشروط كالدخل المناسب والجهد المتوسط وإذا أمكن ترتبط بالمؤهل الدراسي الذي حصل عليه. وبين كل هؤلاء الباحثين الراغبين في أي فرصة تقبع مغطاة بالأتربة فرصة عمل تنتظر من يقتنصها ويحظي بها ولكن طال الانتظار وظلت الفرصة كما هي دون باحث عنها لتتحول إلي فرصة ضائعة لتستمر دوامة البطالة وأعداد العاطلين الذين يزيدون مع كل دفعة جديدة تتخرج من مختلف التخصصات باحثين عن نفس الفرص التي سبقهم إليها آخرون ليكونوا هم اللاحقين. لتبقي أزمة البطالة علي حالها بل تتفاقم في ظل زيادة أعداد الباحثين الذين يلومون الحكومة علي أوضاعهم وينتظرون من المستثمرين ورجال الأعمال تقديم المساعدة, وتبدأ سلسلة من التساؤلات والاتهامات للبحث عن السبب الحقيقي وراء هذا الوضع, هل يخطيء الشباب في عدم قبول أي فرصة متاحة أم أن الحكومة تفشل حتي الآن في إيجاد حل جذري للأزمة؟ أم أن كليهما في قفص الاتهام؟ هل يبحث الشاب عن الراحة بين ثنايا العمل الحكومي أم أن العمل الخاص لا يقدم لهم الضمانات والأجواء المطمئنة الكافية وهل باتت المشروعات الاستثمارية التي توفر فرص عمل عديدة للشباب دربا من الخيال؟ وهل التخصصات الفنية تفتقر فقط للتدريب أم أنها ذات خواص تعجيزية؟ كل هذه التساؤلات وأكثر نطرحها سعيا للوصول إلي أول الطريق نحو الخروج من عنق الزجاجة والأهم من ذلك نرصد ونكشف الكثير من الفرص الضائعة التي لا تجد من الباحثين عن عمل إلا التجاهل والإهمال. 3.530.000 مليون عاطل و28 مليون موظف حكومي من أصل91 مليون نسمة.. هذه الإحصائية التي صرح بها الجهاز المركزي للتعبئة العام في شهر أغسطس الحالي والتي تعطي حالة من عدم الارتياح لدي الشباب خاصة الخريجين والمقبلين علي التخرج منهم وما يزيد الأمر سوءا أن هناك إشباعا وظيفيا في الدولة كما أوضح الخبير الاقتصادي عبدالخالق فاروق أن مصر لا تحتاج سوي لسبعة ملايين موظف أو أقل لتقوم بأداء وظائفها علي أكمل وجه. ولكن إن كانت الدولة لا تحتاج إلا لهذا الجزء الصغير من الموظفين فما مصير الخريجين والعاطلين عن العمل من الشباب الذين قاربت أطرافهم أن تصدأ من قلة الحركة, الأمر الذي يفسره تصريح الإدارة المركزية للمشروعات وتدريب الشباب بأن نسب الخريجين أكثر من نسب الفنيين والحرفيين الذين تحتاجهم سوق العمل بشكل أكبر بل تبحث عنهم, بالإضافة إلي وجود فكرة المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر التي تمولها برامج الحكومة المختلفة مثل برنامج مشروعك والبروتوكلات التي فعلتها الحكومة مع أكثر من بنك لتمويل تلك المشاريع. لذلك يمكن التأكيد علي وجود وظائف أخري ليست حكومية لكن تظل مصدرا للرزق والكسب الحلال خاصة أنها فرص متوافرة بصورة أكبر من الوظائف الحكومية كما صرح الصندوق الاجتماعي للتنمية في الحادي عشر من شهر أغسطس الحالي بأنه سيوفر40 مليون جنيه سيخصص منها30 مليون جنيه لتمويل1000 مشروع صغير يتيح6.800 فرصة عمل, وال10 ملايين الباقية سيتم تخصيصهم لتمويل6.500 مشروع متناهي الصغر يوفر16.000 فرصة عمل. وفي هذا الإطار يري وليد جمال الدين- رئيس لجنة المشروعات الصغيرة والمتوسطة- أن الشباب لا يقبل علي المشروعات الصغيرة ولا تدخل في حيز اهتماماته رغم احتياجه لفرص عمل بسبب اعتقاد سائد ومتأصل لدي الشباب فالشاب المصري يبحث عن المضمون ولا يغامر وهذا السبب هو جذر سرطان البطالة التي تأبي محاولات استئصاله أن تنجح فالجميع يريد أن تأتيه الفرصة زاحفة علي الأقدام بدون كد أ وتعب علي حد وصفه. ويتفق معه الكيميائي عماد حمدي- رئيس النقابة العامة للعاملين بالصناعات الكيماوية وعضو مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات الكيماوية- حيث يري أن الشباب لا يدركون أهمية المشروعات الصغيرة وينظرون إليها كآخر اختيار, مشيرا إلي أن البعض يعتبرها بمثابة آخر أمل للمريض. ويضيف أن السبب الرئيسي في ذلك هو ضعف الترويج لثقافة تحترم العمل الحر وتشجع المشروعات الصغيرة لكن الموروث المصري لا يري أمام عينيه سوي شعار واحد إن جالك الميري اتمرمغ في ترابه, فيؤكدون الاعتقاد السائد بأن الوظيفة الحكومية هي العباءة المضمونة للحياة الآمنة, موضحا أنه بدون الترويج الصحيح لفكرة المشروعات مع دعمها بنماذج نجحت في هذا المجال سيكون آخر الطريق سد وسيبقي الفشل سيد الموقف. ويري حمدي أنه من المفترض اتباع فكر جديد في مجال المشروعات الصغيرة فالصين مثلا تقوم بإنشاء مصنع كبير يحتاج إلي قطع غيار بسيطة وحوله يتم إنشاء مشروعات صغيرة تخدم المصنع وتقدم له المنتج بأرخص الأسعار, لذا يجب جذب الشباب لسوق العمل بتوفير التسويق المناسب والتدريب الذي يساعد علي تأهيل الشباب للتعامل مع سوق العمل. ومن بين كل هذه الحقائق تتجلي لدينا فرصة ضائعة آخري تم وصمها بالعار بشكل مخز وغير مبرر ألا وهي الحرف الفنية والزراعية حيث باتت من المهن المهملة التي لا تحظي بالعمالة الكافية أو كما يري الدكتور أحمد يحيي- أستاذ علم الاجتماع السياسي أنها دخلت هي الأخري في إطار الموروثات الثقافية التي صدرت فكرة أن العمل اليدوي أو الحرفة اليدوية أقل من العمل الحكومي في كل شئ لدرجة وصف العامل بها بالأسطي أو الصنايعي وكأنها تحوي بين طياتها نوعا من الإهانة الاجتماعية, ويتهم الاستعمار كسبب مباشر في خلق تلك الموروثات الخاطئة منذ صنع دولة يستعبد فيها الطرابيش أصحاب العمائم والجلابيب والأيدي الخشنة. وتختلف معها الدكتورة سامية خضير- أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس- حيث تري أن الحكومة قدمت العديد من العروض الخاصة بمشروعات صغيرة لكن لا تلقي القبول من جانب الشباب الذين يطبقون نظام الأيدي الناعمة حيث يرفض بعضهم بذل مجهود يدوي مرهق ومسبب للتعب, وتوضح أنه لا يوجد في مصر بطالة بقدر ما نعاني من قصور في الفكر والثقافة لدي الشباب والمجتمع فكل من تخرج وأنهي دراسته يجب أن يحصل علي دورات تدريبية تؤهله لدخول سوق العمل ولابد من أن يكون ذلك شرطا لأي عمل ليكونوا مؤهلين ولكن الشاب يريد أن يجد الوظيفة الإدارية المريحة بدون تعب وتقوم بشكل أساسي علي العمل المكتبي وحتي إن اجتهد في البداية لازم هيريح في الاخر علي حد وصفها. وتشير خضير إلي أن المشروعات الصغيرة كثيرة ومتوافرة بشكل كبير ويوفرها المستثمرون وصناديق التنمية الاجتماعية لكن لمن يريد ويسعي إليها. ويضيف المهندس خالد الفقي رئيس النقابة العامة للصناعات الهندسية وعض ومجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية أن التدريب المؤهل لسوق العمل أكثر من يحتاجه هو الخريجون مشيرا إلي أن وزارة القوي العاملة أقامت مراكز تدريب علي مستوي الجمهورية بغرض التأهيل للمهن الحرفية أو إدارة المشروعات الصغيرة. ويوضح أن الدولة توفر فرص عمل ولكن المشكلة أنها لا تكون علي هوي الباحثين عن فرص عمل لأنهم يطمحون لأعمال ووظائف ذات شروط معينة حتي لو لم يعلنوا عنها بشكل واضح ولكن هناك من يسعي للراحة والتأمين وهو لا يقارن بمن يسعي للاجتهاد وزيادة الإنتاجية. والجدير بالذكر أن الإدارة المركزية للمشروعات وتدريب الشباب قامت بإعداد مؤتمر لإطلاق قدرات شباب مصر في مجال التدريب وريادة الأعمال باستخدام تكنولوجيا المعلومات تحت شعار مشاركة.. تمكين.. ابتكار والذي بدأ في يناير2016 بالإضافة لتنظيم ملتقيات توظيف كبري في محافظات مصر يتم خلالها عرض فرص عمل عن طريق مشاركة50-100 شركة, كما أن وزارة الشباب والرياضة لديها44 مركزا للتدريب المهني منها33 مركز ثابتا والباقي متحرك, وهي فرص ضائعة يمكن لمسئولي الدولة تفنيدها للشباب الباحثين عن فرصة عمل لذلك توجهنا بالسؤال إلي مجموعة من الشباب لمعرفة من أين يأتي القصور وكيف يمكن حل الأزمة؟ يقول يحيي أحمد محمد وهو( عاطل) ويبلغ من العمر38 عاما أنه ليس عاطلا بالمعني المتعارف عليه لأنه لديه حرفة يجيدها بشكل كبير ويعتمد عليها كمصدر رزق ولكنه عاطل بمفهوم الوظيفة الحكومية, ويشير إلي أنه يقوم بأعمال بالقطعة وسبق له العمل بإحدي الشركات الهندسية ولكن بعد انتهاء تعاقده معها عاد للعمل الحر من جديد. ويضيف قائلا: العمل الحر حل وبس مش بيأكل عيش ومش مضمون وبتفضل كإنك عاطل, مشيرا إلي أنه يبحث عن فرصة عمل حقيقية وإذا وجدها لن يتركها. ويتفق معه حسين محمد ويبلغ من العمر48 عاما ويعمل( كهربائي) موضحا أنه لا يملك رأس مال سوي محل والده الذي تركه له ولا يحتاج سوي لتمويل بسيط من أجل تحديث المحل لكي يواكب سوق العمل مؤكدا أنه يعشق حرفته ولا ينوي تركها رغم توالي عروض شراء محله من جيرانه إلا أنه قابل الأمر بالرفض الشديد. ويوضح أن الفرصة لو توافرت أمامه أيا كانت لن يتركها تضيع أبدا, ويصف بعض الشباب الباحثين عن فرص عمل مريحة علي حد وصفه بأنهم ناس مش تمام مستطردا حديثه في حد يرفص النعمة! ويقول أيمن سالم- طالب بكلية الآداب جامعة بورسعيد- ويبلغ من العمر23 عاما ولايزال يبحث عن فرصة عمل انه لا يفضل العمل الخاص أو الحكومي مشيرا إلي أن الوضع لا يحتمل المقارنة بينهما ففي النهاية الحصول علي فرصة عمل هو الأفضل بالتأكيد المهم اشتغل علي حد قوله. ويري أن الوظائف الحكومية ليست متاحة علي الساحة لذا يتجه نحو الحرف والعمل الخاص معللا ذلك بأن اللي دخله ضعيف لازم يتعب. وينتقد عبدالعال أحمد- ليسانس حقوق جامعة أسيوط ويبلغ من العمر22 عاما- فكرة البحث عن وظيفة حكومية مشيرا إلي أنه هو نفسه لا يحبذها مع أنه حاصل علي تقدير عام جيد جدا ولا يري عيبا في العمل بحرفة أو خلافه من الصناعات اليدوية قائلا أي شغلانة حتي لو حرفة أهون بكتير من القعدة في البيت ولا علي القهوة. لينهي حديثه بنبرة حزينة قائلا الشباب تعبان فعلا لأن مفيش أصعب من نظرة الحسرة في عيون الأهل للابن العاطل. ومثالا حيا للمشروعات الخاصة الناجحة أقام مصطفي الجزار- صاحب سوبر ماركت ويبلغ من العمر35 عاما- مشروعه بنفسه وبذل أقصي ما في وسعه لإتمامه رغم أن مؤهله أقل من المتوسط لكن هذا لم يكن عائقا له علي حد روايته. ويضيف أنه يبحث عن مزيد من التطوير لنفسه ولعمله عن طريق طلب المساعدة والتمويل من صندوق التنمية الاجتماعية لكي يتمكن من توسعة مشروعه, لينهي حديثه بابتسامة واثقة العمل عبادة وأنا لازم أفضل اشتغل. وفي هذا الإطار توضح إحصائية صندوق التنمية الاجتماعية لعام2015 عدد المشروعات الصغيرة حيث بلغت207.632 مشروعا بتكلفة4.488.200.000 جنيه, والمشروعات التي تخص الشباب حتي سن الثلاثين منهم ارتفع عددها ليصل في نهاية عام2015 إلي50.242 مشروعا بتكلفة638.900.000 جنيه. وبذلك يبد والتضارب واضحا فالبعض يري الأزمة كبيرة وتتسبب في معاناة الملايين والبعض الآخر يراها نسبية يشعر بها فقط من لا يسعي وراء العمل ويخلق لنفسه المجال ويفسح لنفسه الطريق باحثا عن أي فرصة, والتي ستأتي حتما وسيكون للمجتهد والساعي نصيب منها. وفي المقابل لا يمكن إلقاء كل العبء والمسئولية علي الشباب فالدولة أيضا وإن قامت بتوفير برامج التأهيل والتدريب وفي أحيان كثيرة التمويل ولكنها مازالت تفتقر إلي الطريقة المثلي للتسويق والجذب والإعلان عن كل الفرص المتاحة لديها واستغلال طاقات شباب الخريجين في المجالات الفنية وغيرها والترويج لكل هذا بالإضافة إلي الترويج لنماذج مشروعات ناجحة قام بها بعض الشباب بعيدا عن الصورة النمطية المعتادة للوظيفة والتي تقوم في المقام الأول علي مهارات الشباب حتي لا تظل المشكلة دائرة في حلقة مفرغة دون وصول لحل يرضي ويفيد جميع الأطراف.