شهدت الأيام الأخيرة تكثيفا لافتا من قبل القنوات الفضائية في عرض مقطع من أحد أحاديث الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي يتحدث فيه من وجهة نظره عن الثائر الحق. ويقول إن آفة الثائر أن يظل ثائرا, وإنه من المفترض أن يثور ليقضي علي الفساد ثم يهدأ ليبني الأمجاد. المقطع جزء من حديث لم تكلف أي قناة نفسها عناء عرضه كاملا أو ذكر تاريخه ومناسبته وملابساته, أي أن سياقه العام مجهول.. كما أن عليه شعار الفضائية الأردنية, ومن الواضح أن له مناسبة محددة, إلا أن القنوات المصرية بما ورثته من إعلام العهد البائد لا تؤمن بحق المصريين في أن يعرفوا, وتركز فقط علي ما تريد توصيله من رسائل. علي كل حال الرسالة واضحة, وفهمها المصريون الثوار وغيرهم علي الفور, وتجاهلوها علي الفور أيضا.. فهم المصريون أن المطلوب هو أن يهدأوا, ويكفوا عن جميع مظاهر الاحتجاج ويبدأوا في بناء الأمجاد كما قال الشعراوي, لكنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا لأنهم في عهدهم الجديد يتطلعون إلي مستقبل يضعون أسسه بأيديهم, ولا يعتمدون في بنائه علي نظريات عفا عليها الزمن, وتخفي مقاصدها الحقيقية وراء جماليات السجع ومهارة الأداء. وحتي الذين يمتد معهم مفعول الشعراوي إلي الآن فسيقولون إن الشرط الذي حدده للهدوء وبناء الأمجاد لم يتحقق بعد, فلم يتم بعد القضاء علي الفساد, ولا اقصد الفساد المالي فقط, بل السياسي والاجتماعي أيضا.. ولا تعني مصادرة أموال بعض المسئولين السابقين والتحقيق معهم, أو حتي وضعهم في السجن, أن مهمة الثائر انتهت فمازال أباطرة النظام المخلوع وأبرز عقوله وأياديه الطولي أحرارا يديرون معركة العودة أو التلون بهدف الاستمرار.. مازال صفوت الشريف وفتحي سرور ومفيد شهاب وزكريا عزمي وغيرهم بعيدين عن المساءلة والمحاسبة علي ما اقترفوه من تدمير للحياة السياسية وتغييب متعمد وتخريب منظم للعقل الجمعي المصري علي مدي ثلاثة عقود, مازال المحافظون الذين قمع وقتل المتظاهرون تحت أسماعهم وأبصارهم باقين في مواقعهم, مازالت المجالس المحلية وهي أصل الفساد ومادته الخام علي حالها, ومازالت الجهات الأمنية السيادية تعمل بنفس منطق النظام المخلوع وبنفس المسئولين الذين عينهم. آفة الثائر ليست أن يظل ثائرا, كما قال الشعراوي, ولكن آفته تكمن في الثائر المضاد الذي يسعي لسلبه ما حقق, وسرقة انتصاره, وهدم ما توصل إليه... ليست المشكلة أن يستمر الثائر في ثورته, خاصة إذا كانت سلمية بيضاء, ولكن المشكلة الحقيقية تكمن وراء سيناريوهات الثورة المضادة التي حيكت بإحكام, ويسعي أصحابها لتنفيذها بإصرار.. سيناريوهات بدأت في وسائل الاعلام بفزاعة الإخوان وبإعلانات فجة مضحكة علي طريقة الدواء فيه سم قاتل تقول هناك عناصر تحمل كرات من اللهب تقترب من الميدان, واستمرت مع إخراج المجرمين والمساجين من السجون وحجز الأقسام, وإطلاق البلطجية كالكلاب علي الناس, وإشاعة الرعب بين المواطنين عن طريق إطلاق شائعات اقتحام البيوت لاختطاف الأطفال واغتصاب النساء. ولم ييأس الثوار المضادون رغم سقوط كل تلك الفزاعات, وانتقلوا إلي الاحتجاجات الفئوية المنظمة التي انطلقت في جميع أنحاء البلاد في نفس الوقت لارباك القائمين علي أمور الدولة وتعطيل دوران عجلة العمل, ثم لجأوا إلي الفزاعة الأخطر والأكثر إحراقا: الفتنة الطائفية, والهدف في كل الأحوال واحد, وهو أن يشتري المصريون الأمن بالحرية, ويقولوا إن نار المخلوع ولاجنة الثورة. لا أحد بطبيعة الحال ضد الهدوء, ولايوجد مصري واحد مخلص لا يريد بناء الأمجاد, لكن ذلك لايجب ولا يمكن أن يتم إلا بعد اكتمال بناء الثورة, ووضع آخر لبناتها, وتحقيق كل مطالبها وأهدافها.. ولا يوجد ما يمنع أبدا أن يتجمع المصريون في يوم عطلة رسمية مثل الجمعة للتعبير عن مطالبهم والتأكيد عليها وتسجيل اعتراضهم علي ما يرونه يعوق بناء الوطن الذي يحلمون به, بعيدا عن الاحتجاجات الفئوية المرتبة المشبوهة.. أما دراويش الشعراوي فأقول لهم: من كان يعبد الشعراوي فإن الشعراوي قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.